سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 100 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 100
101
099
الآية : 135
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }..
وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق, أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم: {يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ} يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط, يعني بالعدل. {شُهَدَاءَ لِلّهِ} والشهداء: جمع شهيد, ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله: «قوّامين», من ذكر الذين آمنوا, ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم, أو حين شهادتكم. {وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم, أو على والديكم أو أقربيكم, فقوموا فيها بالقسط والعدل, وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ, ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير, ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا, فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما, وأحقّ منكم, لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم, فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم, فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها. {فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو} يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ, ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط, وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل¹ نعم, وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره, فيقرّ له به, فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه. وهذه الاَية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح, فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه, فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم, فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها. وقد قيل: إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
8491ـ حدثنا محمد بن حسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} قال: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم, واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير, وكان ضلعه مع الفقير, يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ, فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير, فقال: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّهُ أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو}... الاَية.
وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير. ذكر من قال ذلك:
8492ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ} قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم, ولا يحابوا غنيا لغناه, ولا يرحموا مسكينا لمسكنته, وذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلو} فتذروا الحقّ فتجورُوا.
8493ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن يونس, عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة, قال: كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين, وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله: {يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِم}... الاَية, فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده, ولا الولد لوالده, ولا الأخ لأخيه, ولا الرجل لامرأته, ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم, فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
8494ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... إلى آخر الاَية, قال: لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة, قال: يقول هذا للشاهد.
8495ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... الاَية, هذا في الشهادة, فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك, أو الوالدين, أو على ذوي قرابتك, أو أشراف قومك, فإنما الشهادة لله وليست للناس, وإن الله رضي العدل لنفسه¹ والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض, به يردّ الله من الشديد على الضعيف, من الكاذب على الصادق, ومن المبطل على المحقّ, وبالعدل يصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويردّ المعتدي, ويوبخه تعالى ربنا وتبارك, وبالعدل يصلح الناس. يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا, فالله أولى بهما, يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال: يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ قال: «العدل أقلّ ما وضعت في الأرض, فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم, فإن ذلك عليك من الحق». وقال جلّ ثناؤه: {فاللّهُ أوْلى بِهِم}.
وقد قيل: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِير}... الاَية, أريد: فالله أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير, لأن ذلك منه لا من غيره, فلذلك قال «بهما», ولم يقل «به».
وقال آخرون: إنما قيل «بهما» لأنه قال: {إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِير} فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه, وهو مجهول, وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع. وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ: «فاللّهُ أوْلى بِهِمْ».
وقال آخرون: «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع.
وقال آخرون: جاز تثنية قوله «بهما», لأنهما قد ذكرا كما قيل: {ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ}. وقيل: جاز لأنه أضمر فيه «مَنْ» كأنه قيل: إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا, بمعنى: غنيين أو فقيرين, فالله أولى بهما.
وتأويل قوله¹ {فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو} أي عن الحقّ, فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ. ولو وُجّه إلى أن معناه: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها. وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا, كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك, بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: عني: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا, فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله: إن الاَية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم, على ما ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك:
8496ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن ابن عباس في قول الله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي, فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها, أو تعرضوا عنها فتتركوها. ذكر من قال ذلك:
8497ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... إلى قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يقول: تلوي لسانك بغير الحقّ, وهي اللجلجة, فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض الترك.
8498ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {وَإنْ تَلْوُو}: أي تبدلّوا الشهادة¹ {أوْ تُعْرِضُو} قال: تكتموها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُو} قال: بتبديل الشهادة, والإعراض: كتمانها.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُو} قال: إن تحرّفوا, أو تتركوا.
8499ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة.
8500ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} أما تلووا: فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما «تعرضوا»: فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادة.
8501ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَإنْ تَلْوُو} فتكتموا الشهادة, تلوي: تنقض منها, أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه, تقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول: لا أقيم الشهادة عليه, وتقول: هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه, فذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِير}.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وإنْ تَلْوُو} تحرّفوا {أوْ تُعْرِضُو}: تتركوا.
8502ـ حدثنا محمد بن عمارة, قال: حدثنا حسن بن عطية, قال: حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية في قوله: {وَإنْ تَلْوُو} قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها, {أوْ تُعْرِضُو} قال: فتتركوها.
