تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 169 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 169

168

قوله: 150- "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه، وانتصاب غضبان و أسفاً على الحال، والأسف شديد الغضب. قيل: هو منزلة وراء الغضب أشد منه وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف، قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً "قال بئسما خلفتموني من بعدي" هذا ذم من موسى لقومه: أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي: أي من بعد غيبتي عنكم، يقال: خلفه بخير وخلفه بشر، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلون حالهم واضطراب أفعالهم، ثم قال منكراً عليهم: "أعجلتم أمر ربكم" والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة، والمعنى: أعجلتم عن انتظار أمر ربكم: أي ميعاده الذي وعدنيه، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم، وقيل معناه: تعجلتم سخط ربكم، وقيل معناه: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم "وألقى الألواح" أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل. قوله: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه" أي أخذ برأس أخيه هارون أو بشعر رأسه حال كونه يجره إليه: فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل فقال هارون معتذراً منه: "ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني" أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي، ومقاربتهم لقتلي وإنما قال ابن أم مع كونه أخاه من أبيه وأمه، لأنها كلمة لين وعطف، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة. وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. قرئ ابن أم بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر، فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: إن الفتح على تقدير يابن أما. وقال البصريون هذا القول خطأ: لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الإسمين إسماً واحداً كخمسة عشر، واختاره الزجاج والنحاس. وأما من قرأ بكسر الميم فهو على تقدير ابن أمي، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة لتدل عليها. وقال الأخفش وأبو حاتم: ابن أم بالكسر كما تقول: يا غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة، وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك. وقرئ " ابن أم " بإثبات الياء. قوله: "فلا تشمت بي الأعداء" الشماتة: السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء" وهو في الصحيح، ومنه قول الشاعر: إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخــرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا والمعنى: لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار "فلا تشمت بي الأعداء" بفتح حرف المضارعة وفتح الميم ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم: أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي. وروي عن مجاهد أنه قرأ "تشمت" كما تقدم عنه مع نصب الأعداء. قال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يا رب وجاز هذا كما في قوله: "الله يستهزئ بهم" ونحوه ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كأنه قال: ولا تشمت يا رب بي الأعداء، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب. قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" أي لا تجعلني بغضبك علي في عداد القوم الظالمين: يعني الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم.
قوله: 151- "قال رب اغفر لي ولأخي" هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا؟ فقيل: "قال رب اغفر لي ولأخي" طلب المغفرة له أولاً، ولأخيه ثانياً ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة، فكأنه تذمم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له، وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه، ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليهم من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم، ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء فهو "أرحم الراحمين". وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "واتخذ قوم موسى" الآية، قال: حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: استعاروا حلياً من آل فرعون، فجمعه السامري فصاغ منه "عجلاً" فجعله "جسداً" لحماً ودماً "له خوار". وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "خوار" قال: الصوت. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يئن ألم تر أن الله قال: "ألم يروا أنه لا يكلمهم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "سقط في أيديهم" قال: ندموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس "أسفاً" قال: حزيناً. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب قال: الأسف الغضب الشديد. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" قال: مع أصحاب العجل.
الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب، والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: "ضربت عليهم الذلة"، وقيل هي إخراجهم من ديارهم، وقيل هي الجزية، وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم، وإنما أخذت من ذراريهم. والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا لقوله: 152- "في الحياة الدنيا" وإن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً لا لمن بعدهم من ذراريهم ومجرد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم، وبه يصيرون أذلاء، وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم، وبه يصبرون أذلاء وأما ما نال ذراريهم من الذلة فلا يصح تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي، وهو لم يتعذر هنا "وكذلك نجزي المفترين" أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين، والافتراء الكذب، فمن افترى على الله سيناله من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا، وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه وأن فيه ذلة بأي نوع كان.
153- "والذين عملوا السيئات" أي سيئة كانت "ثم تابوا" عنها "من بعد" عملـ " من بعدها وآمنوا " بالله "إن ربك من بعدها" أي من بعد هذه التوبة، أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله "لغفور رحيم" أي كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم.
