تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 166 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 166

165

قوله: 131- "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه" أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمرات ورخاء الأسعار "قالوا لنا هذه" أي أعطيناها باستحقاق، وهي مختصة بنا "وإن تصبهم سيئة" أي خصلة سيئة من الجدب والقحط وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء "يطيروا بموسى ومن معه" أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به، والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة " تطيرنا " على أنه فعل ماض، وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء، ومثل هذا قوله تعالى: "وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" قيل: ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها. قوله: "ألا إنما طائرهم عند الله" أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط هو من عند الله ليس بسبب موسى ومن معه، وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه، ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته "ولكن أكثرهم لا يعلمون" بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم.
وقرأ الحسن طيرهم قوله: 132- "وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين" قال الخليل: أصل مهما ما الشرطية زيدت عليه ما التي للتوكيد كما تزاد في سائر الحروف مثل: حيثما وأينما وكيفما ومتى ما، ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء. وقال الكسائي: أصله مه: أي اكفف ما تأتينا به من آية، وزيدت عليها ما الشرطية، وقيل: هي كلمة مفردة يجازي بها، ومحل مهما الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها، و من آية لبيان مهما، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده، وهو "لتسحرنا بها" أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم، والضمير في به عائد إلى مهما، والضمير في بها عائد إلى آية، وقيل: إنهما جميعاً عائدان إلى مهما، وتذكير الأول باعتبار اللفظ، وتأنيث الثاني باعتبار المعنى "فما نحن لك بمؤمنين" جواب الشرط: أي فما نحن لك بمصدقين: أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر.
فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز وجل المبينة بقوله: 133- "فأرسلنا عليهم الطوفان" وهو المطر الشديد. قال الأخفش: واحدة طوفانة، وقيل: هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له، وقيل الطوفان: الموت. وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل: أي ما يطيف بهم فيهلكهم "والجراد" هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها "والقمل" قيل: هي الدباء، والدباء الجراد قبل أن تطير، وقيل: هي السوس، وقيل البراغيث، وقيل دواب سود صغار، وقيل ضرب من القردان، وقيل الجعلان. قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم. وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وإسكان الميم. وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة. وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل "والضفادع" جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء "والدم" روي أنه سال النيل عليهم دماً، وقيل هو الرعاف. قوله: "آيات مفصلات" أي مبينات. قال الزجاج: هو منصوب على الحال. والمعنى: أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات "فاستكبروا" أي ترفعوا عن الإيمان بالله "وكانوا قوماً مجرمين" لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل.
قوله: 134- "ولما وقع عليهم الرجز" أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم، وقرئ بضم الراء وهما لغتان، وقيل: كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً "قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك" أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به من النبوة، أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك، والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله، أو ادع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك، وقيل إن الباء للقسم، وجوابه لنؤمنن: أي أقسمنا بعهد الله عندك "لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك" على أن جواب الشرط ساد مسد جواب القسم، وعلى أن الباء ليست للقسم تكون اللام في "لئن كشفت عنا الرجز" جواب قسم محذوف، و "لنؤمنن" جواب الشرط ساد مسد جواب القسم "ولنرسلن معك بني إسرائيل" معطوف على لنؤمنن. وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه.
135- "فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه" أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه، لكن لا رفعاً مطلقاً، بل رفعاً مقيداً بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق، وجواب لما "إذا هم ينكثون" أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم. وإذا هي الفجائية: أي فاجثوا النكث وبادروه.
136- "فانتقمنا منهم" أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة "فأغرقناهم في اليم" أي في البحر، قيل: هو الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجته وأوسطه، وجملة "بأنهم كذبوا بآياتنا" تعليل للإغراق "وكانوا عنها غافلين" معطوف على كذبوا: أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها. والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" قال: السنين الجوع. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: السنين الجوائح "ونقص من الثمرات" دون ذلك. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم، وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، واجتمعوا إلى فرعون، فقالوا: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني؟ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء، فما علم إلا بجزر الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فإذا جاءتهم الحسنة" قال: العافية والرخاء "قالوا لنا هذه" نحن أحق بها "وإن تصبهم سيئة" قال: بلاء وعقوبة "يطيروا بموسى" قال: يتشاءموا به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : " ألا إنما طائرهم عند الله " قال : الأمر من قبل الله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطوفان الموت". قال ابن كثير: هو حديث غريب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان الغرق. وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال: الطوفان الموت على كل حال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام، والقمل: الجراد الذي له أجنحة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ: "فطاف عليها طائف من ربك". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: الطوفان: الماء والطاعون والجراد. قال: يأكل مسامير أرتجهم: يعني أبوابهم وثيابهم، والقمل الدباء والضفادع تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم، والدم يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: القمل الدباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برية، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: سال النيل دماً فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيباً، ويستقي الفرعوني دماً، ويشتركان في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً طيباً وما يلي الفرعوني دماً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "والدم" قال: سلط الله عليهم الرعاف. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "آيات مفصلات" قال: كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً ليكون لله الحجة عليهم. وأخرج ابن المنذر عنه قال: يتبع بعضها بعضاً تمكث فيهم سبتاً إلى سبت ثم ترفع عنهم شهراً. وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرجز: العذاب". وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: الرجز الطاعون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلى أجل هم بالغوه" قال: الغرق. وأخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: اليم البحر. وأخرج أيضاً عن السدي مثله.
قوله: 137- "وأورثنا القوم" يعني بني إسرائيل "الذين كانوا يستضعفون" أي يذلون ويمتهون بالخدمة لفرعون وقومه "مشارق الأرض ومغاربها" منصوبان بأورثنا. وقال الكسائي والفراء: إن الأصل في مشارق الأرض ومغاربها ثم حذفت في فنصبا، والأول أظهر لأنه يقال: أورثته المال، والأرض هي مصر والشام، ومشارقها جهات مشرقها. ومغاربها جهات مغربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط، وقيل: المراد جميع الأرض لأن داود وسليمان من بني إسرائيل، وقد ملكا الأرض. قوله: "التي باركنا فيها" صفة للمشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق. قوله: "وتمت كلمة ربك الحسنى" أي مضت واستمرت على التمام والكلمة هي "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين". وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم، والحسنى: صفة للكلمة، وهي تأنيث الأحسن، وتمام هذه الكلمة "على بني إسرائيل" بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه. قوله: "ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه" التدمير الإهلاك: أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات "وما كانوا يعرشون" قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم يعرشون بضم الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة يعرشون بتشديد الراء وضم حرف المضارعة. وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة: أي ما كانوا يعرشونه من الجنات، ومنه قوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات" وقيل: معنى يعرشون يبنون، يقال: عرش يعرش: أي بنى يبني.