تفسير الطبري تفسير الصفحة 169 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 169
170
168
 الآية : 150
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: ولـما رجع موسى إلـى قومه من بنـي إسرائيـل, رجع غضبـان أسفـا, لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومُه, وأن السامريّ قد أضلهم, فكان رجوعه غضبـان أسفـا لذلك. والأسف: شدّة الغضب والتغيظ به علـى من أغضبه. كما:
11816ـ حدثنـي عمران بن بكار الكُلاعي, قال: حدثنا عبد السلام بن مـحمد الـحضرمي, قال: ثنـي شريح بن يزيد, قال: سمعت نصر بن علقمة, يقول: قال أبو الدرداء: قول الله: غَضْبـانَ أسِفـا, قال: الأسف: منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك, وتفسير ذلك فـي كتاب الله: ذهب إلـى قومه غضبـان, وذهب أسفـا.
وقال آخرون فـي ذلك ما:
11817ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أَسِفـا قال: حزينا.
11818ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَلـمّا رَجَعَ مُوسَى إلـى قَوْمِهِ غَضْبـانَ أسِفـا يقول: أسفـا حزينا. وقال فـي الزخرف فلـمّا آسفُونَا يقول: أغضبونا. والأسف علـى وجهين: الغضب والـحزن.
11819ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: حدثنا سلـيـمان بن سلـيـمان, قال: حدثنا مالك بن دينار, قال: سمعت الـحسن يقول فـي قوله: وَلـمّا رَجَعَ مُوسَى إلـى قَوْمِهِ غَضْبـانَ أسِفـا قال: غضبـان حزينا.
وقوله قال: بِئْسَما خَـلَفْتُـمُونِـي مِنْ بَعْدِي يقول: بئس الفعل فعلتـم بعد فراقـي إياكم وأولـيتـمونـي فـيـمن خـلفت من ورائي من قومي فـيكم ودينـي الذي أمركم به ربكم. يقال منه: خـلفه بخير وخـلفه بشرّ إذا أولاه فـي أهله أو قومه ومن كان منه بسبـيـل من بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرّا. وقوله: أعَجِلْتُـمْ أمْرَ رَبّكُمْ يقول: أسبقتـم أمر ربكم فـي نفوسكم, وذهبتـم عنه؟ يقال منه: عجل فلان هذا الأمر: إذا سبقه, وعجل فلانٌ فلانا إذا سبقه, ولا تعجَلنـي يا فلان: لا تذهب عنـي وتدعنـي, وأعجلته: استـحثثته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وألْقَـى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ قالَ ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِـي وكادُوا يَقْتُلُونَنِـي.
يقول تعالـى ذكره: وألقـى موسى الألواح. ثم اختلف أهل العلـم فـي سبب إلقائه إياه, فقال بعضهم: ألقاها غضبـا علـى قومه الذي عبدوا العجل. ذكر من قال ذلك:
11820ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبـي أيوب قال: ثنـي سعيد بن جبـير, قال: قال ابن عبـاس: وَلـمّا رَجَعَ مُوسَى إلـى قَوْمِهِ غَضْبـانَ أسِفـا فأخذ برأس أخيه يجرّه إلـيه, وألقـى الألواح من الغضب.
11821ـ وحدثنـي عبد الكريـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا ابن عيـينة, قال: قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما رجع موسى إلـى قومه, وكان قريبـا منهم, سمع أصواتهم فقال: إنـي لأسمع أصوات قوم لاهين. فلـما عاينهم وقد عكفوا علـى العجل ألقـى الألواح فكسرها, وأخذ برأس أخيه يجرّه إلـيه.
11822ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أخذ موسى الألواح ثم رجع موسى إلـى قومه غضبـان أسفـا, فقال: يا قَوْمِ أَلَـمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْدا حَسَنا. إلـى قوله: فكذَلكَ ألْقَـى السّامِرِيّ ف ألْقَـى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأَسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ قال يا ابْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِـحْيَتِـي وَلا بِرأسِي.
11823ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما انتهى موسى إلـى قومه فرأى ما هم علـيه من عبـادة العجل, ألقـى الألواح من يده, ثم أخذ برأس أخيه ولـحيته يقول: ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِ أفَعَصَيْتَ أمْرِي؟.