8503ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: إن تلووا في الشهادة, أن لا تقيموها على وجهها {أوْ تُعْرِضُو} قال: تكتموا الشهادة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, قال: حدثنا شيبان, عن قتادة أنه كان يقول: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يعني: تلجلجوا {أوْ تُعْرِضُو} قال: تدعها فلا تشهد.
حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} أما تلووا: فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ, يعني في الشهادة.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله: إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه. وأما إعراضه عنها, فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب, لأن الله جلّ ثناؤه قال: {كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء, وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وَإنْ تَلْوُو} فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة {وَإنْ تَلْوُو} بواوين من: لو أني الرجل حقي, والقوم يلوونني دَيْني, وذلك إذا مَطَلوه, لَيّا. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة: «وَإنْ تَلُوا» بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها, ثم أسقط الهمز, فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه, وبقيت واو واحدة, كأنه أراد: تلوؤا, ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ: {وَإنْ تَلْوُو} بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب, وذلك أن الواو الثانية من قوله: {تَلْوُو} واو جمع, وهي علم لمعنى, فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها, فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة. والوجه الاَخر: أن يكون قارئها كذلك, أراد: إن تلوا, من الولاية, فيكون معناه: وإن تلوا أمور الناس, أو تتركوا. وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه, خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية. فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه, فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} بمعنى الليّ: الذي هو مطل, فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها, فتغيروها, وتبدّلوا, أو تعرضوا عنها, فتتركوا القيام له بها, كما يلوي الرجل دين الرجل, فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له, كما قال الأعشى:
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِيدَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا
وأما تأويل قوله: {فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} فإنه أراد: فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها, خبيرا, يعني: ذا خبرة وعلم به, يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة, المحسن منكم بإحسانه, والمسيء باساءته, يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.
الآية : 136
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو}: بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل, وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله. {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} يقول: صدّقوا بالله, وبمحمد رسوله, أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم. {والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ} يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه, وذلك القرآن. {وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين؟ قيل: إنه جلّ ثناؤه لم يسمهم مؤمنين, وإنما وصفهم بأنهم آمنوا, وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق, وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها, وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما¹ وصنف أهل إنجيل وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب, مكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان. فقال جلّ ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو} يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل, {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم, {والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ} فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم, {وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الذي تزعمون أنكم به مؤمنون, فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون, لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به, فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا, وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به, بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو}.
وأما قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته, فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر, لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه¹ وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به, والكفر بشيء منه كفر بجميعه, فلذلك قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} بعقب خطابه أهل الكتاب, وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تهديدا منه لهم, وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان. وأما قوله: {فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيد} فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل, وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا, لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده, والخروج عن دين الله: الهلاك الذي فيه البوار, والضلال عن الهدى هو الضلال.
الآية : 137
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }..
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: تأويله: {إنّ الّذِينَ آمَنُو} بموسى {ثُمّ كَفَرُو} به {ثُمّ آمَنُو} يعني النصارى بعيسى, {ثُمّ كَفَرُو} به {ثُمّ ازدادوا كُفُرْ} بمحمد, {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبيِل}. ذكر من قال ذلك:
8504ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا ثمّ آمنُوا ثمّ كفَرُوا ثمّ ازْدَادُوا كُفْر} وهم اليهود والنصارى, آمنت اليهود بالتوراة, ثم كفرت¹ وآمنت النصارى بالإنجيل, ثم كفرت¹ وكفرهم به: تركهم إياه, ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم, فقال الله: {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدَيهُمْ سَبِيل} يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى, وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
8505ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: «إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرو} قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة, ثم كفروا. ثم ذكر النصاري, ثم قال: {ثمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به, ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل عني بذلك: أهل النفاق أنهم آمنوا ثم ارتدّوا, ثم آمنوا ثم ارتدّوا, ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:
8506ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: كنا نحسبهم المنافقين, ويدخل في ذلك من كان مثلهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: ثَمّوا على كفرهم حتى ماتوا.
8507ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: ماتوا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: حتى ماتوا.
8508ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو}... الاَية, قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرّتين, وكفروا مرّتين, ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك.
وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل, أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا, فلم تقبل منهم التوبة فيها مع إقامتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:
8509ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد, عن داود بن أبي هند, عن أبي العالية: {إنّ الّذِينَ آمنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: هم اليهود والنصارى أذنبوا في شركهم, ثم تابوا فلم تقبل توبتهم, ولو تابوا من الشرك لقبل منهم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أقرّوا بحكم التوراة, ثم كذبوا بخلافهم إياه, ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل, ثم كذب به بخلافه إياه, ثم كذّب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان, فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الاَية, لأن الاَية قبلها في قصص أهل الكتابين, أعني قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} ولا دلالة تدلّ على أن قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو} منقطع معناه من معنى ما قبله, فإلحاقه بما قبله أَوْلَى حتى تأّي دلالة دالة على انقطاعه منه.
وأما قوله: {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فإنه يعني: لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم بعفوه عن العقوبة لهم عليه, ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد. {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيل} يقول: ولم يكن ليسدّدهم لإصابة طريق الحقّ فيوفقهم لها, ولكنه يخذلهم عنها عقوبة لهم على عظيم جرمهم وجراءتهم على ربهم. وقد ذهب قوم إلى أن المرتدّ يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الاَية, وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال يستتاب ثلاثا:
8510ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن أشعث, عن الشعبيّ, عن عليّ عليه السلام, قال: إن كنت لمستتيب المرتدّ ثلاثا. ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن عامر, عن عليّ رضي الله عنه: يستتاب المرتدّ ثلاثا, ثم قرأ: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْداداوا كُفْر}.
8511ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عبد الكريم, عن رجل, عن ابن عمر, قال: يستتاب المرتدّ ثلاثا.
وقال آخرون: يستتاب كلما ارتدّ. ذكر من قال ذلك:
8512ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عمرو بن قيس, عمن سمع إبراهيم, قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتد.
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتدّ يستتاب المرة الأولى, الدليل الواضح على أن الحكم كل مرّة ارتدّ فيها عن الإسلام حكم المرّة الأولى في أن توبته مقبولة, وأن إسلامه حقن له دمه¹ لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه, فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها, إلا أن يفرق بين حكم المرّة الأولى وسائر المرّات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم, فيخرج من حكم القياس حينئذٍ.
الآية : 138
القول في تأويل قوله تعالى: {بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَبَشّرِ المُنافِقِينَ}: أخبر المنافقين, وقد بينا معنى التبشير فيما مضى بما أغني عن إعادته. {بأنّ لَهُمْ عَذَابا أليم} يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم, عذابا أليما, وهو الموجع, وذلك عذاب جهنم.
الآية : 139
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ العِزّةَ للّهِ جَمِيعاً }..
أما قوله جلّ ثناؤه: {الّذِينَ يَتّخذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد, بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء: يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين, يعني: من غير المؤمنين. {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العزّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوّة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي. {فإنّ العِزّةِ لِلّهِ جَميع} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزّة عندهم, هم الأذلاء الأقلاّء, فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين, فيلتمسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله, الذي له العزّة والمنعة, الذي يعزّ من يشاء, ويذلّ من يشاء فيعزّهم ويمنعهم؟ وأصل العزّة: الشدّة¹ ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز, وقيل: قد اسْتِعزّ على المريض: إذا اشتدّ مرضه وكاد يُشْفِي, ويقال: تعزّز اللحم: إذا اشتدّ¹ ومنه قيل: عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا, بمعنى: اشتدّ عليّ.
الآية : 140
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: بشر المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتابِ} يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن. {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها, وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيِرِه} يعني: بعد ما علموا نهى الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه, ويستهزئون بها, {حَتّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ} يعني بقوله: {يَخُوضو}: يتحدّثوا حديثا غيره بأن لهم عذابا أليما. وقوله: {إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ} يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله, ويستهزىء بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله, يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم, لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم, وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها, كما عصوه باستهزائهم بآيات الله, فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها, فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله, وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كلّ نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم.
وبنحو ذلك كان جماعة من الأمة الماضية يقولون تأوّلاً منهم هذه الاَية, إنه مراد بها النهي عن مشاهدة كلّ باطل عند خوض أهله فيه. ذكر من قال ذلك:
8513ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب, عن إبراهيم التيمي, عن أبي وائل, قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه, فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي, فقال: صدق أبو وائل! أو ليس ذلك في كتاب الله: {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.