قوله: 154- "ولما سكت عن موسى الغضب" أصل السكوت السكون والإمساك، يقال: جرى الوادي ثلاثاً ثم سكن: أي أمسك عن الجري: قيل: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت، وقيل: هذا الكلام فيه قلب، والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم: أدخلت الأصبع الخاتم، والخاتم الأصبع، وأدخلت القلنسوة رأسي، ورأسي القلنسوة. وقرأ معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب وقرئ سكت وأسكت "أخذ الألواح" التي ألقاها عند غضبه "وفي نسختها هدى ورحمة" النسخ نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر، ويقال للأصل الذي كان النقل منه: نسخة وللمنقول نسخة أيضاً. قال القشيري. والمعنى "وفي نسختها": أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة "هدى ورحمة" وقيل المعنى: وفيما نسخ له منها: أي من اللوح المحفوظ، وقيل المعنى: وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وهذا كما يقال: أنسخ ما يقول فلان: أي أثبته في كتابك والنسخة فعلة، بمعنى مفعولة كالخطبة. والهدى ما يهتدون به من الأحكام، والرحمة ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، واللام في "للذين هم" متعلقة بمحذوف: أي كائنة لهم أو لأجلهم، واللام في "لربهم يرهبون" للتقوية للفعل لما كان مفعوله متقدماً عليه فإنه يضعف بذلك بعض الضعف. وقد صرح الكسائي بأنها زائدة. وقال الأخفش: هي لام الأجل أي لأجل ربهم يرهبون. وقال محمد بن يزيد المبرد: هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور، والتقدير: للذين هم رهبتهم لربهم يرهبون. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أيوب قال: تلا أبو قلابة هذه الآية "إن الذين اتخذوا العجل" إلى قوله: "وكذلك نجزي المفترين" قال: هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة، ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفاً على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع: " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة " قال: فيما بقي منها. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح من زمرد فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل، وبقي الهدى والرحمة، وقرأ وكتبنا له في الألواح موعظة وتفصيلاً لكل شيء وقرأ "ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة" قال: ولم يذكر التفصيل هاهنا.
قوله: 155- "واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا" هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، وسبعين مفعول اختار، وقومه منصوب بنزع الخافض: أي من قومه على الحذف والإيصال، ومثله قول الراعي: اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واعتل من كان يرجى عنده السول يريد اخترتك من الناس، ومعنى "لميقاتنا" للوقت الذي وقتناه له بعد أن وقع من قومه ما وقع، والميقات الكلام الذي تقدم ذكره لأن الله أمره أن يأتي إلى الطور في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل كذا قيل، والرجفة في اللغة: الزلزلة الشديدة، قيل: إنهم زلزلوا حتى ماتوا، فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم: "قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قاله عليه السلام تحسراً وتلهفاً، لأن سبب أخذ الرجفة لهم "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة" على ما تقدم في البقرة، وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا "أرنا الله جهرة" بل أخذتهم الرجفة، بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل، وقيل: إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ولا نهوا السامري ومن معه عن عبادته، فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم والمعنى لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا قبل هذا الوقت اعترافاً منه عليه السلام بالذنب، وتلهفاً على ما فرط من قومه والاستفهام في قوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" للجحد: أي لست ممن يفعل ذلك، قاله ثقة منه برحمة الله، والمقصود منه الاستعطاف والتضرع، وقيل معناه الدعاء والطلب: أي لا تهلكنا. قال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام الإعظام كأنه يقول: وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره، ولكنه كقول عيسى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك"، وقيل المراد بالسفهاء: السبعون، والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم: "أرنا الله جهرة"، وقيل المراد بهم: السامري وأصحابه. قوله: "إن هي إلا فتنتك" أي ما الفتنة التي وقع فيها هؤلاء السفهاء إلا فتنتك التي تختبر بها من شئت وتمتحن بها من أردت، ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه: "إنا قد فتنا قومك من بعدك" "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" أي تضل بهذه الفتنة من تشاء من عبادك وتهدي بها من تشاء منهم، ومثله: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا "، ثم رجع إلى الاستعطاف والدعاء فقال: "أنت ولينا" أي المتولي لأمورنا "فاغفر لنا" ما أذنبناه "وارحمنا" برحمتك التي وسعت كل شيء "وأنت خير الغافرين" للذنوب.