سورة النحل | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 272 من المصحف
43- "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم" قرأ حفص عن عاصم "نوحي" بالنون، وقرأ الباقون "يوحى" بالياء التحتية، وهذه الآية رد على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجل من أن يرسل رسولاً من البشر، فرد الله عليهم بأن هذه عادته وسنته أن لا يرسل إلا رجالاً من البشر يوحي إليهم. وزعم أبو علي الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلا من هو على صورة الرجال من الملائكة. ويرد عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة، ولما كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" أي فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب أن كنتم لا تعلمون فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه، وقيل المعنى: فاسألوا أهل القرآن.
و 44- "بالبينات والزبر" يتعلق بأرسلنا، فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع رجالاً، وأنكر الفراء ذلك. وقال: إن صفة ما قبل إلا لا تتأخر إلى ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، كما لو قيل أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً، وقيل يتعلق بمحذوف دل عليه المذكور: أي أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء زائدة: أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر، وقيل متعلق برجالاً: أي رجالاً متلبسين بالبينات والزبر، وقيل بنوحي: أي نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدم. وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب. وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران. "وأنزلنا إليك الذكر" أي القرآن، ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال فقال: "لتبين للناس" جميعاً "ما نزل إليهم" في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد "ولعلهم يتفكرون" أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا.
45- "أفأمن الذين مكروا السيئات" يحتمل أن تكون السيئات صفة مصدر محذوف: أي مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل: أي عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدر: أي أفأمن الماكرون العقوبات السيئات، أو على حذف حرف الجر:أي مكروا بالسيئات "أن يخسف الله بهم الأرض" هو مفعول أمن، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، ومكر السيئات: سعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله "أن يخسف الله بهم" كما خسف بقارون، يقال خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً: أي غاب به فيها، ومنه قوله: "فخسفنا به وبداره الأرض" وخسف هو في الأرض وخسف به "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون" به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم، وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم.
46- "أو يأخذهم في تقلبهم" ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل المراد في أسفارهم ومتاجرهم فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، والقلب بالمعنى الأول مأخوذ من قوله: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله: "وقلبوا لك الأمور" "فما هم بمعجزين" أي بفائتين ولا ممتنعين.
47- "أو يأخذهم على تخوف" أي حال تخوف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون"، وقيل معنى "على تخوف" على تنقص. قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم. قال الواحدي: قال عامة المفسرين: على تخوف قال تنقص: إما بقتل أو بموت، يعني بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم. قال، والتخوف التنقص، يقال هو يتخوف المال: أي يتنقصه، ويأخذ من أطرافه انتهى، يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال ذو الرمة: لا بل هو الشوق من دار تخوفها مرا سحاب ومرا بارح ترب وقال لبيد: تخوفها نزولي وارتحالي أي تنقص لحمها وشحمها. قال الهيثم بن عدي: التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنودة، وأنشد: تخوف عدوهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل وقيل على تخوف: على عجل قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع با قدموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل على تخوف: أن يعاقب ويتجاوز قاله قتادة: "فإن ربكم لرؤوف رحيم" لا يعاجل، بل يمهل رأفة ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة.
48- "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في "أو لم يروا" للإنكار، وما مبهمة مفسرة بقوله: "من شيء"، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش "تروا" بالمثناة الفوقية على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الذين مكروا السيئات. قرأ أبو عمرو ويعقوب تتفيؤا ظلاله بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالتحتية واختارها أبو عبيد: أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظل. وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، ومعنى "من شيء" من شيء له ظل، وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص، وظلاله جمع ظل، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة "عن اليمين والشمائل" أي عن جهة أيمانها وشمائلها: أي عن جانبي كل واحد منها. قال الفراء: وحد اليمين، لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع. وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله: "ويولون الدبر"، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع، وقيل إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله: "وجعل الظلمات والنور"، و "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، وقيل المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة. والشمائل عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية "سجداً لله" منتصب على الحال: أي حال كون الظلال سجداً لله. قال الزجاج: يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. وقال أيضاً: سجود الجسم انقياده وما يرى من أثر الصنعة "وهم داخرون" في محل نصب على الحال: أي خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذل، يقال دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال الشاعر: فلم يبق إلا داخر في مخيس ومتحجر في غير أرضك في حجر ومخيس: اسم سجن كان بالعراق.