وقال آخرون: إنـما ألقـى موسى الألواح لفضائل أصابها فـيها لغير قومه, فـاشتدّ ذلك علـيه. ذكر من قال ذلك:
11824ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أخَذَ الألْوَاحَ قال: رَبّ إنـي أجد فـي الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس, يأمرون بـالـمعروف وينهون عن الـمنكر, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة هم الاَخرون السابقون: أي آخرون فـي الـخـلق, سابقون فـي دخول الـجنة, ربّ اجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة أناجيـلهم فـي صدورهم يقرءونها, وكان مَن قبلَهم يقرءون كتابهم نظرا حتـى إذا رفعوها لـم يحفظوا شيئا ولـم يعرفوه قال قتادة: وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الـحفظ شيئا لـم يعطه أحدا من الأمـم قال: ربّ اجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة يؤمنون بـالكتاب الأوّل وبـالكتاب الاَخِر, ويقاتلون فصول الضلالة حتـى يقاتلوا الأعور الكذاب, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها فـي بطونهم ثم يؤجرون علـيها, وكان مَن قبلهم من الأمـم إذا تصدّق بصدقة فقبلت منه, بعث الله علـيهم نارا فأكلتها, وإن ردّت علـيه تركت تأكلها الطير والسبـاع, قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنـيكم لفقـيركم, قال: ربّ اجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لـم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلـى سبعمائة, ربّ اجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لـم تكتب علـيه حتـى يعملها, فإذا عملها كتبت علـيه سيئة واحدة, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة هم الـمستـجيبون والـمستـجاب لهم فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة هم الـمشفّعون والـمشفوع لهم, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: وذكر لنا أن نبـيّ الله موسى علـيه السلام نبذ الألواح وقال: اللهمّ اجعلنـي من أمة أحمد قال: فأُعطي نبـيّ الله موسى علـيه السلام ثنتـين لـم يعطهما نبـيّ, قال الله: يا مُوسَى إنّـي اصْطَفَـيْتُكَ عَلـى النّاسِ برِسالاتـي وبِكَلامي قال: فرضي نبـي الله. ثم أُعطي الثانـية: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يَهْدُونَ بـالـحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال: فرضي نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا.
حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: لـما أخذ موسى الألواح, قال: يا ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة هم خير الأمـم, يأمرون بـالـمعروف, وينهون عن الـمنكر, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد. قال: يا ربّ إنـي أجد فـي الألواح أمة هم الاَخرون السابقون يوم القـيامة, فـاجعلهم أمتـي قال: تلك أمة أحمد, ثم ذكر نـحو حديث بشر بن معاذ, إلا أنه قال فـي حديثه: فألقـى موسى علـيه السلام الألواح وقال: اللهمّ اجعلنـي من أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه علـى قومه لعبـادتهم العجلَ لأن الله جلّ ثناؤه بذلك أخبر فـي كتابه, فقال: وَلـمّا رَجَعَ مُوسَى إلـى قَوْمِهِ غَضْبـانَ أسِفـا بِئْسَما خَـلَفْتُـمُونِـي مِنْ بَعْدِي أعَجِلْتُـمْ أمْرَ رَبّكُمْ وألْقَـى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ وذلك أن الله لـما كتب لـموسى علـيه السلام فـي الألواح التوراة, أدناه منه حتـى سمع صريف القلـم. ذكر من قال ذلك:
11825ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن السديّ, عن أبـي عمارة, عن علـيّ علـيه السلام قال: كتب الله الألواح لـموسى علـيه السلام وهو يسمع صريف الأقلام فـي الألواح.
11826ـ قال: ثنا إسرائيـل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, قال: أدناه حتـى سمع صريف الأقلام.
وقـيـل: إن التوراة كانت سبعة أسبـاع فلـما ألقـى موسى الألواح تكسرت, فرفع منها ستة أسبـاعها, وكان فـيـما رفع تفصيـل كلّ شيء الذي قال الله: وكَتَبْنا لَهُ فِـي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ وبقـي الهدى والرحمة فـي السبع البـاقـي, وهو الذي قال الله: أخذَ الألْواحَ وفـي نُسخِتها هُدًى وَرَحْمَةٌ للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبونَ. وكانت التوراة فـيـما ذكر سبعين وِقر بعير يقرأ منها الـجزء فـي سنة كما:
11827ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن خالد الـمكفوف, قال: حدثنا عبد الرحمن, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس, قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير, يقرأ منها الـجزء فـي سنة, لـم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران, وعيسى, وعُزير, ويوشع بن نون صلوات الله علـيهم.
واختلفوا فـي الألواح, فقال بعضهم: كانت من زمرّد أخضر. وقال بعضهم: كانت من ياقوت. وقال بعضهم: كانت من برَد. ذكر الرواية بـما ذكرنا من ذلك:
11828ـ حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـي, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: ألقـى موسى الألواح فتكسرت, فرفعت إلا سدسها. قال: ابن جريج: وأخبرنـي أن الألواح من زبرجد وزمرّد من الـجنة.
11829ـ وحدثنـي موسى بن سهل الرملـي وعلـيّ بن داود وعبد الله بن أحمد بن شبويه وأحمد بن الـحسن الترمذي, قالوا: أخبرنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: كانت ألواح موسى علـيه السلام من بَرَد.