8514ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن إدريس, عن العلاء بن المنهال, عن هشام بن عروة, قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب, فضربهم وفيهم صائم, فقالوا: إن هذا صائم! فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضوا فِي حَدِيثٍ غيرِه إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.
8515ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِه} وقول: {وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}, وقوله: {أقِيمُوا الدّينَ ولا تَتَفَرّقُوا فِيهِ}, ونحو هذا من القرآن, قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة, ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.
وقوله: {إنّ اللّهَ جَامِعُ المُنافقينَ وَالكافرينَ فِي جَهَنّمَ} يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار, فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه, كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به أهله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: «وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ» فقرأ ذلك عامة القرّاء بضمّ النون وتثقيل الزاي وتشديدها على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأ بعض الكوفين بفتح النون وتشديد الزاي على معنى: وقد نزّل الله عليكم. وقرأ ذلك بعض المكيين: «وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ» بفتح النون وتخفيف الزاي, بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاثة وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام, غير أن الذي أختار القراءة به قراءة من قرأ: «وَقَدْ نُزّلَ» بضمّ النون وتشديد الزاي, على وجه ما لم يسمّ فاعله¹ لأن معنى الكلام فيه: التقديم على ما وصلت قبل, على معنى الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين¹ «وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ أنْ إذَا سَمعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها»... إلى قوله: {حَدِيثٍ غَيْرِه} {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزّةَ}. فقوله: {فإنّ العِزّةَ للّهِ جَميع} يعني التأخير, فلذلك كان ضمّ النون من قوله: «نُزّلَ» أصوب عندنا في هذا الموضع. وكذا اختلفوا في قراءة قوله: {والكتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِه والكِتابِ الّذِي أنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فقرأه بفتح «وأنْزَلَ» أكثر القراء, بمعنى: والكتاب الذي نزّل الله على رسوله, والكتاب الذي أنزل من قبل. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة بضمه في الحرفين كلاهما, بمعنى: ما لم يسمّ فاعله. وهما متقاربتا المعنى, غير أن الفتح في ذلك أعجب إليّ من الضمّ, لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ}
101
099
الآية : 135
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }..
وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق, أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم: {يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ} يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط, يعني بالعدل. {شُهَدَاءَ لِلّهِ} والشهداء: جمع شهيد, ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله: «قوّامين», من ذكر الذين آمنوا, ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم, أو حين شهادتكم. {وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم, أو على والديكم أو أقربيكم, فقوموا فيها بالقسط والعدل, وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ, ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير, ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا, فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما, وأحقّ منكم, لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم, فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم, فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها. {فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو} يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ, ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط, وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل¹ نعم, وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره, فيقرّ له به, فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه. وهذه الاَية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح, فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه, فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم, فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها. وقد قيل: إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
8491ـ حدثنا محمد بن حسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} قال: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم, واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير, وكان ضلعه مع الفقير, يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ, فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير, فقال: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّهُ أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو}... الاَية.
وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير. ذكر من قال ذلك:
8492ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ} قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم, ولا يحابوا غنيا لغناه, ولا يرحموا مسكينا لمسكنته, وذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلو} فتذروا الحقّ فتجورُوا.
8493ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن يونس, عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة, قال: كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين, وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله: {يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِم}... الاَية, فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده, ولا الولد لوالده, ولا الأخ لأخيه, ولا الرجل لامرأته, ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم, فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
8494ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... إلى آخر الاَية, قال: لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة, قال: يقول هذا للشاهد.
8495ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... الاَية, هذا في الشهادة, فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك, أو الوالدين, أو على ذوي قرابتك, أو أشراف قومك, فإنما الشهادة لله وليست للناس, وإن الله رضي العدل لنفسه¹ والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض, به يردّ الله من الشديد على الضعيف, من الكاذب على الصادق, ومن المبطل على المحقّ, وبالعدل يصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويردّ المعتدي, ويوبخه تعالى ربنا وتبارك, وبالعدل يصلح الناس. يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا, فالله أولى بهما, يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال: يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ قال: «العدل أقلّ ما وضعت في الأرض, فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم, فإن ذلك عليك من الحق». وقال جلّ ثناؤه: {فاللّهُ أوْلى بِهِم}.