49- "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة" أي له وحده يخضع وينقاد لا لغيره ما في السموات جميعاً، وما في الأرض من دابة تدب على الأرض، والمراد به كل دابة. قال الأخفش: هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله. وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله: "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم تشريفاً لهم، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه "وهم لا يستكبرون" أي والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم والمراد الملائكة، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل يسجد وما عطف عليه: أي يسجد لله ما في السموات وما في الأرض والملائكة وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود.
50- "يخافون ربهم من فوقهم" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم، أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار، ومن فوقهم متعلق بيخافون على حذف مضاف: أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، أو يكون حالاً من الرب: أي يخافون ربهم حال كونه من فوقهم، وقيل معنى "يخافون ربهم من فوقهم" يخافون الملائكة فيكون على حذف المضاف: أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقررت في القلوب، قيل وهذه المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال: "يخافون ربهم" خوف مجلين، ويدل على صحة هذا المعنى قوله: "وهو القاهر فوق عباده"، وقوله إخباراً عن فرعون "وإنا فوقهم قاهرون"، "ويفعلون ما يؤمرون" أي ما يؤمرون به من طاعة الله: يعني الملائكة، أو جميع من تقدم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى، لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا" قال: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والذين هاجروا في الله" الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين "ولأجر الآخرة أكبر" قال: أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر "لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: "في الدنيا حسنة" قال: المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم"". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "فاسألوا أهل الذكر" الآية، يعني مشركي قريش أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "بالبينات" قال: الآيات "والزبر" قال: الكتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أفأمن الذين مكروا السيئات" قال: نمروذ بن كنعان وقومه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أي الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: تكذيبهم الرسل، وإعمالهم بالمعاصي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو يأخذهم في تقلبهم" قال: في اختلافهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "في تقلبهم" قال: إن شئت أخذته في سفره "أو يأخذهم على تخوف" يقول على أثر موت صاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "على تخوف" قال: تنقص من أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية "أو يأخذهم على تخوف" فقالوا ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردد من الآيات فقال عمر ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً، فقال يا فلان: ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته، يعني انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال قد رأيته ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو يأخذهم على تخوف" قال: يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " يتفيأ " قال: يتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وهم داخرون" قال: صاغرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولله يسجد" الآية قال: لم يدع شيئاً من خلقه إلا عبده له طائعاً أو كارهاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: يسجد من في السموات طوعاً ومن في الأرض طوعاً وكرهاً.
لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: 51- "وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد" فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد هو الله سبحانه، وقد قيل إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل إن فائدة زيادة إثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبية إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال: "فإياي فارهبون" أي إن كنتم راهبين شيئاً فإياي فارهبون لا غيري، وقد مر مثل هذا في أول البقرة.
ثم لما قرر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال 52- "وله ما في السموات والأرض" وهذه الجملة مقررة لمن تقدم في قوله "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض" إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص "وله الدين واصباً" أي ثابتاً واجباً دائماً لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص، قال الفراء "واصباً" معناه دائماً، ومنه قول الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بذم يكون الدهر أجمع واصبا أي دائماً. وروي عن الفراء أيضاً أنه قال: الواصب الخالص، والأول أولى، ومنه قوله سبحانه: "ولهم عذاب واصب" أي دائم.وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبداً. ففسر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له، ففسر الواصب بالدائم، وإذا دام لشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشيء يصب وصوباً فهو واصب: إذا رام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب، والإعياء: أي يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله: "أفغير الله تتقون" للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدر كما في نظائره، والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره.
ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال: 53- "وما بكم من نعمة" أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و "بكم" صلتها، و "من نعمة" حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله: "فمن الله" الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤوراً: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة: فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.
