تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 193 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 193

192

قوله: 37- "إنما النسيء زيادة في الكفر". قرأ نافع في رواية ورش عنه "النسيء" بياء مشددة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده، وهو مشتق من نسأه وأنسأه: إذا أخره، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير: في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال: نسأ ينسأ: إذا زاد، قال: ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى: "نسوا الله فنسيهم"، ورد على نافع قراءته. وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض، ونهب على ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل: هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد، ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله: ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما وفيه يقول قائلهم: ومنا ناسئ الشهر القلمس وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله: "يضل به الذين كفروا". قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر "يضل" على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول، ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب "يضل" بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ومفعوله محذوف، ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل. وقرئ نضل بالنون. قوله: "يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" الضمير راجع إلى النسيء: أي يحلون النسيء عاماً ويحرمونه عاماً، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه: أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، يحرمونه عاماً: أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله: "ليواطئوا عدة ما حرم الله" أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال: تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى: إنهم لم يحلوا شهراً إلا حرموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة. قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم. وكذا قال الطبري. قوله: "فيحلوا ما حرم الله" أي من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها "زين لهم سوء أعمالهم" أي زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها، ومن جملتها النسيء. وقرئ على البناء الفاعل "والله لا يهدي القوم الكافرين" أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وأخرج نحوه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عمر: وأخرج نحوه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً البزار وابن جرير وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً مطولاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس "منها أربعة حرم" فقال: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهن حرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله " ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الدين فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" قال: في كلهن "وقاتلوا المشركين كافة" يقول جميعاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل عشرين سنة مرة، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام، فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل. واستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: "إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويستحلون صفر، ويحرمون صفر عاماً ويستحلون المحرم. وهي النسيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب، ألا وإن صفر الأول العام حلال فيحله للناس، فيحرم صفر عاماً، ويحرم المحرم عاماً فذلك قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: المحرم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون صفران الأول والآخر، يحل لهم مرة الأول، ومرة الآخر. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم، فكان آخرهم رجلاً يقال له القلمس، وهو الذي أنسأ المحرم.
قوله: 38- "يا أيها الذين آمنوا" لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في "ما لكم" للإنكار والتوبيخ: أي أي شيء يمنعكم من ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، والنفر: هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث. قوله: "اثاقلتم إلى الأرض" أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ومثله: اداركوا، و اطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي: توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل وقرأ الأعمش " اثاقلتم " على الأصل، ومعناه تباطأتم، وعدي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد، وقيل معناه: ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرئ " اثاقلتم " على الاستفهام، ومعناه التوبيخ والعامل في الظرف ما في "ما لكم" من معنى الفعل، كأنه قيل ما يمنعكم، أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و "إلى الأرض" متعلق باثاقلتم وكما مر. قوله: "أرضيتم بالحياة الدنيا" أي بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" أي بدلاً منكم، ومثله قول الشاعر: قلبت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد، ومعنى "في الآخرة" أي في جنب الآخرة، وفي مقابلها "إلا قليل" أي إلا متاع حقير لا يعبأ به، ويجوز أن يراد بالقليل العدم، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي، والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع.
قوله: 39- "إلا تنفروا يعذبكم" هذا تهديد شديد، ووعيد مؤكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعذبكم عذاباً أليماً" أي يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل في الدنيا فقط، وقيل هو أعم من ذلك. قوله: "ويستبدل قوماً غيركم" أي يجعله لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم. واختلف في هؤلاء القوم من هم؟ فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، ولا وجه للتعيين بدون دليل. قوله: "ولا تضروه شيئاً" معطوف على "يستبدل"، والضمير قيل لله، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ولا تضروا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئاً، أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً "والله على كل شيء قدير" ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.
قوله: 40- "إلا تنصروه فقد نصره الله" أي إن تركتم نصره فالله متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه "ثاني اثنين" أي أحد اثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقرئ بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهها أن تسكن الياء تشبيهاً بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن "ما بقي من الربا"، وكقول جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف قوله: "إذ هما في الغار" بدل من "إذ أخرجه" بدل بعض، والغار: ثقب في الجبل المسمى ثوراً، وهو المشهور بغار ثور، وهو جبل قريب من مكة، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله: "إذ يقول لصاحبه" بدل ثان: أي وقت قوله لأبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا" أي دع الحزن فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا، ومن كان الله معه فلن يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن. قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" السكينة: تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن، على أن الضمير في "عليه" لأبي بكر، وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له، ويؤيد كون الضمير في "عليه" للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في "أيده بجنود لم تروها" فإنه للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر، وقيل: إنه لا محذور في رجوع الضمير من "عليه" إلى أبي بكر ومن "وأيده" إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" أي كلمة الشرك، وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام " وكلمة الله هي العليا ". قرأ الأعمش ويعقوب بنصب "كلمة" حملاً على "جعل"، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم، وفي ضمير الفصل، أعني "هي" تأكيد لفضل كلمته في العلو وأنها المختصة به دون غيرها، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، والدعوة إلى الإسلام "والله عزيز حكيم" أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.