11830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبـي الـجنـيد, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, قال: سألت سعيد بن جبـير عن الألواح من أيّ شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة كتابة الذهب كتبها الرحمن بـيده, فسمع أهل السموات صريف القلـم وهو يكتبها.
11831ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا عبد الرحمن, عن مـحمد بن أبـي الوضاح, عن خصِيف, عن مـجاهد أو سعيد بن جبـير قال: كانت الألواح زمرّدا, فلـما ألقـى موسى الألواح بقـي الهدى والرحمة, وذهب التفصيـل.
11832ـ قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا الأشجعي, عن مـحمد بن مسلـم, عن خَصيف, عن مـجاهد, قال: كانت الألواح من زمرّد أخضر.
وزعم بعضهم أن الألواح كانت لوحين, فإن كان الذي قال كما قال, فإنه قـيـل: وكَتَبْنا لَهُ فِـي الألْوَاحِ وهما لوحان, كما قـيـل: فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ وهما أخوان.
وأما قوله: وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ فإن ذلك من فعل نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان لـموجدته علـى أخيه هارون فـي تركه اتبـاعه وإقامته مع بنـي إسرائيـل فـي الـموضع الذي تركهم فـيه, كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عن قـيـل موسى علـيه السلام له: ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِـي أفَعَصَيْتَ أمْرِي؟ حين أخبره هارون بعذره, فقبل عذره, وذلك قـيـله لـموسى: لا تَأْخُذْ بِلِـحْيَتِـي وَلا بِرأسِي إنّـي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرّقْتَ بـينَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَلـمْ تَرْقُبْ قَوْلـي وقال: يا ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِـي وكادُوا يَقْتُلُونِنـي فَلا تُشْمِتْ بِـيَ الأعْدَاء... الاَية.
واختلفت القرّاء فـي قراء ة قوله «يا ابْنَ أُمّ» فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة وبعض أهل البصرة: «يا ابْنَ أُمّ» بفتـح الـميـم من الأمّ. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: «يا ابْنَ أُمّ» بكسر الـميـم من الأم.
واختلف أهل العربـية فـي فتـح ذلك وكسره, مع إجماع جميعهم علـى أنهما لغتان مستعملتان فـي العرب. فقال بعض نـحويـي البصرة: قـيـل ذلك بـالفتـح علـى أنهما اسمان جعلا اسما واحدا, كما قـيـل: يا ابن عمّ, وقال: هذا شاذّ لا يقاس علـيه, وقال: من قرأ ذلك: «يا ابن أمّ», فهو علـى لغة الذين يقولون: هذا غلام قد جاء, جعله اسما واحدا آخره مكسور, مثل قوله خازِ بـازِ. وقال بعض نـحويـي الكوفة: قـيـل: يا ابن أمّ ويا ابن عمّ, فنصب كما ينصب الـمعرب فـي بعض الـحالات, فـيقال: يا حسرتا, يا ويـلتا, قال: فكأنهم قالوا: يا أماه ويا عماه ولـم يقولوا ذلك فـي أخ, ولو قـيـل ذلك لكان صوابـا. قال: والذين خفضوا ذلك فإنه كثر فـي كلامهم حتـى حذفوا الـياء. قال: ولا تكاد العرب تـحذف الـياء إلا من الاسم الـمنادى يضيفه الـمنادِي إلـى نفسه, إلا قولهم: يا ابن أمّ, ويا ابن عمّ وذلك أنهما يكثر استعمالهما فـي كلامهم, فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الـياء, فقالوا: يا ابن أبـي, ويا ابن أختـي وأخي, ويا ابن خالتـي, ويا ابن خالـي.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إذا فُتـحت الـميـم من «ابن أمّ», فمراد به الندبة: يا ابن أماه, وكذلك من ابن عمّ فإذا كُسرت, فمراد به الإضافة, ثم حذفت الـياء التـي هي كناية اسم الـمخِبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر, ككسر الزاي من خازِ بـازِ, لأن خازِ بـازِ لا يعرف الثانـي إلا بـالأوّل ولا الأوّل إلا بـالثانـي, فصار كالأصوات. وحُكي عن يونس النـحوي تأنـيث أمّ وتأنـيث عمّ, وقال: لا يجعل اسما واحدا إلا مع ابن الـمذكر. قالوا: وأما اللغة الـجيدة والقـياس الصحيح فلغة من قال: «يا ابن أمي» بإثبـات الـياء, كما قال أبو زَبـيد:
يا بْنَ أُمّي ويا شُقَـيّقَ نَفْسِيأنْتَ خَـلّفْتَنِـي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
وكما قال الاَخر:
يا بْنَ أُمّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْعُو تَـمِيـما وأنْتَ غيرُ مُـجَابِ
وإنـما أثبت هؤلاء الـياء فـي الأم لأنها غير مناداة, وإنـما الـمنادي هو الابن دونها, وإنـما تسقط العرب الـياء من الـمنادى إذا أضافته إلـى نفسها, لا إذا أضافته إلـى غير نفسها, كما قد بـينا. وقـيـل: إن هارون إنـما قال لـموسى علـيه السلام: «يا ابن أمّ», ولـم يقل: «يا ابن أبـي», وهما لأب واحد وأم واحدة, استعطافـا له علـى نفسه برحِم الأم. وقوله: إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِـي وكادُوا يَقْتُلُونَنِـي يعنـي بـالقوم الذين عكفوا علـى عبـادة العجل, وقالوا هذا إلهنا وإله موسى, وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه, تركهم طاعته واتبـاع أمره. وكَادُوا يَقْتُلُونَنـي يقول: قاربوا ولـم يفعلوا.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله: فَلا تُشْمِتْ فقرأ قرّاء الأمصار ذلك: فَلاَ تُشْمِتْ بِـيَ الأعْدَاءَ بضمّ التاء من تُشمت وكسر الـميـم منها, من قولهم: أشمت فلان فلانا بفلان, إذا سرّه فـيه بـما يكرهه الـمُشمَت به. ورُوي عن مـجاهد أنه قرأ ذلك: «فلا تَشْمُتْ بِـيَ الأعْدَاءُ».