54- "ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون" أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر، إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر وفكر، وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون من في "منكم" للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعاً، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار فمن للبيان.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 272
27143- "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم" قرأ حفص عن عاصم "نوحي" بالنون، وقرأ الباقون "يوحى" بالياء التحتية، وهذه الآية رد على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجل من أن يرسل رسولاً من البشر، فرد الله عليهم بأن هذه عادته وسنته أن لا يرسل إلا رجالاً من البشر يوحي إليهم. وزعم أبو علي الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلا من هو على صورة الرجال من الملائكة. ويرد عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة، ولما كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" أي فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب أن كنتم لا تعلمون فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه، وقيل المعنى: فاسألوا أهل القرآن.
و 44- "بالبينات والزبر" يتعلق بأرسلنا، فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع رجالاً، وأنكر الفراء ذلك. وقال: إن صفة ما قبل إلا لا تتأخر إلى ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، كما لو قيل أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً، وقيل يتعلق بمحذوف دل عليه المذكور: أي أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء زائدة: أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر، وقيل متعلق برجالاً: أي رجالاً متلبسين بالبينات والزبر، وقيل بنوحي: أي نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدم. وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب. وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران. "وأنزلنا إليك الذكر" أي القرآن، ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال فقال: "لتبين للناس" جميعاً "ما نزل إليهم" في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد "ولعلهم يتفكرون" أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا.
45- "أفأمن الذين مكروا السيئات" يحتمل أن تكون السيئات صفة مصدر محذوف: أي مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل: أي عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدر: أي أفأمن الماكرون العقوبات السيئات، أو على حذف حرف الجر:أي مكروا بالسيئات "أن يخسف الله بهم الأرض" هو مفعول أمن، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، ومكر السيئات: سعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله "أن يخسف الله بهم" كما خسف بقارون، يقال خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً: أي غاب به فيها، ومنه قوله: "فخسفنا به وبداره الأرض" وخسف هو في الأرض وخسف به "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون" به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم، وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم.
46- "أو يأخذهم في تقلبهم" ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل المراد في أسفارهم ومتاجرهم فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، والقلب بالمعنى الأول مأخوذ من قوله: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله: "وقلبوا لك الأمور" "فما هم بمعجزين" أي بفائتين ولا ممتنعين.
47- "أو يأخذهم على تخوف" أي حال تخوف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون"، وقيل معنى "على تخوف" على تنقص. قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم. قال الواحدي: قال عامة المفسرين: على تخوف قال تنقص: إما بقتل أو بموت، يعني بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم. قال، والتخوف التنقص، يقال هو يتخوف المال: أي يتنقصه، ويأخذ من أطرافه انتهى، يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال ذو الرمة: لا بل هو الشوق من دار تخوفها مرا سحاب ومرا بارح ترب وقال لبيد: تخوفها نزولي وارتحالي أي تنقص لحمها وشحمها. قال الهيثم بن عدي: التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنودة، وأنشد: تخوف عدوهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل وقيل على تخوف: على عجل قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع با قدموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل على تخوف: أن يعاقب ويتجاوز قاله قتادة: "فإن ربكم لرؤوف رحيم" لا يعاجل، بل يمهل رأفة ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة.
48- "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في "أو لم يروا" للإنكار، وما مبهمة مفسرة بقوله: "من شيء"، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش "تروا" بالمثناة الفوقية على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الذين مكروا السيئات. قرأ أبو عمرو ويعقوب تتفيؤا ظلاله بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالتحتية واختارها أبو عبيد: أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظل. وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، ومعنى "من شيء" من شيء له ظل، وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص، وظلاله جمع ظل، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة "عن اليمين والشمائل" أي عن جهة أيمانها وشمائلها: أي عن جانبي كل واحد منها. قال الفراء: وحد اليمين، لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع. وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله: "ويولون الدبر"، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع، وقيل إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله: "وجعل الظلمات والنور"، و "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، وقيل المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة. والشمائل عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية "سجداً لله" منتصب على الحال: أي حال كون الظلال سجداً لله. قال الزجاج: يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. وقال أيضاً: سجود الجسم انقياده وما يرى من أثر الصنعة "وهم داخرون" في محل نصب على الحال: أي خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذل، يقال دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال الشاعر: فلم يبق إلا داخر في مخيس ومتحجر في غير أرضك في حجر ومخيس: اسم سجن كان بالعراق.