وقد قيل: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِير}... الاَية, أريد: فالله أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير, لأن ذلك منه لا من غيره, فلذلك قال «بهما», ولم يقل «به».
وقال آخرون: إنما قيل «بهما» لأنه قال: {إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِير} فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه, وهو مجهول, وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع. وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ: «فاللّهُ أوْلى بِهِمْ».
وقال آخرون: «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع.
وقال آخرون: جاز تثنية قوله «بهما», لأنهما قد ذكرا كما قيل: {ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ}. وقيل: جاز لأنه أضمر فيه «مَنْ» كأنه قيل: إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا, بمعنى: غنيين أو فقيرين, فالله أولى بهما.
وتأويل قوله¹ {فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُو} أي عن الحقّ, فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ. ولو وُجّه إلى أن معناه: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها. وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا, كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك, بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: عني: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا, فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله: إن الاَية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم, على ما ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك:
8496ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن ابن عباس في قول الله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي, فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها, أو تعرضوا عنها فتتركوها. ذكر من قال ذلك:
8497ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}... إلى قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يقول: تلوي لسانك بغير الحقّ, وهي اللجلجة, فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض الترك.
8498ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {وَإنْ تَلْوُو}: أي تبدلّوا الشهادة¹ {أوْ تُعْرِضُو} قال: تكتموها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُو} قال: بتبديل الشهادة, والإعراض: كتمانها.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُو} قال: إن تحرّفوا, أو تتركوا.
8499ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة.
8500ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} أما تلووا: فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما «تعرضوا»: فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادة.
8501ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَإنْ تَلْوُو} فتكتموا الشهادة, تلوي: تنقض منها, أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه, تقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول: لا أقيم الشهادة عليه, وتقول: هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه, فذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِير}.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وإنْ تَلْوُو} تحرّفوا {أوْ تُعْرِضُو}: تتركوا.
8502ـ حدثنا محمد بن عمارة, قال: حدثنا حسن بن عطية, قال: حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية في قوله: {وَإنْ تَلْوُو} قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها, {أوْ تُعْرِضُو} قال: فتتركوها.
8503ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} قال: إن تلووا في الشهادة, أن لا تقيموها على وجهها {أوْ تُعْرِضُو} قال: تكتموا الشهادة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, قال: حدثنا شيبان, عن قتادة أنه كان يقول: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} يعني: تلجلجوا {أوْ تُعْرِضُو} قال: تدعها فلا تشهد.
حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} أما تلووا: فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ, يعني في الشهادة.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله: إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه. وأما إعراضه عنها, فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب, لأن الله جلّ ثناؤه قال: {كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء, وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وَإنْ تَلْوُو} فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة {وَإنْ تَلْوُو} بواوين من: لو أني الرجل حقي, والقوم يلوونني دَيْني, وذلك إذا مَطَلوه, لَيّا. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة: «وَإنْ تَلُوا» بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها, ثم أسقط الهمز, فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه, وبقيت واو واحدة, كأنه أراد: تلوؤا, ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ: {وَإنْ تَلْوُو} بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب, وذلك أن الواو الثانية من قوله: {تَلْوُو} واو جمع, وهي علم لمعنى, فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها, فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة. والوجه الاَخر: أن يكون قارئها كذلك, أراد: إن تلوا, من الولاية, فيكون معناه: وإن تلوا أمور الناس, أو تتركوا. وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه, خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية. فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه, فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُو} بمعنى الليّ: الذي هو مطل, فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها, فتغيروها, وتبدّلوا, أو تعرضوا عنها, فتتركوا القيام له بها, كما يلوي الرجل دين الرجل, فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له, كما قال الأعشى:
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِيدَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا
وأما تأويل قوله: {فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} فإنه أراد: فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها, خبيرا, يعني: ذا خبرة وعلم به, يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة, المحسن منكم بإحسانه, والمسيء باساءته, يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.
الآية : 136
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو}: بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل, وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله. {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} يقول: صدّقوا بالله, وبمحمد رسوله, أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم. {والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ} يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه, وذلك القرآن. {وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين؟ قيل: إنه جلّ ثناؤه لم يسمهم مؤمنين, وإنما وصفهم بأنهم آمنوا, وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق, وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها, وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما¹ وصنف أهل إنجيل وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب, مكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان. فقال جلّ ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو} يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل, {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم, {والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ} فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم, {وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الذي تزعمون أنكم به مؤمنون, فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون, لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به, فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا, وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به, بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو}.