11833ـ حدثنـي بذلك عبد الكريـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال حميد بن قـيس قرأ مـجاهد: «فَلا تَشْمُتْ بِـيَ الأعْدَاءَ».
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير, عن ابن عيـينة, عن حميد, قال: قرأ مـجاهد: «فَلا تَشْمُتْ بِـيَ الأعْدَاءُ».
حُدثت عن يحيى بن زياد الفرّاء, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن رجل, عن مـجاهد أنه قال: لا تَشْمُتْ.
وقال الفرّاء: قال الكسائي: ما أدري, فلعلهم أرادوا: فَلاَ تُشْمِتْ بِـيَ الأعْدَاءَ فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: فَرِغْتُ وَفَرَغْتُ, فمن قال: فَرِغْتُ قال: أنا أفْرَغُ, ومن قال: فَرَغْتَ قال: أنا أفْرُغُ, وكذلك رَكِبْت وَرَكَنْتُ وشَمِلَهم أمر وشَمَلَهم, فـي كثـير من الكلام. قال: «والأعداء» رَفْع لأن الفعل لهم لـمن قال تَشْمَتُ أو تَشْمُت.
والقراءة التـي لا أستـجيز القراءة إلا بها قراءة من قرأ: فَلا تُشْمِتْ بضم التاء الأولـى وكسر الـميـم من أشمتّ به عدوّه أشْمِته به, ونصب الأعداء لإجماع الـحجة من قراء الأمصار علـيها وشذوذ ما خالفها من القراءة, وكفـى بذلك شاهدا علـى ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلـم بكلام العرب: شمّتَ فلان فلانا بفلان, وشمَت فلان بفلان يشمُت به, وإنـما الـمعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوّه شَمِتَ به بكسر الـميـم يَشْمَتُ به بفتـحها فـي الاستقبـال.
وأما قوله: وَلا تَـجْعَلْنِـي مَعَ القَوْمِ الظّالِـمِينَ فإنه قول هارون لأخيه موسى, يقول: لا تـجعلنـي فـي موجدتك علـيّ وعقوبتك لـي ولـم أخالف أمرك مـحلّ من عصاك فخالف أمرك وعبد العجل بعدك فظلـم نفسه وعبد غير من له العبـادة, ولـم أشايعهم علـى شيء من ذلك. كما:
11834ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلا تَـجْعَلْنِـي مَعَ القَوْمِ الظّالِـمِينَ قال: أصحاب العجل.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد. بـمثله.
الآية : 151
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: قال موسى لـما تبـين له عذر أخيه, وعلـم أنه لـم يفرّط فـي الواجب الذي كان علـيه من أمر الله فـي ارتكاب ما فعله الـجهلة من عبدة العجل: رَبّ اغْفِرْ لـي مستغفرا من فعله بأخيه, ولأخيه من سالف له بـينه وبـين الله, تغمد ذنوبنا بستر منك تسترها به. وأدْخِـلْنا فِـي رَحْمَتِكَ يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبـادك الـمؤمنـين, فإنك أنت أرحم بعبـادك من كلّ من رحم شيئا.
الآية : 152
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ اتّـخَذُوا العِجْلَ إلها, سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ بتعجيـل الله لهم ذلك, وَذِلّةٌ وهي الهوان, لعقوبة الله إياهم علـى كفرهم بربهم فـي الـحَياةِ الدّنْـيا فـي عاجل الدنـيا قبل آجل الاَخرة. وكان ابن جريج يقول فـي ذلك بـما:
11835ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: إنّ الّذِينَ اتّـخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا وكذلكَ نَـجْزِي الـمُفْتَرِينَ قال: هذا لـمن مات مـمن اتـخذ العجل قبل أن يرجع موسى علـيه السلام, ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا.