49- "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة" أي له وحده يخضع وينقاد لا لغيره ما في السموات جميعاً، وما في الأرض من دابة تدب على الأرض، والمراد به كل دابة. قال الأخفش: هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله. وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله: "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم تشريفاً لهم، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه "وهم لا يستكبرون" أي والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم والمراد الملائكة، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل يسجد وما عطف عليه: أي يسجد لله ما في السموات وما في الأرض والملائكة وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود.
50- "يخافون ربهم من فوقهم" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم، أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار، ومن فوقهم متعلق بيخافون على حذف مضاف: أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، أو يكون حالاً من الرب: أي يخافون ربهم حال كونه من فوقهم، وقيل معنى "يخافون ربهم من فوقهم" يخافون الملائكة فيكون على حذف المضاف: أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقررت في القلوب، قيل وهذه المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال: "يخافون ربهم" خوف مجلين، ويدل على صحة هذا المعنى قوله: "وهو القاهر فوق عباده"، وقوله إخباراً عن فرعون "وإنا فوقهم قاهرون"، "ويفعلون ما يؤمرون" أي ما يؤمرون به من طاعة الله: يعني الملائكة، أو جميع من تقدم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى، لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا" قال: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والذين هاجروا في الله" الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين "ولأجر الآخرة أكبر" قال: أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر "لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: "في الدنيا حسنة" قال: المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم"". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "فاسألوا أهل الذكر" الآية، يعني مشركي قريش أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "بالبينات" قال: الآيات "والزبر" قال: الكتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أفأمن الذين مكروا السيئات" قال: نمروذ بن كنعان وقومه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أي الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: تكذيبهم الرسل، وإعمالهم بالمعاصي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو يأخذهم في تقلبهم" قال: في اختلافهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "في تقلبهم" قال: إن شئت أخذته في سفره "أو يأخذهم على تخوف" يقول على أثر موت صاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "على تخوف" قال: تنقص من أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية "أو يأخذهم على تخوف" فقالوا ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردد من الآيات فقال عمر ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً، فقال يا فلان: ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته، يعني انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال قد رأيته ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو يأخذهم على تخوف" قال: يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " يتفيأ " قال: يتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وهم داخرون" قال: صاغرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولله يسجد" الآية قال: لم يدع شيئاً من خلقه إلا عبده له طائعاً أو كارهاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: يسجد من في السموات طوعاً ومن في الأرض طوعاً وكرهاً.
لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: 51- "وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد" فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد هو الله سبحانه، وقد قيل إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل إن فائدة زيادة إثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبية إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال: "فإياي فارهبون" أي إن كنتم راهبين شيئاً فإياي فارهبون لا غيري، وقد مر مثل هذا في أول البقرة.
ثم لما قرر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال 52- "وله ما في السموات والأرض" وهذه الجملة مقررة لمن تقدم في قوله "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض" إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص "وله الدين واصباً" أي ثابتاً واجباً دائماً لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص، قال الفراء "واصباً" معناه دائماً، ومنه قول الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بذم يكون الدهر أجمع واصبا أي دائماً. وروي عن الفراء أيضاً أنه قال: الواصب الخالص، والأول أولى، ومنه قوله سبحانه: "ولهم عذاب واصب" أي دائم.وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبداً. ففسر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له، ففسر الواصب بالدائم، وإذا دام لشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشيء يصب وصوباً فهو واصب: إذا رام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب، والإعياء: أي يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله: "أفغير الله تتقون" للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدر كما في نظائره، والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره.
ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال: 53- "وما بكم من نعمة" أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و "بكم" صلتها، و "من نعمة" حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله: "فمن الله" الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤوراً: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة: فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.
54- "ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون" أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر، إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر وفكر، وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون من في "منكم" للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعاً، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار فمن للبيان.
الصفحة رقم 272 من المصحف تحميل و استماع mp3