تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 363 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 363


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا}.

تقدم شرح هذه الأيه مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَـٰرُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا ٱذْهَبَآ إِلَى ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا فَدَمَّرْنَـٰهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَـٰهُمْ وَجَعَلْنَـٰهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّـٰلِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَـٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيراً * وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلاٌّمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِىۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً * وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
{ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم يالقيامة، وأنهم شرّ مكانًا وأضلّ سبيلاً. وبيَّن في مواضع أُخر أنهم تكبّ وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ}، وقوله تعالىٰ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ}، وقوله تعالىٰ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ}، وبيَّن جلَّ وعلا في سورة «بني إسرٰئيل» أنهم يحشرون على وجوههم، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميًا وبكمًا وصمًّا، وذكر في سورة «طه»، أن الكافر يحشر أعمى، قال في سورة «بني إسرٰئيل»: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، وقال في سورة «طه»: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَ}.
وقد بيَّنا وجه الجمع في آية «بني إسرٰئيل»، وآية «طه» المذكورتين مع الآيات الدالَّة على أن الكفّار يوم القيامة يبصرون ويتكلّمون ويسمعون؛ كقوله تعالىٰ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}، وقوله تعالىٰ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَ}، في سورة «طه»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ}، وكذلك بيّنا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، في الكلام على آية «بني إسرٰئيل» المذكورة.
وصيغة التفضيل في قوله: {أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلا}، قد قدّمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله: {أَذٰلِكَ خَيْرٌ * ءانٍ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِى وَعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ}، والمكان محل الكينونة. والظاهر أنه يكون حسيًّا، ومعنويًا. فالحسي ظاهر، والمعنوي؛ كقوله تعالىٰ: {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ}، والسبيل الطريق وتذكّر وتؤنّث كما تقدّم، ومن تذكير السبيل قوله تعالىٰ: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيل}، ومن تأنيثها قوله تعالىٰ: {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ}. {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَـٰرُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا ٱذْهَبَآ إِلَى ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا فَدَمَّرْنَـٰهُمْ تَدْمِيراً }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَنَـٰدَيْنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّا}. {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَـٰهُمْ وَجَعَلْنَـٰهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً}. قد قدّمنا بعض الآيات الدالَّة على كيفية إغراقهم في سورة «الأعراف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ}. {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَـٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيراً }. الأظهر عندي أن قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَ} معطوف على قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ}، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دلّ عليها قوله بعده: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُو}، على حدّ قوله في «الخلاصة»:
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتمًا موافق لما قد ذكرا

أي: أهلكنا قوم نوح بالغرق، وأهلكنا عادًا وثمودًا وأصحاب الرس، وقرونًا بين ذلك كثيرًا، أي: وأهلكنا قرونًا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح، وعاد وثمود.
والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح، وعاد، وثمود، وقبل أصحاب الرس وقد دلّت آية من سورة «إبرٰهيم» على أن بعد عاد، وثمود، خلقًا كفروا وكذبوا الرسل، وأنهم لا يعلمهم إلا اللَّه جلَّ وعلا.
وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا، وذلك في قوله تعالىٰ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ * مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى}.
وقد قدّمنا كلام أهل العلم في معنى قوله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} ، والإشارة في قوله: {بَيْنَ ذٰلِكَ}، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس، أي: بين ذلك المذكور ورجوع الإشارة، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدّد باعتبار المذكور أسلوب عربيّ معروف، ومنه في الإشارة قوله تعالىٰ: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ}، أي: ذلك المذكور من الفارض والبكر، وقوله تعالىٰ: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَام}، أي: بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر، وقول عبد اللَّه بن الزبعري السهمي: إن للخير وللشرّ مدى وكلا ذلك وجه وقبل

أي: وكلا ذلك المذكور من الخير والشر، ومنه في الضمير قول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

أي: كأنه، أي: ما ذكر من خطوط السواد والبلق، وقد قدّمنا هذا البيت.
أمّا عاد وثمود فقد جاءت قصّة كل منهما مفصّلة في آيات متعدّدة. وأمّا أصحاب الرس فلم يأت في القرءان تفصيل قصّتهم ولا اسم نبيّهم، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شىء منها.
والرس في لغة العرب: البئر التي ليست بمطوية، وقال الجوهري في «صحاحه»: إنها البئر المطوية بالحجارة، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا

وقول النابغة الجعدي: سبقت إلى فرط ناهل تنابلة يحفرون الرساسا

والرساس في البيتين جمع رس، وهي البئر، والرس واد في قول زهير في معلّقته: بكرن بكورًا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم

وقوله في هذه الآية: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيرا}، جمع قرن، وهو هنا الجيل من الناس الذي اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة. {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلاٌّمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلاًّ من الماضين المهلكين من قوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، والقرون الكثيرة بين ذلك: أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبيّن لهم الحق بضرب المثل؛ لأنه يصير به المعقول كالمحسوس، وأنه جلَّ وعلا تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي: أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالىٰ: {وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}، أي: باطل، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلاَّ تَبَارا}، أي: هلاكًا، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أنه جلَّ وعلا ضرب لكل منهم الأمثال، وأنه تبرهم كلهم تتبيرًا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع.
أما ضربه الأمثال للكفّار، فقد ذكره جلَّ وعلا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ في سورة «إبرٰهيم»: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلامْثَالَ}. وأمّا تتبيره جميع الأُمم لتكذيبها رسلها، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ في سورة «الأعراف»: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ٱلضَّرَّاء وَٱلسَّرَّاء فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، وقوله تعالىٰ في سورة «سبأ»: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ}، وقوله في «الزخرف»: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ}، وقوله تعالىٰ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ}، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أن جميع الأُمم كذبوا رسلهم، وأن اللَّه أهلكهم بسبب ذلك، وقد بيَّن جلَّ وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم، وذلك في قوله تعالىٰ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ}.
ويدلّ على ذلك أيضًا قوله تعالىٰ: {وَأَرْسَلْنَا * إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَـئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَـٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ}، وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم، لم يبيّن فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضًا لهذه الأُمّة الكريمة التي هي آخر الأُمم في هذا القرءان، كما ضربها لغيرهم من الأُمم، ولكنه تعالىٰ بيَّن في آيات كثيرة أنه ضرب لهذه الأُمَّة الأمثال في هذا القرءان العظيم، ليتفكّروا بسببها، وبيَّن أنها لا يعقلها إلا أهل العلم، وأن اللَّه يهدي بها قومًا، ويضلّ بها آخرين.
وهذه الآيات الدالَّة على ذلك كلّه، فمنها قوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ خَـٰلِدُونَ * إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَتِلْكَ ٱلاْمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَتِلْكَ ٱلاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ}، وقوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ}،والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة معلومة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِىۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً }. أقسم جلَّ وعلا في هذه الآية، أن الكفّار الذين كذبوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء، وهو أن اللَّه أمطر عليها حجارة من سجّيل، وهي سذوم قرية قوم لوط، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أن اللَّه أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل، وأن الكفار أتوا عليها، ومروا بها جاء موضحًا في آيات أخرى.
أمّا كون اللَّه أمطر عليها الحجارة المذكورة، فقد ذكره جلَّ وعلا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ}، وبيَّن في سورة «الذاريات»، أن السجيل المذكور نوع من الطين، وذلك في قوله تعالىٰ: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ}، ولا شكّ أن هذا الطين وقعه أليم، شديد مهلك؛ وكقوله تعالىٰ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ}، وقوله تعالىٰ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ}.
وأمّا كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة، فقد جاء موضحًا أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، والمراد بأنهم مرّوا على قرية قوم لوط، وأن مرورهم عليها، ورأيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع، ولا مجيب؛ لأن اللَّه أهلك أهلها جميعًا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطًا، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، لئلاّ ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك، وبذا وبّخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب؛ كقوله في آية «الصافّات» المذكورة: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وكقوله تعالىٰ في آية «الفرقان» هذه: {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُور}، فقوله: {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَ} توبيخ لهم على عدم الاعتبار؛ كقوله في الآية الأخرى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، ومعلوم أنهم يمرّون عليها مصبحين، وبالليل وأنهم يرونها؛ وكقوله تعالىٰ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ}، يعني: أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم، أي: بطريق مقيم، يمرّون فيه عليها في سفرهم إلى الشام، وقوله تعالىٰ: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُور}، أي: لا يخافون بعثًا ولا جزاء، أو لا يرجون بعثًا وثوابًا. {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَ}. تقدّم إيضاحه في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِذَا رَاكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ هُمْ كَـٰفِرُونَ}، وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم، بيّن في سورة «صۤ» أن بعضهم أمر به بعضًا، في قوله تعالىٰ: {وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلا مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ ءالِهَتِكُمْ}.