تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 315 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 315


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ * قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلاٍّولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـٰبٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى * ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰ * كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلنُّهَىٰ * مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}
قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ}. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون. أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى ـ أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى. كقوله: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ} ، وقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ لاَ يَصْلَـٰهَآ إِلاَّ ٱلاٌّشْقَى ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ} . وقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أُمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إليٰ؟ زاعماً أنه لا يعرفه. وأنه لا يعلم لهما إلٰهاً غير نفسه، كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى} ، وقال: {لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ} . وبين جل وعلا في غير هذا الموضع أن قوله {مِنْ * رَبّكُمَ} تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ بَصَآئِرَ} ، وقوله: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـٰتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّ} كما تقدم إيضاحه. وسؤال فرعون عن رب موسى، وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة «الشعراء» بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلاٌّوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِىۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ فَأَلْقَىٰ عَصَـٰهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ} إلى آخر القصة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضاً، وكلها حق، ولا مانع من شمول الآية لجميعها. منها ـ أن معنى {أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً. وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً. فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، كيف يأتيه، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة، وعن السدي وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس أيضاً: {ثُمَّ هَدَىٰ} أي هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
وقال بعض أهل العلم {أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} أي: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة. وقال بعض أهل العلم {أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ}: أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديراً، كما قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل
يعني بالخلقة: الصورة، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل وعطية وسعيد بن جبير {ثُمَّ هَدَىٰ} كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه.
وقال بعض أهل العلم {أَعْطَىٰ كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ}: أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع. وكذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. وهذا القول روي عن الضحاك. وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى {كُلَّ شَىءٍ} هو المفعول الأول لـ «أَعْطَى»، و «خلقه» هو المفعول الثاني.
وقال بعض أهل العلم: إن «خلقه» هو المفعول الأول، و «كل شيءٍ» هو المفعول الثاني. وعلى هذا القول فالمعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه «أَعْطَى» في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو. وأشار له في الخلاصة بقوله: ويلزم الأصل لموجب عرا وترك ذاك الأصل حتما قد يرى

قال مقيده عفا الله عنه: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة. لأنه لا شكّ أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به. ولا شكّ أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع. وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا؟ ما أعظم شأنه وأكمل قدرته؟ٰ
وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا:
{لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن: أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافاً حقيقياً متضاداً يكذب بعضه بعضاً، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضاً، والآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰ كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلنُّهَىٰ}. قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي «مَهْداً» بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف. وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف. والمهاد: الفراش. والمهد بمعناه. وكون أصله مصدراً لا ينافي أن يُسْتَعْمَل اسماً للفراش.
وقوله في هذه الآية: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ} في محل رفع نعت لـ «رَبِّي» من قوله قبله {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـٰبٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهداً. ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف. أي هو الذي جعل لكم الأرض. ويجوز أن ينصب على المدح، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله: وارفع أو انصب إن تطلعت مضمرا مبتدأ أو ناصباً لن يظهرا

هكذا قال غير واحد من العلماء. والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف. لأنه كلام مستأنف من كلام الله. ولا يصح تعلقه بقول موسى {لاَّ يَضِلُّ رَبِّى} لأن قوله {فَأَخْرَجْنَ} يعين أنه من كلام الله، كما نبه عليه أبو حيان في البحر، والعلم عند الله تعالى.
وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده. ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره ـ فهي من النعم العظمى على بني آدم.
الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب.
الثانية: جعله فيها سُبلاً يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر.
الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب.
الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض.
أما الأولى ـ التي هي جعله الأرض مهداً ـ فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْد} ، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاٌّرْضَ مِهَـٰداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاد} ، وقوله تعالى: {وَٱلاٌّرْضَ فَرَشْنَـٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـٰهِدُونَ} ، وقوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلاٌّرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـٰر} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وأما الثانية ـ التي هي جعله فيها سبلاً فقد جاء الامتنان والاستدلال بها في آيات كثيرة.
كقوله في «الزخرف»: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وقد قدمنا الآيات الدالَّة على هذا في سورة «النحل» في الكلام على قوله: {وَأَنْهَـٰراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وأما الثالثة والرابعة ـ وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان والاستدلال معاً. كقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ} . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَ} التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم. ونظيره في القرآن قوله تعالى في «الأنعام»: {وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِب} ، وقوله في «فاطر»: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَ} ، وقوله في «النمل»: {أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} .
وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات ـ يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيئاً لهلك الناس جوعاً وعطشاً. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: {أَزْوَاجاً مِّن نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰ} أي أصنافاً مختلفة من أنواع النبات. فالأزواج: جمع زوج، وهو هنا الصنف من النبات، كما قال تعالى في سورة «الحج»: {وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى في سورة «لقمان»: {خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِى ٱلاٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي من كل نوع حسن من أنواع النبات، وقال تعالى في سورة «يس»: {سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلاٌّزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلاٌّرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله {شَتَّىٰ} نعت لقوله: {أَزْوَاج}. ومعنى قوله: {نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰ} أي أصنافاً مختلفة الأشكال والمقادير، والمنافع والألوان، والروائح والطعوم. وقيل {شَتَّىٰ} جمع لـ «نبات» أي نبات مختلف كما بينا. والأظهر الأول، وقوله {شَتَّىٰ} جمع شتيت.
كمريض ومرضى. والشتيت: المتفرِّق. ومنه قول رؤبة يصف إبِلاً جاءت مجتمعة ثم تَفرَّقت، وهي تثير غباراً مرتفعاً: جاءت معاً وأطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا

وثغر شتيت: أي متفلج لأنه متفرِّق الأسنان. أي ليس بعضها لاصقاً ببعض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُل} قد قدمنا أن معنى السلك: الإدخال. وقوله {سَلَكَ} هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلاً فجاجاً يمر الخلق معها. وعبر عن ذلك هنا بقوله: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُل} وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل، كقوله في «الأنبياء»: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وقوله في «الزخرف»: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في «النحل»: {وَأَلْقَىٰ فِى ٱلاٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَـٰراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لأن عطف السنبل على الرواسي ظاهر في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ} أي كلوا أيها الناس من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك، وارعوا أنعامكم. أي أسيموها وسَرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها. تقول: رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها: أي أسلمها وسرَّحها. يلزم ويتعدى. والأمر في قوله {كُلُواْ وَٱرْعَوْ} للإباحة. ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة: من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحاً في مواضع أخر. كقوله في سورة «السجدة»: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـٰمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} ، وقوله في «النازعات»: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـٰهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَـٰمِكُمْ} ، وقوله في «عبس»: {ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلاٌّرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَـٰكِهَةً وَأَبّاً مَّتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَـٰمِكُمْ} وقوله في «النحل»: {هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لاٌّوْلِى ٱلنُّهَىٰ} أي لأصحاب العقول. فالنهي: جمع نهية بضم النون، وهي العقل. لأنه ينهي صاحبه عمَّا لا يليق. تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعل بالضم: إذا كملت نهيته أي عقله. وأصله نُهي بالياء فأبدلت الياء واواً لأنها لام فعل بعد ضم. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وواواً إثر الضم رد اليا متى ألفي لام فعل أو من قبل تا
قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} .
الضمير في قوله «مِنْهَا» معاً، وقوله {وَأَنزَلْنَا فِيهَ} راجع إلى «الأَرْضَ» المذكورة في قوله {ٱلَّذِى جَعَلَ * ٱلاْرْضَ مِهَـٰد}.
وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه خلق بني آدم مِن الأرض.
الثانية: أنه يعيدهم فيها.
الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى. وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت مُوضَحة في غير هذه الموضع.
أما خلقه إياهم من الأرض ـ فقد ذكره في مواضع من كتابه. كقوله {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} ، وقوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} ، وقوله في سورة «المؤمن»: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب ـ أنه خلق أباهم آدم منها. كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعاً له في الخلق صدق عليهم أنهم خُلقوا من تراب. وما يزعمه بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة والتراب معاً ـ فهو خلاف التحقيق.
لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة. فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ «ثُم» في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ، وقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} ، وقوله تعالى: {ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٱلَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} وكذلك ما يزعمه بعض المفسِّرين من أن معنى خلقهم من تراب ـ أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى.
وأما المسألة الثانية ـ فقد ذكرها تعالى أيضاً في غير هذا الموضع. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاٌّرْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْوٰت} فقوله {وَجَعَلْنَ} أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه: أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. وهو معنى قوله {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
وأما المسألة الثالثة ـ وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة. كقوله: {وَيُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ} أي من القبور بالبعث يوم القيامة، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلاٌّرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} ، وقوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاٌّجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ}، كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} . والتارة في قوله {تَارَةً أُخْرَىٰ} بمعنى المرة. وفي حديث السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال «منها خلقناكم» ثم أخذ أخرى وقال «وفيها نعيدكم» ثم أخرى وقال «ومنها نخرجكم تارة أخرى».
{وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ * قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ * فَتَنَـٰزَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ * قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَٰنِ لَسَاحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ}. أظهر القولين أن الإضافة في قوله {ءَايَـٰتِنَ} مضمنة معنى العهد كالألف واللام. والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَاتٍ} ، وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ فِى تِسْعِ ءَايَـٰتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} . وقال بعضهم: الآيات التسع المذكورة هي: العصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة «الإسراء». وقال بعض أهل العلم: العموم على ظاهره، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء. والأول هو الظاهر.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى في سورة «الزخرف»: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَ} ، وقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ} ، وقوله: {فَأَرَاهُ ٱلاٌّيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ} لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ} يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى، كذب رسول ربه موسى، وأبى عن قبول الحق. وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَـٰتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} وقوله: {لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ} ، وقوله تعالى: {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلاٌّنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} .
ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول.
وقد بين جل وعلا: أن فرعون كذب وأبى، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق. وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله، وذلك في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّ} . وقوله {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُورً} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله {أَرَيْنَـٰهُ} أصله من رأى البصرية على الصحيح. قوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم.
أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر ـ فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـٰتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ، وقوله: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} ، وقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ} ، وقوله: {وَقَالُواْ يٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضاً في مواضع من كتابه. كقوله تعالى في هذه السورة: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ} ، وقوله في «الأعراف»: {قَالَ ٱلْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ، وقوله في «الشعراء»: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ، وقوله في «يونس»: {قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِى ٱلاٌّرْضِ} ، وقال سحرة فرعون: {إِنْ هَـٰذَٰنِ لَسَاحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ} . قوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر ـ أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر. وقد بين في غير هذا الموضع: أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك. كقوله في «الأعراف»: {قَالَ ٱلْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ} . وقوله في «الشعراء»: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} ، لأن قوله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} في الموضعين يدل على أن قول فرعون {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك. قوله تعالى: {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} والإخلاف: عدم إنجاز الوعد. وقرر أن يكون مكان الاجتماع المناظرة والمغالبة في السحر في زعمه مكاناً سُوًى. وأصح الأقوال في قوله {سُوًى} على قراءة الكسر والضم: أنه مكان وسط تستوي أطراف البلد فيه. لتوسّطها بينها، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب، ولا الجنوب من الشمال. وهذا هو معنى قول المفسرين {مَكَاناً سُوًى} أي نصفاً وعدلاً ليتمكن جميع الناس أن يحضروا. وقوله: {سُوًى} أصله من الاستواء. لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية. وقوله {سُوًى} فيه ثلاث لغات: الضم، والكسر مع القصر، وفتح السين مع المد. والقراءة بالأُولَيين دون الثالثة هنا ـ ومن القراءة بالثالثة {إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ومن إطلاق العرب {مَكَاناً سُوًى} على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي، وقد أنشده أبو عبيدة شاهداً لذلك:
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. يعني حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان والفزر. وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة. وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم، يجتمعون فيه ويتزينون. سواء قلنا: إنه يوم عيد لهم، أو يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون فيه بأنواع الزينة. قال الزمخشري: وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوي رغبة من رغب في اتباع الحق، ويَكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر. ليُعلم في كل بَدْو وحَضَر، ويشيع في جميع أهل الوبر والحضر اهـ منه. والمصدر المنسبك من «أَنْ» وصلتها في قوله {وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى} في محل جر عطفاً على {ٱلزِّينَةِ} أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس، أو في محل رفع عطفاً على قوله {يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} على قراءة الجمهور بالرفع. والحشر: الجمع ـ والضحى: من أول النهار حين تشرق الشمس. والضحى يذكّر ويؤنث. فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة. ومن ذكّره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر. وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف. وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر. وقيل لا.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون المناظرة بين موسى والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه. ليعرفوا الغالب من المغلوب ـ أشير له في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في «الشعراء»:
{فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَـٰلِبِينَ} . فقوله تعالى: {لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}. اليوم المعلوم: هو يوم الزينة المذكور هنا. وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله {وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى}.
تنبيه
اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعاً من الإشكال معروفة عند العلماء، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها، ونبين إزالة الإشكال عنها.
اعلم أولاً ـ أن الفعل الثلاثي إن كان مثالاً أعني واوي الفاء كوعد ووصل، فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل (بفتح الميم وكسر العين) ما لم يكن معتل اللام. فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل (بفتح الميم والعين) كما هو معروف في فن الصرف.
