تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 272 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 272  {ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلـٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ فَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ * إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ * وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ فِى ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَة وَلاّجْرُ ٱلاٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَـٰلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَٰخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِى ٱلْسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
.قوله تعالى:
{ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي ـ على أصح الفسيرات ـ ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ}، وقوله: {وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍسَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ}. والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد. لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة. ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم أدخلوا الجنة ـ أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله: {ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ}، وقوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَـٰلِمِىۤ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ـ إلى قوله ـ {وَسَآءَتْ مَصِير}، وقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ}، وقوله: {تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ} قرأهما عامة القراء غير حمزة «تتوفاهم» بتاءين فوقيتين. وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء في الموضعين.
تنبيه
أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله: {تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ} وأسنده في «السجدة» لملك الموت في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ}، وأسنده في «الزمر» إلى نفسه جل وعلا في قوله: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاٌّنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَ}. وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة «السجدة»: أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة. فإسناده التوفي لنفسه، لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلا}، وأسنده لملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعواناً من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت، كما قاله بعض العلماء. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه بعث في كل أمة رسولاً بعبادة الله وحده، واجتناب عبادة ما سواه.
وهذا هو معنى «لا إلٰه إلا الله»، لأنها مركبة من نفي وإثبات، فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، وإثباتها هو إفراده جل وعلا بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم صلوات الله وسلامه.
وأوضح هذا المعنى كثيراً في القرآن عن طريق العموم والخصوص. فمن النصوص الدالة عليه مع عمومها قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ}، وقوله: {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ}، ونحو ذلك من الآيات.
ومن النصوص الدالة عليه مع الخصوص في أفراد الأنبياء وأممهم قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}، وقوله تعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}، وقوله تعالى: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}، وقوله: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت. ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه. كما بينه تعالى بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ}، وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد، ومنهم شقي. فالسعيد منهم يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل، والشقي منهم يسبق عليه الكتاب فيكذب الرسل، ويكفر بما جاؤوا به. فالدعوة إلى دين الحق عامة، والتوفيق للهدى خاص. كما قال تعالى: {وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. فقوله: {فَمِنْهُمْ} أي من الأمم المذكورة في قوله: {فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُول}، وقوله: {مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ} أي وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل. والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف. أي فمنهم من هداه الله. على حد قوله في الخلاصة: والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب
* بفعل أو صف كمن نرجو يهب *
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ} أي وجبت عليه ولزمته. لما سبق في علم الله من أنه يصير إلى الشقاوة. والمراد بالضلالة: الذهاب عن طريق الإسلام إلى الكفر.
وقد بين تعالى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ}، وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ}،وقوله: {فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ}، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية: أن حرص النَّبي صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ}، وقوله: {وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقوله: {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وقوله: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمر: {فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} بضم الياء وفتح الدال. من «يُهدَى» مبيناً للمفعول. وقوله: {مِنْ} نائب الفاعل. والمعنى: أن من أضله الله لا يهدى، أي لا هادي له.
وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، من «يَهدِي» مبنياً للفاعل. وقوله:
{مِنْ} مفعول به ليهدي، والفاعل ضمير عائد إلى الله تعالى. والمعنى: أن من أضله الله لا يهديه الله. وهي على هذه القراءة فيمن سبقت لهم الشقاوة في علم الله. لأن غيرهم قد يكون ضالاً ثم يهديه الله كما هو معروف. وقال بعض العلماء: لا يهدي من يضل ما دام في إضلاله له. فإن رفع الله عنه الضلالة وهداه فلا مانع من هداه. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار حلفوا جهد أيمانهم ـ أي اجتهدوا في الحلف ـ وغلظوا الأيمان على أن الله لا يبعث من يموت. وكذبهم الله جل وعلا في ذلك بقوله: {بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّ}، وكرر في آيات كثيرة هذا المعنى المذكور هنا من إنكارهم للبعث وتكذيبه لهم في ذلك، كقوله: {زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ}، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ}، وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وقوله: {بَلَىٰ} نفي لنفيهم البعث كما قدمنا. وقوله: {وَعْدا} مصدر مؤكد لما دلت عليه «بلى». لأن «بلى» تدل على نفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. ونفي هذا النفي إثبات، معناه: لتبعثن. وهذا البعث المدلول على إثباته بلفظة «بلى» فيه معنى وعد الله بأنه سيكون. فقوله: {وَعْدا} مؤكد له.
وقوله: {حَقّ} مصدر أيضاً. أي وعد الله بذلك وعداً، وحقه حقاً، وهو مؤكد أيضاً لما دلت «بلى». واللام في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}، وفي قوله: {وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا}، تتعلق بقوله: «بلى» أي يبعثهم ليبين لهم.. إلخ. والضمير في قوله: {لَهُمْ} عائد إلى من يموت. لأنه شامل للمؤمنين والكافرين.
وقال بعض العلماء: اللام في الموضعين تتعلق بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُول}. أي بعثناه ليبين لهم.. إلخ والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء «كن» فيكون بلا تأخير. وذلك أن الكفار لما {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ}، ورد الله عليهم كذبهم بقوله: {بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّ} بين أنه قادر على كل شيء، وأنه كلما قال لشيء «كن» كان.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الرد على من قال {مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ}: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله: «كن» بل إذا قال للشيء «كن» مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر ـ في قوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ}، ونظيره قوله: {وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، وقال: {مَّا خَلْقُكُمْ ولابَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَٰحِدَةٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وعبر تعالى عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء. لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل. فلا تنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم. لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء، وأنه يقول له كن فيكون ـ كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه. أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع، كتسمية العصير خمراً في قوله: {إِنِّىۤ أَرَانِىۤ أَعْصِرُ خَمْراً} ـ نظراً إلى ما يؤول إليه في ثاني حال. وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي «فيكون» بفتح النون منصوباً بالعطف على قوله: أن نقول. وقيل: منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون. ولقد أجاد من قال: إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قولة فيكون

واللام في قوله: «لشيء» وقوله: «له» للتبليغ. قاله أبو حيان. قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لم يرسل قبله صلى الله عليه وسلم من الرسل إلا رجالاً، أي لا ملائكة. وذلك أن الكفار استغربوا جداً بعث الله رسلاً من البشر، وقالوا: الله أعظم من أن يرسل بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فلو كان مرسلاً أحداً حقاً لأرسل ملائكة كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ}، وقوله: {بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ}، وقوله: {وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلاٌّسْوَاقِ}، وقوله: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا}، وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ}، وقوله {أَبَشَراً مِّنَّا وَٰحِداً نَّتَّبِعُهُ}، وقوله: {فَقَالَ ٱلْمَلَؤُا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لاّنزَلَ مَلَـٰئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِىۤ ءَابَآئِنَا ٱلاٌّوَّلِينَ}، وقوله: {وَقَالَ ٱلْمَلأ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلاٌّخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ فِى ٱلْحَيـوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَوَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـٰسِرُونَ}، وقوله: {قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين الله جل وعلا في آيات كثيرة: أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلاً من البشر، وهم رجال يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون، ونحو ذلك من صفات البشر. كقوله
هنا: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ}، وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلاٌّسْوَاقِ}، وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}، وقوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ جمهور القراء هذا الحرف «يوحى إليهم» بالياء المثناة التحتية، وفتح الحاء مبنياً للمفعول. وقرأه حفص عن عاصم «نوحي إليهم» بالنون وكسر الحاء مبيناً للفاعل. وكذلك قوله في آخر سورة يوسف «إلا رجالاً يوحى إليهم من أهل القرى». وأول الأنبياء «إلا رجالاً يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر..» الآية. كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضاً وأما الثانية في سورة الأنبياء وهي قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ}.
فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضاً. وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلاً. كما قال تعالى: {ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ}، وقال: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلا}. لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل، والرسل ترسل إلى الناس. والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس، وهو الذي حصر الله فيه الرسل في الرجال من الناس. فلا ينافي إرسال الملائكة للرُّسل بالوحي، ولقبض الأرواح، وتستخير الرِّياح والسَّحاب، وكتب أعمال بني آدم، وغير ذلك. كما قال تعالى: {فَٱلْمُدَبِّرَٰتِ أَمْر}.
تنبيه
يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط. لقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَال}. ويفهم من قوله: {فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ} ـ أن من جهل الحكم: يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به. والمراد بأهل الذكر في الآية: أهل الكتاب، وهذه الأمة أيضاً يصدق عليها أنها أهل الذكر. لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ}. إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب. والباء في قوله {بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ} قيل: تتعلق بـ «ما أرسلنا» داخلاً تحت حكم الاستثناء مع «رجالاً» أي وما أرسلنا إلاّ رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلاّ زيداً بالسوط. لأن أصله ضربت زيداً بالسوط. وقيل: تتعلق بقوله «رجالاً» صفة له، أي رجالاً متلبسين بالبينات. وقيل: تتعلق بـ«أرسلنا» مضمراً دل عليه ما قبله. كأنه قيل: بم أرسلوا؟ قيل: بالبينات. وقيل: تتعلق بـ«نوحي» أي نوحي إليهم بالبينات. قاله صاحب الكشاف. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. المراد بالذكر في هذه الآية: القرآن. كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ}.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم:
إحداهما ـ أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ونحو ذلك. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضاً. كقوله: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ}، وقوله {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ}.
الحكمة الثانية ـ هي التفكر في آياته والاتعاظ بها. كما قال هنا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضاً. كقوله: {كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ ءَايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلاٌّلْبَـٰبِ}، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِير}، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَان أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ}، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}.
أنكر الله جل وعلا على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم، وبطشه الشديد، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض، ويهلكهم بأنواع العذاب. والخسف: بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. كما فعل الله بقارون، قال الله تعالى فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلاٌّرْضَ}. وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاٌّرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى ٱلسَّمَآءِ}، وقوله: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيل} وقوله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} وقد قدمنا طرفاً من هذه في أول «سورة الأعراف».
واختلف العلماء في إعراب «السيئات» في هذه الآية الكريمة. فقال بعض العلماء: نعت لمصدر محذوف. أي مكروا المكرات السيئات، أي القبيحات قبحاً شديداً. كما ذكر الله عنهم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}. وقال بعض العلماء: مفعول به لـ «مكرواً» على تضمين «مكروا» معنى فعلوا. وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي. وقيل: مفعول به لـ«أمن» أي أكمن الماكرون السيئات: أي العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم. ذكر الوجه الأول الزمخشري، والأخيرين ابن عطية. وذكر الجميع أبو حيان في «البحر المحيط».
تنبيه
كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أوفاؤه. كقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْح}، {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، {أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} الخ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية: أحدهما ـ أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه. كقولك مثلاً: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحاً؟ٰ أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم؟ٰ ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم؟ٰ وهكذا ـ وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: وحذف متبوع بدا هنا استبح وعَطفك الفعل عَلى الفعل يصح

