تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 87 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 87

 {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً * أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـٰهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }
، أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ أنكر تعالىٰ عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى} ، وبقوله : {فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِين} ، وصرّح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شىء وأنجسه بقوله : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ} ، ولم يبيّن هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم .
ولكنّه بيّن ذلك في مواضع أُخر ، كقوله عنهم : {نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وقوله : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} ، إلى غير ذلك من الآيات .
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً * إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلاحَمَـٰنَـٰتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }
، وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم ، وهي قوله : {أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَ} ، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود ، وهي قوله : {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} ، وبيّن في موضع آخر أنها ظلال متعددة ، وهو قوله : {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـٰلٍ وَعُيُونٍ} .
وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله : {هُمْ وَأَزْوٰجُهُمْ فِى ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} ، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة ، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله : {ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ} ، وقوله : {وَأَصْحَـٰبُ ٱلشّمَالِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلشّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} .

 {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاٌّمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيداً }
، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ أمر اللَّه في هذه الآية الكريمة ، بأن كل شىء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالىٰ قال : {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ}، واوضح هذا المأمور به هنا بقوله: {ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ}، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ، وقد أوضح تعالىٰ هذا المفهوم موبخًا للمتحاكمين إلى غير كتاب اللَّه وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم مبيّنًا أن الشيطان أضلهم ضلالاً بعيدًا عن الحق بقوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ} ، وأشار إلى أنه لا يؤمنْ أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} .
ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان ؛ لأن الإيمان باللَّه هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان باللَّه ؛ لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان باللَّه أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ} .
تنبيــه
استدل منكروا القياس بهذه الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ} الآية ، على بطلان القياس قالوا : لأنه تعالىٰ أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس ، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية ؛ لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة ، بل قال بعضهم الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فالمراد بإطاعة اللَّه العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنّة ، وبالرد إليهما القياس ؛ لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه ، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئًا وراء ذلك .
وقد علم من قوله تعالىٰ : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه ، وهو الإجماع قاله الألوسي في «تفسيره» .