وهذا الذي قاله ابن جريج, وإن كان قولاً له وجه, فإن ظاهر كتاب الله مع تأويـل أكثر أهل التأويـل بخلافه وذلك أن الله عمّ بـالـخبر عمن اتـخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فـي الـحياة الدنـيا. وتظاهرت الأخبـار عن أهل التأويـل من الصحابة والتابعين بأن الله, إذ رجع إلـى بنـي إسرائيـل موسى علـيه السلام, تاب علـى عَبَدة العجل من فعلهم, بـما أخبر به عن قـيـل موسى علـيه السلام فـي كتابه, وذلك قوله: وَإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَـمْتُـمْ أنْفُسَكُمْ بـاتّـخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ فـاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ فَفعلوا ما أمرهم به نبـيهم صلى الله عليه وسلم, فكان أمر الله إياهم بـما أمرهم به من قتل بعضهم أنفس بعض, عن غضب منه علـيهم بعبـادتهم العجل, فكان قتل بعضهم بعضا هوانا لهم وذلة أذّلهم الله بها فـي الـحياة الدنـيا, وتوبة منهم إلـى الله قِبَلها. ولـيس لأحد أن يجعل خبرا جاء الكتاب بعمومه فـي خاصّ مـما عمه الظاهر بغير برهان من حجة خبر أو عقل, ولا نعلـم خبرا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله: إنّ الّذِينَ اتّـخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ إلـى بـاطن خاصّ, ولا من العقل علـيه دلـيـل, فـيجب إحالة ظاهره إلـى بـاطنه.
ويعنـي بقوله: وكذلكَ نَـجْزِي الـمُفْتَرِينَ وكما جزيتُ هؤلاء الذين اتـخذوا العجل إلها من إحلال الغضب بهم, والإذلال فـي الـحياة الدنـيا علـى كفرهم ربهم, وردتهم عن دينهم بعد إيـمانهم بـالله, وكذلك نـجزي كلّ من افترى علـى الله فكذب علـيه وأقرّ بألوهية غيره وعبد شيئا سواه من الأوثان بعد إقراره بوحدانـية الله, وبعد إيـمانه به وبأنبـيائه ورسله وقِـيـلِ ذلك, إذا لـم يتب من كفره قبل قتله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11836ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, قال: تلا أبو قِلابة: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا... الاَية, قال: فهو جزاء كلّ مفتر يكون إلـى يوم القـيامة, أن يذله الله عزّ وجلّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو النعمان عارم, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, قال: قرأ أبو قلابة يوما هذه الاَية: إنّ الّذِينَ اتّـخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا وكذلكَ نَـجْزِي الـمُفْتَرِينَ قال: هي والله لكلّ مفتر إلـى يوم القـيامة.
11837ـ قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, عن ثابت وحميد: أن قـيس بن عبـاد وجارية بن قدامة دخلا علـى علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه, فقالا: أرأيت هذا الأمر الذي أنت فـيه وتدعو إلـيه, أعهد عهده إلـيك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته؟ قال: مالكما ولهذا؟ أعرضا عن هذا فقالا: والله لا نعرض عنه حتـى تـخبرنا. فقال: ما عهد إلـيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتابـا فـي قراب سيفـي هذا. فـاستلّه فأخرج الكتاب من قراب سيفه, وإذا فـيه: «إنّهُ لَـمْ يَكُنْ نَبِـيّ إلاّ لَهُ حَرَمٌ, وإنّـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ كمَا حَرّمَ إبْرَاهِيـمُ عَلَـيْهِ السّلامُ مَكّةَ, لا يُحْمَلُ فِـيها السّلاحُ لِقِتالٍ, مَنْ أحْدَثَ حَدَثا أوْ آوَى مُـحْدِثا فعَلَـيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالـمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أجَمعِينَ, لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ» فلـما خرجا قال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الكتاب؟ فرجعا وتركاه, وقالا: إنا سمعنا الله يقول: إنّ الّذِينَ اتّـخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ... الاَية, وإن القوم قد افتروا فرية, ولا أدري إلا سينزل بهم ذلة.
11838ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير, عن ابن عيـينة: فـي قوله: وكذلكَ نَـجْزِي الـمُفْتَرِينَ. قال: كل صاحب بدعة ذلـيـل.
الآية : 153
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ }..