ومحل الشّاهد في الشطر الأول دون الثاني.
الوجه الثاني ـ أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها. إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو، وهي متأخرة عنهما في المعنى، وإنما تقدمت لفظاً عن محلها معنى لأن الاستفهام له صدر الكلام.
فبهذا تعلم: أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله: {أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ} ـ الوجهين المذكورين. فعلى الأول ـ فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب؟ أفأمن الذين مكروا السيئات الخ. وعلى الثاني ـ فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات. فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام. والأول هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن} . تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في «سورة الرعد». قوله تعالى: {وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ}.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلهاً آخر معه، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد، ثم أمرهم أن يرهبوه أي يخافون وحده. لأنه هو الذي بيده الضر والنفع، لا نافع ولا ضار سواه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌوَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، وقوله: {ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ} وقوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا}، وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُوراً}.
وبين جل وعلا في مواضع أخر: استحالة تعدد الآلهة عقلاً. كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَ}، وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقوله: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيل}. والآيات بعبادته وحده كثيرة جداً، فلا نطيل بها الكلام. وقدم المفعول في قوله: {فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ} للدلالة على الحصر. وقد تقرر في الأصول في مبحث «مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر» ـ «أن تقديم المعمول من صيغ الحصر» أي خافون وحدي ولا تخافوا سواي. وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه جل وعلا في «مواضع أخر. كقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ}»، وقوله: {ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالـٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ}. وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ}، وقوله: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبً}. الدين هنا: الطاعة. ومنه سميت أوامر الله ونواهيه ديناً. كقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ}، وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِين}، وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.
والمراد بالدين في الآيات: طاعة الله بامتثال جميع الأوامر، واجتناب جميع النواهي. ومن الدين بمعنى الطاعة: قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
وأياماً لنا غراً كراما عصينا الملك فيها أن ندينا