فإذا علمت ذلك، فاعلم ـ أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَجَعَلَ * بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِد} صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الوعد، وأن يكون اسم زمان يُراد به وقت الوعد، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد. ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ} أي وقت وعدهم بالإهلاك الصبح. ومن إطلاقه في القرآن اسم مكان قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي مكان وعدهم بالعذاب.
وأوجه الإشكال في هذا ـ أن قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} يدل على أن الموعد مصدر. لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ولا مكانه. وقوله تعالى: {مَكَاناً سُوًى}. يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان.
وقوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان. فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله: {مَكَاناً سُوًى}، والزمان في قوله: {يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} وإن قلنا: إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله {لاَّ نُخْلِفُهُ} لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد، وأشكل عليه أيضاً قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ}. وإن قلنا: إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضاً قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ}، وقوله {مَكَاناً سُوًى} ـ هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة. وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال: لا يخلو الموعد في قوله {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِد} من أن يجعل زماناً أو مكاناً أو مصدراً. فإن جعلته زماناً نظراً في أن قوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} مطابق له لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب {مَكَان} وإن جعلته مكاناً لقوله تعالى {مَكَاناً سُوًى} لزمك أيضاً أن توقع الإخلاف على المكان، ولا يطابق قوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} إلى أن قال: فبقي أن يُجعل مصدراً بمعنى الوعد ويُقدر مضاف محذوف، أي مكان الوعد، ويجعل الضمير في {نُخْلِفُهُ} للموعد و {مَكَان} بدل من المكان المحذوف.
فإن قلت:
كيف طابقه قوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟
قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً. لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم. فبذكر الزمان عُلم المكان. انتهى محل الغرض منه. ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف والحذف والإبدال من المحذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر ما أُجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة ـ أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد، وأنه يكون مكاناً سُوًى. أي وسطاً بين أطراف البلد كما بينا. وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضُحى. لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان. فإذا علمت ذلك فاعلم ـ أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله {أَجَعَلَ * بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِد} إنه اسم مكان أي مكان الوعد، وقوله {مَكَان} بدل من قوله موعداً. لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون {مَكَان} بدلاً. ولا إشكال في ضمير {نُخْلِفُهُ} على هذا. ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف: أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان. فالمنزل مثلاً مكان النزول، والمجلس مكان الجلوس، والموعد مكان الوعد. فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله {لاَّ نُخْلِفُهُ} راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله {ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} : فقوله {هُوَ} أي العدل المفهوم من {ٱعْدِلُو} وكذلك قوله تعالى: {لاَّ نُخْلِفُهُ} أي الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد. لأنه مكان الوعد، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد وهو مرجع الضمير في {لاَّ نُخْلِفُهُ}.
فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى ـ فاعلم أن قوله عن موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ} يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمناً، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ} ولا إشكال في ذلك. هذا هو الذي ظهر لنا صوابه. وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال: إن الموعد في الآية مصدر وعليه ف{لاَّ نُخْلِفُهُ} راجع للمصدر، و{مَكَان} منصوب بفعل دل عليه الموعد. أي عدنا مكاناً سوى. ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو {مَّوْعِدً} أو أحد مفعولي {أَجَعَلَ} غير صواب فيما يظهر لي والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مَكَاناً سُوًى} قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة «سوى» بضم السين والباقون بكسرها. ومعنى القراءتين واحد كما تقدم. قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ} . قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ} قال بعض العلماء: معناه فتولى فرعون، انصرف مدبراً من ذلك المقام ليهيىء ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة «النازعات» في القصة بعينها {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ} وقوله {فَحَشَرَ} أي جمع السحرة.
وقال بعض العلماء: معنى قوله {فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ} أي أعرض عن الحق الذي جاء به موسى. ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ} .
وقوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} الظاهر أن المراد ب{كَيْدَهُ} ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه. وعليه فالمراد بقوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته، ويدل على هذا أمران: أحدهما ـ تسمية السحر في القرآن كيداً. كقوله {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} ، وقوله تعالى عن السحرة: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} وكيدهم سحرهم. الثاني ـ أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في «الأعراف»: {وَأَرْسِلْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ} . وقوله {حَـٰشِرِينَ} أي جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته، وقوله في «الشعراء»: {وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ} {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، وقوله في «يونس»: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِى بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ أَتَىٰ} أي جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه.