تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 510 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 510


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلاٌّمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ * أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَـٰنَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَـٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـٰلَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَـٰلَكُمْ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ * فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلاٌّعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ *إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ * ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـٰنَكُمْ * هَآ أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَـٰلَكُم}
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلاٌّمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْفَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ}. الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، قوم كفروا بعد إيمانهم.
وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به.
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم.
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَـٰبٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} لأن قوله:
{فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُو} مبين معنى قوله: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى}، وقوله {كَفَرُواْ بِهِ} مبين معنى قوله: {ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ}.
وقال بعض العلماء: نزلت الآية المذكورة في المنافقين.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك {ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر.
قال الزمخشري: سول سهل لهم ركوب العظائم من السول، وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً.
وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني. انتهى.
وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم فصول الأعمار.
لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي.
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان: قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان.
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل، ومنه قوله تعالى: {وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ}، وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَا}.
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورا}.
وقال تعالى: {وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} إلى قولك {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً}.
وقال بعض العلماء: ضمير الفاعل في قوله {وَأَمْلَىٰ لَهُمْ} على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى.
والمعنى: الشيطان {سَوَّلَ لَهُمْ} أي سهل لهم الكفر والمعاصي، وزين ذلك وحسنه لهم، والله جل وعلا أملى لهم: أي أمهلهم إمهال استدراج.
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ}. وقوله تعالى، {تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاٌّمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}. إلى غير ذلك من الآيات.
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجاً: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَوَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ}. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} وقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}. وقوله تعالى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وجده من السبعة وأملي لهم بضم الهمزة وكسر اللام بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف فيه الوجهان المذكوران آنفاً في فاعل، وأملي لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل.
وقد ذكرنا قريباً ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورا} وقوله في إملاء الله لهم: {وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} كما تقدم قريباً، والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلاٌّمْرِ} راجعة إلى قوله تعالى، {ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ}.
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلاٌّمْرِ}.
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون.
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ}.
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ} وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك.
وبينا في سورة شورى أيضاً شدة كراهة الكفار لما نزل الله، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى {كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}.
وقد قدمنا مراراً أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله يعلم {إِسْرَارَهُمْ} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارا}. وقد قالوا لهم ذلك سراً فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ} أي: فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة؟
أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة، يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحاً في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ} وقوله في الأنعام: {وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ}.
فقوله: {بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب المذكور.
والإشارة في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ} راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}.
أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب {بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ} أي أغضبه من الكفر به، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله.
والإسخاط استجلاب السخط، وهو الغضب هنا.
وقوله: وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله.
لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزمت كراهة ما نزل، كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه، فهو ككارهه.
وقوله: فأحبط أعمالهم أي أبطلها، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة. وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحاً تاماً في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى {وَمَنْ أَرَادَ ٱلاٌّخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}.
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}.
واعلم أن هذه الآية الكريمة، قد قال بعض العلماء: إنها نزلت في المنافقين.
وقال بعضهم: إنها نزلت في اليهود، وأن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، وهو عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك.
وبعضهم يقول: إن الذين اتبعوا ما أسخط الله، هم اليهود حين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوه وكرهوا رضوانه، وهو الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله.
مسألة
اعلم أن كل مسلم، يجب عليه في هذا الزمان، تأمل هذه الآيات، من سورة محمد وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن.
فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية.
وأحرى من ذلك من يقول لهم: سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم.
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم.
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: سنطيعكم في بعض الأمر. قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ}. اللام في قوله: لنبلونكم موطئة لقسم محذوف.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة أعني لنبلونكم، ونعلم، ونبلو.
وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية.
وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله جل وعلا يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم. جاء موضحاً في آيات أخر.
كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ}.
وقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ}.
وقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وقوله تعالى {الۤـمۤأَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَوَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ}.
وقوله تعالى {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ}.
وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ}.
فقلنا في ذلك ما نصه:
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى، عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: {وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ}.
فقوله: والله عليم بذات الصدور بعد قوله: ليبتلي، دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه.
ومعنى إلا لنعلم أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالم السر والنجوى، فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى. ا هـ.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: (وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها) انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: (ولنبونكم أيها المؤمنين بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم يقول: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد. في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخياركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب). انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وما ذكره من أن المراد بقوله: حتى نعلم المجاهدين الآية، حتى يعلم حزبنا.
وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين له وجه، وقد يرشد له قوله تعالى: {وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ} أي نظهرها ونبرزها للناس.
وقوله تعالى: {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ} لأن المراد يميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك الناس.
ولذا قال {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ} فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب.
والقول الأول وجيه أيضاً، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ}. الظاهر أن صدوا في هذه الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون.
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم}. أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول.
وصدوا هنا، إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله كفروا.
وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيساً.
لأن قوله: كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم.
وقوله: وصدوا على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق، وهذا أرجح مما قبله.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ} أي خالفوا محمداً صلى الله عليه وسلم مخالفة شديدة.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه صلى الله عليه وسلم لن يضروا الله بكفرهم شيئاً، لأنه غني لذاته الغنى المطلق.
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم، كما قال تعالى: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ}.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله.
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه، وعدم تضرره بمعصيتهم، قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
وقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ}.
وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ}.
وقوله تعالى: {قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰت وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ}.
وقوله تعالى: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}.
وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به قوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورا}.
وقوله تعالى: {مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}.
وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئ}.
وقوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}. قد قدمنا كثيراً جداً من الآيات المماثلة له قريباً في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ}. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له، لأن النار وجبت له بموته على الكفر، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله.
كقوله تعالى {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلاٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ}.
وقوله تعالى {إِن ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلـٰئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيم}.
وقوله تعالى {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ}. قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلاٌّعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين.
وقرأ حمزة وشعبة إلى السلم بكسر السين.
وقوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُو} أي لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ}.
وقوله تعالى: {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ} أي مضعف كيدهم، وقول زهير بن أبي سلمى: وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت فأصبح الحبل منها واهناً خلقا

وقوله تعالى: {وَأَنتُمُ ٱلاٌّعْلَوْنَ} جملة حالية فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم، أي تبدؤوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون. أي والحال أنكم أنتم الأعلون أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.
وهذا التفسير في قوله {وَأَنتُمُ ٱلاٌّعْلَوْنَ} هو الصواب.
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده {وَٱللَّهُ مَعَكُمْ} لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب.
فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة.
وكقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ}، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَ}، وقوله {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ} وقوله تعالى {قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}. ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}،لأن قوله تعالى {وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب.
وذلك كقوله هنا {وَأَنتُمُ ٱلاٌّعْلَوْنَ} وقوله: {وَٱللَّهُ مَعَكُمْ} أي بالنصر والإعانة والثواب.
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى.
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ} إنما هو عن الابتداء بطلب السلم.
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها، كما هو صريح قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَٱللَّهُ مَعَكُمْ} قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله.
وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد.
أي، وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ} أي لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئاً من ثواب الأعمال جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى {وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَـٰلِكُمْ شَيْئ} أي لا ينقصكم من ثوابها شيئاً.
وقوله تعالى: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِينَ}.
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدمناها مراراً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَن يَتِرَكُمْ} أصله من الوتر، وهو الفرد.
فأصل قوله: لن يتركم لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها. قوله تعالى: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}. هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ}. في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة.
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ}.
وقوله تعالى: {قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ}.
وقوله تعالى: {أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى {وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ} وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى {قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ}. قوله تعالى: {نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له قريباً في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ}. قوله تعالى: {ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواۤ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـاخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِير}.

تم بحمد الله تفسير سورة محمد