أي عصيناه وامتنعنا أن ندين له. أي نطيعه. وقوله {وَاصِبً} أي دائماً. أي له جلَّ وعلا: الطاعة والذل والخضوع دائماً. لأنه لا يضعف سلطانه، ولا يعزل عن سلطانه، ولا يموت ولا يغلب، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا. فإن الواحد منهم يكون مطاعاً له السلطنة والحكم، والناس يخافونه ويطعمون فيما عنده برهة من الزمن، ثم يعزل أو يموت، أو يذل بعد عز، ويتضع بعد رفعة. فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد. فسبحان من لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيراً.
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع أخر. كقوله: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}، وقوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} لأنها ترفع أقواماً كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا، وتخفض أقواماً كانوا ملوكاً في الدنيا، لهم المكانة الرفيعة ـ وقوله: {لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ}.
ونظير هذه الآية المذكورة قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي دائم. وقيل: عذاب «وجمع مؤلم» والعرب تطلق الوصب على المرض، وتطلق الوصوب على الدوام. وروي عن ابن عباس أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبً} قال له: الوصب الدائم، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي: وله الدين واصباً وله الملـ ك وحمد له على كل حال

ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوماً بذم الدهر أجمع واصباً

وممن قال بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم: ابن عباس ومجاهد، وعكرمة وميمون بن مهران، والسدي وقتادة، والحسن والضحاك، وغيرهم. وروي عن ابن عباس أيضاً واصباً: أي واجباً. وعن مجاهد أيضاً: واصباً: أي خالصاً. وعلى قول مجاهد هذا، فالخبر بمعنى الإنشاء. أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً، وأخلصوا لي الطاعة ـ وعليه فالآية كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، وقوله: {أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ}، وقوله: {وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}، وقوله: «واصباً» حال عمل فيه الظرف. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ}. أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره، لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله. لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك.
وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله، لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع، ويخشى منه الضر، ولذلك أتبع قوله: {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ} بقوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ}. ومعنى تجأرون: ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد. ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا

وقول الأعشى: يراوح من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

ومنه قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَلاَ تَجْأرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ}، وقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقوله: {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}، وقوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا}، وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـٰشِفَـٰتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـٰتُ رَحْمَتِهِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللَّهمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ». وفي حديث ابن عباس المشهور: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين. فإذا كشف عنهم الضر، وأزال عنهم الشدة: إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي. وقد كرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن. كقوله في «يونس»: {حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} إلى قوله {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ}، وقوله «في الإسراء» {وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُوراً}، وقوله في آخر «العنكبوت»: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، وقوله في «الأنعام»: {قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا هذا في «سورة الأنعام» في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ}. قوله تعالى: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. صيغة الأمر في قوله {فَتَمَتَّعُوا} للتهديد. وقد تقرر في «فن المعاني، في مبحث الإنشاء»، وفي «فن الأصول، في مبحث الأمر»: أن من المعاني التي تأتي لها صيغة إفعل التهديد. كقوله هنا: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وتشهد لهذا المعنى آيات أخر. كقوله. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ}، وقوله: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ}، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاٌّمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ} وقوله: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ}، وقوله: {فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.