وأما قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته, فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر, لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه¹ وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به, والكفر بشيء منه كفر بجميعه, فلذلك قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} بعقب خطابه أهل الكتاب, وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تهديدا منه لهم, وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان. وأما قوله: {فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيد} فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل, وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا, لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده, والخروج عن دين الله: الهلاك الذي فيه البوار, والضلال عن الهدى هو الضلال.
الآية : 137
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }..
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: تأويله: {إنّ الّذِينَ آمَنُو} بموسى {ثُمّ كَفَرُو} به {ثُمّ آمَنُو} يعني النصارى بعيسى, {ثُمّ كَفَرُو} به {ثُمّ ازدادوا كُفُرْ} بمحمد, {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبيِل}. ذكر من قال ذلك:
8504ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا ثمّ آمنُوا ثمّ كفَرُوا ثمّ ازْدَادُوا كُفْر} وهم اليهود والنصارى, آمنت اليهود بالتوراة, ثم كفرت¹ وآمنت النصارى بالإنجيل, ثم كفرت¹ وكفرهم به: تركهم إياه, ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم, فقال الله: {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدَيهُمْ سَبِيل} يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى, وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
8505ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: «إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرو} قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة, ثم كفروا. ثم ذكر النصاري, ثم قال: {ثمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به, ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل عني بذلك: أهل النفاق أنهم آمنوا ثم ارتدّوا, ثم آمنوا ثم ارتدّوا, ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:
8506ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: كنا نحسبهم المنافقين, ويدخل في ذلك من كان مثلهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: ثَمّوا على كفرهم حتى ماتوا.
8507ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: ماتوا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: حتى ماتوا.
8508ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو}... الاَية, قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرّتين, وكفروا مرّتين, ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك.
وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل, أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا, فلم تقبل منهم التوبة فيها مع إقامتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:
8509ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد, عن داود بن أبي هند, عن أبي العالية: {إنّ الّذِينَ آمنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْر} قال: هم اليهود والنصارى أذنبوا في شركهم, ثم تابوا فلم تقبل توبتهم, ولو تابوا من الشرك لقبل منهم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أقرّوا بحكم التوراة, ثم كذبوا بخلافهم إياه, ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل, ثم كذب به بخلافه إياه, ثم كذّب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان, فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الاَية, لأن الاَية قبلها في قصص أهل الكتابين, أعني قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} ولا دلالة تدلّ على أن قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو} منقطع معناه من معنى ما قبله, فإلحاقه بما قبله أَوْلَى حتى تأّي دلالة دالة على انقطاعه منه.
وأما قوله: {لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فإنه يعني: لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم بعفوه عن العقوبة لهم عليه, ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد. {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيل} يقول: ولم يكن ليسدّدهم لإصابة طريق الحقّ فيوفقهم لها, ولكنه يخذلهم عنها عقوبة لهم على عظيم جرمهم وجراءتهم على ربهم. وقد ذهب قوم إلى أن المرتدّ يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الاَية, وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال يستتاب ثلاثا:
8510ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن أشعث, عن الشعبيّ, عن عليّ عليه السلام, قال: إن كنت لمستتيب المرتدّ ثلاثا. ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُو}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن عامر, عن عليّ رضي الله عنه: يستتاب المرتدّ ثلاثا, ثم قرأ: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْداداوا كُفْر}.
8511ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عبد الكريم, عن رجل, عن ابن عمر, قال: يستتاب المرتدّ ثلاثا.
وقال آخرون: يستتاب كلما ارتدّ. ذكر من قال ذلك:
8512ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عمرو بن قيس, عمن سمع إبراهيم, قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتد.
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتدّ يستتاب المرة الأولى, الدليل الواضح على أن الحكم كل مرّة ارتدّ فيها عن الإسلام حكم المرّة الأولى في أن توبته مقبولة, وأن إسلامه حقن له دمه¹ لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه, فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها, إلا أن يفرق بين حكم المرّة الأولى وسائر المرّات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم, فيخرج من حكم القياس حينئذٍ.