وهذا خبر من الله تعالـى ذكره أنه قابل من كلّ تائب إلـيه من ذنب أتاه صغيرة كانت معصيته أو كبـيرة, كفرا كانت أو غير كفر, كما قبل من عَبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبـادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جلّ ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة ثم رجعوا إلـى طلب رضا الله بإنابتهم إلـى ما يحبّ مـما يكره وإلـى ما يرضى مـما يسخط من بعد سيىء أعمالهم, وصدّقوا بأن الله قابل توبة الـمذنبـين وتائب علـى الـمنـيبـين بإخلاص قلوبهم ويقـين منهم بذلك, لَغَفُورٌ لهم, يقول: لساتر علـيهم أعمالهم السيئة, وغير فـاضحهم بها, رحيـم بهم, وبكلّ من كان مثلهم من التائبـين.
الآية : 154
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلـمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ ولـما كفّ موسى عن الغضب, وكذلك كلّ كافَ عن شيء ساكت عنه. وإنـما قـيـل للساكت عن الكلام ساكت: لكفه عنه. وقد ذكر عن يونس النـحويّ أنه قال: يقال سكت عنه الـحزن وكلّ شيء فـيـما زعم ومنه قول أبـي النـجم:
وَهمّتِ الأفْعَى بِأنْ تَسِيحَاوَسَكَتَ الـمُكّاءُ أنْ يَصِيحَا
أخَذَا الأَلْوَاحَ يقول: أخذها بعد ما ألقاها, وقد ذهب منها ما ذهب. وفِـي نُسْخَتِها هُدًى وَرَحْمَةٌ يقول: وفـيـما نسخ فـيها: أي منها هدى بـيان للـحقّ ورحمة. للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يقول: للذين يخافون الله, ويخشون عقابه علـى معاصيه.
واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول اللام فـي قوله: لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ مع استقبـاح العرب أن يقال فـي الكلام: رهبت لك: بـمعنى رهبتك, وأكرمت لك: بـمعنى أكرمتك, فقال بعضهم: ذلك كما قال جلّ ثناؤه: إنْ كُنْتُـمْ للرّؤْيا تَعْبُرُونَ أوصل الفعل بـاللام. وقال بعضهم: من أجل ربهم يرهبون. وقال بعضهم: إنـما دخـلت عقب الإضافة الذين هم راهبون لربهم وراهبو ربهم ثم أدخـلت اللام علـى هذا الـمعنى لأنها عقـيب الإضافة لا علـى التعلـيق. وقال بعضهم: إنـما فعل ذلك لأن الاسم تقدّم الفعل, فحسن إدخال اللام. وقال آخرون: قد جاء مثله فـي تأخير الاسم فـي قوله: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ. وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: نقدت له مائة درهم, يريد نقدته مائة درهم. قال: والكلام واسع.
الآية : 155
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يـلقاه فـيه بهم للتوبة مـما كان من فعل سفهائهم فـي أمر العجل. كما:
11839ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: إن الله أمر موسى علـيه السلام أن يأتـيه فـي ناس من بنـي إسرائيـل يعتذرون إلـيه من عبـادة العجل, ووعدهم موعدا. فـاختار موسى قومه سبعين رجلاً علـى عينه, ثم ذهب بهم لـيعتذروا, فلـما أتوا ذلك الـمكان, قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتـى نرى الله جهرة, فإنك قد كلـمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبنـي إسرائيـل إذا أتـيتهم وقد أهلكت خيارهم, لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
11840ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: اختار موسى من بنـي إسرائيـل سبعين رجلاً الـخّير فـالـخير, وقال: انطلقوا إلـى الله فتوبوا إلـيه مـما صنعتـم, واسألوه التوبة علـى من تركتـم وراءكم من قومكم, صوموا, وتطهّروا, وطهّروا ثـيابكم فخرج بهم إلـى طور سينا لـميقات وقّته له ربه, وكان لا يأتـيه إلا بإذن منه وعلـم, فقال السبعون فـيـما ذكر لـي حين صنعوا ما أمرهم به, وخرجوا معه للقاء ربه لـموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال: أفعل. فلـما دنا موسى من الـجبل, وقع علـيه عمود الغمام حتـى تغشى الـجبل كله, ودنا موسى فدخـل فـيه, وقال للقوم: ادنوا وكان موسى إذا كلـمه الله, وقع علـى جبهته نور ساطع, لا يستطيع أحد من بنـي آدم أن ينظر إلـيه. فضُرب دونه بـالـحجاب, ودنا القوم حتـى إذا دخـلوا فـي الغمام وقعوا سجودا, فسمعوه وهو يكلـم موسى, يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلـما فرغ الله من أمره, وانكشف عن موسى الغمام, أقبل إلـيهم, فقالوا لـموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً, فَأخَذتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة, فـالتقت أرواحهم فماتوا جميعا, وقام موسى علـيه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إلـيه, ويقول: ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي, قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بنـي إسرائيـل؟
11841ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا قال: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً, فـاختار سبعين رجلاً, فبرز بهم لـيدعوا ربهم, فكان فـيـما دعوا الله أن قالوا: اللهمّ أعطنا ما لـم تعط أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم, فأخذتهم الرجفة. قال موسى: رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ.
11842ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا خالد بن حيان, عن جعفر, عن ميـمون: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا قال: لـموعدهم الذي وعدهم.
11843ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا قال: اختارهم لتـمام الوعد.
وقال آخرون: إنـما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم علـى موسى قتل هارون. ذكر من قال ذلك:
11844ـ حدثنا ابن بشار وابن وكيع, قالا: حدثنا يحيى بن يـمان, قال: حدثنا سفـيان, قال: ثنـي أبو إسحاق, عن عمارة بن عبد السلولـي, عن علـيّ رضي الله عنه, قال: انطلق موسى وهارون وشَبّر وشَبِـير, فـانطلقوا إلـى سفح جبل, فنام هارون علـى سرير, فتوفـاه الله. فلـما رجع موسى إلـى بنـي إسرائيـل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفـاه الله. قالوا: أنت قتلته, حسدتنا علـى خـلقه ولـينه أو كلـمة نـحوها قال: فـاختاروا من شئتـم قال: فـاختاروا سبعين رجلاً. قال: فذلك قوله: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا. قال: فلـما انتهوا إلـيه قالوا: يا هارون من قتلك؟ قال: ما قتلنـي أحد, ولكننـي توفـانـي الله. قالوا: يا موسى لن نعصيَ بعد الـيوم قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يـمينا وشمالاً, وقال: يا رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيّ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبـياء كلهم.
11845ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي سلول, أنه سمع علـيّا رضي الله عنه يقول فـي هذه الاَية: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا قال: كان هارون حسن الـخـلق مـحببـا فـي بنـي إسرائيـل. قال: فلـما مات دفنه موسى. قال: فلـما أتـى بنـي إسرائيـل, قالوا له: أين هاون؟ قال: مات. فقالوا: قتلته قال: فـاختار منهم سبعين رجلاً. قال: فلـما أتوا القبر, قال موسى: أُقتلت أو متّ؟ قال: متّ. قال: فأصعقوا, فقال موسى: ربّ ما أقول لبنـي إسرائيـل إذا رجعت؟ يقولون: أنت قتلتهم قال: فأحيوا وجعلوا أنبـياء.
11846ـ حدثنـي عبد الله بن الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا الربـيع بن حبـيب, قال: سمعت أبـا سعيد, يعنـي الرقاشيّ, وقرأ هذه الاَية: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا فقال: كانوا أبناء ما عدا عشرين ولـم يتـجاوزوا الأربعين, وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصبـاه, وأن من لـم يتـجاوز الأربعين لـم يفقد من عقله شيئا.
وقال آخرون: إنـما أخذت القوم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل, لا لأنهم كانوا من عبَدته. ذكر من قال ذلك:
11847ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا فقرأ حتـى بلغ: السّفَهاءُ مِنا ذكر لنا أن ابن عبـاس كان يقول: إنـما تناولتهم الرجفة لأنهم لـم يزايـلوا القوم حين نصبوا العجل, وقد كرهوا أن يجامعوهم علـيه.
11848ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا مـمن لـم يكن قال ذلك القول علـى أنهم لـم يجامعوهم علـيه, فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لـم يكونوا بـاينوا قومهم حين اتـخذوا العجل. فلـما خرجوا ودعوا, أماتهم الله ثم أحياهم. فَلَـمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وأيّايَ أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا.
11849ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, قال: قال مـجاهد: وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا والـميقات: الـموعد. فلـما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بـالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء, فلـم يستـجب لهم علـم موسى أنهم قد أصابوا من الـمعصية ما أصابه قومهم. قال ابن سعد: فحدثنـي مـحمد بن كعب القرظي, قال: لـم يستـجب لهم من أجل أنهم لـم ينهوهم عن الـمنكر ويأمروهم بـالـمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة فماتوا, ثم أحياهم الله.
11850ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن عون, عن سعيد بن حيان, عن ابن عبـاس: إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه, إنـما أخذتهم الرجفة أنهم لـم يرضوا ولـم ينهوا عن العجل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عون, قال: حدثنا سعيد بن حيان, عن ابن عبـاس, بنـحوه.
واختلف أهل العربـية فـي وجه نصب قوله: قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا فقال بعض نـحويـي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً, فلـما نزع «مِن» أعمل الفعل, كما قال الفرزدق:
وَمِنّا الّذِي اخْتِـيرَ الرّجالَ سمَاحَةوَجُودا إذَا هَبّ الرّياحُ الزّعازِعُ
وكما قال الاَخر:
أمَرْتُكَ الـخَيْرَ فـافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهفَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مالٍ وَذَا نَشبِ
وقال الراعي:
اخْتَرْتُكَ النّاسَ إذْ غَثّتْ خَلائِقُهُمْواعْتَلّ مَن كانَ يُرْجَى عندَهُ السّولُ
وقال بعض نـحوّيـي الكوفة: إنـما استـجيز وقوع الفعل علـيهم إذا طرحت مِن, لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم, وخير من القوم, فإذا جازت الإضافة مكان «من» ولـم يتغير الـمعنى, استـجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلاً, واخترت منكم رجلاً وقد قال الشاعر:
(لَهُ اخْتَرْها قَلُوصا سَمِينَةً )
وقال الراجز:
(تَـحْتَ التـي اخْتارَ لَهُ اللّهُ الشّجَرْ )
بـمعنى: اختارها له الله من الشجر.
وهذا القول الثانـي أولـى عندي فـي ذلك بـالصواب لدلالة الاختـيار علـى طلب «من» التـي بـمعنى التبعيض, ومن شأن العرب أن تـحذف الشيء من حشو الكلام إذا عرف موضعه, وكان فـيـما أظهرت دلالة علـى ما حذفت, فهذا من ذلك إن شاء الله.
وقد بـيّنا معنى الرجفة فـيـما مضى بشواهدها, وأنها ما رجف بـالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد, فأماتهم أو أصعقهم, فسلب أفهامهم. وقد ذكرنا الرواية فـي غير هذا الـموضع, وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم.
11851ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَلَـمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم.
11852ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا اختارهم موسى لتـمام الـموعد. فَلَـمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم الله.
11853ـ حدثنـي عبد الكريـم, قال: حدثنا إبراهيـم, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: فَلَـمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال: رجف بهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِـيّنا فـاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بـما فعل السفهاء منا: أي بعبـادة من عبد العجل. قالوا: وكان الله إنـما أهلكهم لأنهم كانوا مـمن يعبد العجل, وقال موسى ما قال ولا علـم عنده بـما كان منهم من ذلك. ذكر من قال ذلك:
11854ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا فأوحى الله إلـى موسى: إن هؤلاء السبعين مـمن اتـخذ العجل, فذلك حين يقول موسى: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدى مَنْ تَشاءُ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لـمن وراءهم من بنـي إسرائيـل إذا انصرفتُ إلـيهم, ولـيسوا معي, والسفهاء علـى هذا القول كانوا الـمهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم. ذكر من قال ذلك:
11855ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا, قام موسى يناشد ربه ويدعوه, ويرغب إلـيه يقول: ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بنـي إسرائيـل بـما فعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك, قد اخترت منهم سبعين رجلاً الـخير فـالـخير, أرجع إلـيهم ولـيس معي رجل واحد؟ فما الذي يصدّقوننـي به أو يأمنوننـي علـيه بعد هذا؟
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
11856ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا: أتؤاخذنا ولـيس منا رجل واحد ترك عبـادتك ولا استبدل بك غيرك؟
وأولـى القولـين بتأويـل الاَية, قول من قال: إن موسى إنـما حزن علـى هلاك السبعين بقوله: أُتهْلِكُنا بِـمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا وأنه إنـما عنى بـالسفهاء: عبدة العجل وذلك أنه مـحال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تـخير من قومه لـمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فـالأفضل منهم, ومـحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك فـي عبـادة العجل واتـخذه دون الله إلها.
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى علـيه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم, فـيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل, ونـحن من ذلك برآء؟ قـيـل: جائز أن يكون معنى الإهلاك: قبض الأرواح علـى غير وجه العقوبة, كما قال جلّ ثناؤه: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعنـي: مات, فـيقول: أتـميتنا بـما فعل السفهاء منا.
وأما قوله: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ فإنه يقول جلّ ثناؤه: ما هذه الفعلة التـي فعلها قومي من عبـادتهم ما عبدوا دونك, إلا فتنة منك أصابتهم. ويعنـي بـالفتنة: الابتلاء والاختبـار. يقول: ابتلـيتهم بها لـيتبـين الذي يضلّ عن الـحقّ بعبـادته إياه والذي يهتدي بترك عبـادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلـى الله, إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه.
وبنـحو ما قلنا فـي الفتنة قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11857ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال: بلـيتك.
11858ـ قال: ثنا حبويه الرازي, عن يعقوب, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, عن سعيد بن جبـير: إلاّ فِتْنَتُكَ: إلا بلـيتك.
11859ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا ابن جعفر, عن الربـيع بن أنس: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال: بلـيتك.
11860ـ قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـي بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء, وتصرفه عمن تشاء.
11861ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ أنت فتنتهم.
وقوله: أنْتَ وَلِـيّنا يقول: أنت ناصرنا. فـاغْفِرْ لَنا يقول: فـاستر علـينا ذنوبنا بتركك عقابنا علـيها. وَارْحَمْنا: تعطّف علـينا برحمتك. وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ يقول: خير من صفح عن جُرم وستر علـى ذنب