الآية : 138
القول في تأويل قوله تعالى: {بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَبَشّرِ المُنافِقِينَ}: أخبر المنافقين, وقد بينا معنى التبشير فيما مضى بما أغني عن إعادته. {بأنّ لَهُمْ عَذَابا أليم} يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم, عذابا أليما, وهو الموجع, وذلك عذاب جهنم.
الآية : 139
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ العِزّةَ للّهِ جَمِيعاً }..
أما قوله جلّ ثناؤه: {الّذِينَ يَتّخذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد, بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء: يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين, يعني: من غير المؤمنين. {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العزّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوّة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي. {فإنّ العِزّةِ لِلّهِ جَميع} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزّة عندهم, هم الأذلاء الأقلاّء, فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين, فيلتمسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله, الذي له العزّة والمنعة, الذي يعزّ من يشاء, ويذلّ من يشاء فيعزّهم ويمنعهم؟ وأصل العزّة: الشدّة¹ ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز, وقيل: قد اسْتِعزّ على المريض: إذا اشتدّ مرضه وكاد يُشْفِي, ويقال: تعزّز اللحم: إذا اشتدّ¹ ومنه قيل: عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا, بمعنى: اشتدّ عليّ.
الآية : 140
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: بشر المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتابِ} يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن. {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها, وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيِرِه} يعني: بعد ما علموا نهى الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه, ويستهزئون بها, {حَتّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ} يعني بقوله: {يَخُوضو}: يتحدّثوا حديثا غيره بأن لهم عذابا أليما. وقوله: {إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ} يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله, ويستهزىء بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله, يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم, لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم, وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها, كما عصوه باستهزائهم بآيات الله, فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها, فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله, وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كلّ نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم.
وبنحو ذلك كان جماعة من الأمة الماضية يقولون تأوّلاً منهم هذه الاَية, إنه مراد بها النهي عن مشاهدة كلّ باطل عند خوض أهله فيه. ذكر من قال ذلك:
8513ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب, عن إبراهيم التيمي, عن أبي وائل, قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه, فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي, فقال: صدق أبو وائل! أو ليس ذلك في كتاب الله: {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.
8514ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن إدريس, عن العلاء بن المنهال, عن هشام بن عروة, قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب, فضربهم وفيهم صائم, فقالوا: إن هذا صائم! فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضوا فِي حَدِيثٍ غيرِه إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.
8515ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِه} وقول: {وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}, وقوله: {أقِيمُوا الدّينَ ولا تَتَفَرّقُوا فِيهِ}, ونحو هذا من القرآن, قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة, ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.
وقوله: {إنّ اللّهَ جَامِعُ المُنافقينَ وَالكافرينَ فِي جَهَنّمَ} يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار, فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه, كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به أهله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: «وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ» فقرأ ذلك عامة القرّاء بضمّ النون وتثقيل الزاي وتشديدها على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأ بعض الكوفين بفتح النون وتشديد الزاي على معنى: وقد نزّل الله عليكم. وقرأ ذلك بعض المكيين: «وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ» بفتح النون وتخفيف الزاي, بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاثة وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام, غير أن الذي أختار القراءة به قراءة من قرأ: «وَقَدْ نُزّلَ» بضمّ النون وتشديد الزاي, على وجه ما لم يسمّ فاعله¹ لأن معنى الكلام فيه: التقديم على ما وصلت قبل, على معنى الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين¹ «وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ أنْ إذَا سَمعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها»... إلى قوله: {حَدِيثٍ غَيْرِه} {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزّةَ}. فقوله: {فإنّ العِزّةَ للّهِ جَميع} يعني التأخير, فلذلك كان ضمّ النون من قوله: «نُزّلَ» أصوب عندنا في هذا الموضع. وكذا اختلفوا في قراءة قوله: {والكتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِه والكِتابِ الّذِي أنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فقرأه بفتح «وأنْزَلَ» أكثر القراء, بمعنى: والكتاب الذي نزّل الله على رسوله, والكتاب الذي أنزل من قبل. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة بضمه في الحرفين كلاهما, بمعنى: ما لم يسمّ فاعله. وهما متقاربتا المعنى, غير أن الفتح في ذلك أعجب إليّ من الضمّ, لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ}
الصفحة رقم 100 من المصحف تحميل و استماع mp3