تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 242 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 242

241

53- " وما أبرئ نفسي " إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة، لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة، وبالافتراء على يوسف. وقد قيل إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جداً، ومعناه: وما أبريء نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته "إن النفس لأمارة بالسوء" أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك "إلا ما رحم ربي" إي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء، أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها، وقيل الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء وجملة " إن ربي غفور رحيم " تعليل لما قبلها: أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم.
قوله: 54- " وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدم: ومعنى "أستخلصه لنفسي": أجعله خالصاً لي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز، والاستخلالص: طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفسية خالصة لهم دون غيرهم "فلما كلمه" في الكلام حذف، وتقديره فأتوه به فلما كلمه: أي فلما كلم الملك يوسف ويحتمل أن يكون المعنى: فلما كلم يوسف الملك. قيل والأول أولى، لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم دون من يدخل عليهم، وقيل الثاني أولى لقول الملك " قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك، وقربه من قلبه، فقا له هذه المقالة، ومعنى مكين: ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره، أو على ما يكله إليه من ذلك. قيل إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره، وقال له: إني أحب أن أسمع منك تعبير رؤياي، فعبرها له بأكمل بيان وأتم عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له: "إنك اليوم لدينا مكين أمين" فلما سمع يوسف منه ذلك.
55- " قال اجعلني على خزائن الأرض " أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال. طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه. ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيباً فيما يرومه، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه وجعلها منوطة به ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها أو حرص عليها، والخزائن جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء والحفيظ الذي يحفظ الشيء: أي "إني حفيظ" لما جعلته إلي من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها، ولا أصرفها في غير مصارفها "عليم" بوجود جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها.
56- "وكذلك مكنا ليوسف" أي ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض: أي جعلنا له مكاناً، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه "يتبوأ منها حيث يشاء" أي ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة، وهو عباة عن كمال قدرته كما تقدم، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى في قوله سبحانه: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" "نصيب برحمتنا من نشاء" من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار "ولا نضيع أجر المحسنين" في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم: أي لا نضيع ثوابهم فيها، ومجازاتهم عليها.
57- "ولأجر الآخرة" أي أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملانسة، وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدتها "خير للذين آمنوا" بالله "وكانوا يتقون" الوقوع فيما حرمه عليهم، والمراد بهم الحسنونو المتقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتد به هو الإيمان والتقوى. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ما بال النسوة" قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عنه قال: لما قالت امرأة العزيز: أنا راودته، قال يوسف "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فغمزه جبريل فقال: ولا حين هممت بها؟ فقال " وما أبرئ نفسي " الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "حصحص الحق" قال: تبين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جزام في قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فقال له جبريل، ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك " وما أبرئ نفسي ". وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " قال: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن وألبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه وقال لا تخف. وألبسه طوقاً من ذهب وثياب من حرير، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر: إن يوسف خليفة الملك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك ليوسف: إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي، وأنا آنف أن تأكل معي، فغضب يوسف وقال: أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله، وأنا ابن يعقوب نبي الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله: " اجعلني على خزائن الأرض " يقول على جميع الطعام "إني حفيظ" لما استودعتني " عليم " بسني المجاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض" قال: ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أن يوسف تزوج امرآة العزيز فوجدها بكراً، وكان زوجها عنيناً.
قوله: 58- "وجاء إخوة يوسف" أي جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط "فدخلوا" على يوسف "فعرفهم" لأنه فارقهم رجالاً "وهم له منكرون" لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجب، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم وقيل إنهم أنكروه لكونه كان في تلكالحال على هيئة ملك مصر، ولبس تاجه وتطوق بطوقه، وقيل كانوا بعيداً منه فلم يعرفوه، وقيل غير ذلك.
59- "ولما جهزهم بجهازهم" المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة وما يصلحون به سفرهم من العدة التي يحتاجها المسافر، يقال جهزت القوم تجهيزاً: إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر. قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة " قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم " قيل: لا بد من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لم: ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا عشرة وقد كنا إثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باق لديه يتسلى به، فقال لهم حينئذ: " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " يعني أخاه بنيامين الذي تقدم ذكره، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه. فوعدوه بذلك، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده، ثم قال لهم: "ألا ترون أني أوفي الكيل" أي أتممه، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله، فقال: "وأنا خير المنزلين" أي والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي، كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف "وأنا خير المنزلين" لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال: 60- "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون" أي فلا أبيعكم شيئاً فيما بعد، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، ومعنى لا تقربون: لا تدخلون بلادي فضلاً عن أن أحسن إليكم وقيل معناه: لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده، وتقربون مجزوم إما على أن لا ناهية أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم.
61- فـ"قالوا سنراود عنه أباه" أي سنطلبه منه، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه وقيل معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه "وإنا لفاعلون" هذه المراودة غير مقصرين فيها، وقيل معناه: وإنا لقادرون على ذلك، لا نتعانى به ولا نتعاظمه.
62- "وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر " لفتيانه " واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين "لفتيانه" واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة. قال النحاس: لفتيانه مخالف للسواد الأعظم، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع وأيضاً فإن فتية أشبه من فتيان، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه والجملة مستأنفة جواب سؤال كأنه قيل: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزجاج الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك، وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم، وقيل فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن، قاله الفراء، وقيل فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام، وقيل إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وأخوته ثمن الطعام، ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل الضاعة في رحالهم بقوله: "لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم" فجعل علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله: "لعلهم يرجعون" فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن، وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم نشطوا إلى العود إليه، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه فلا يتم تعليل ردا بغير ذلك، والرحال جمع رحل، والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. قال الواحدي: الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعيه التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل وللبيت رحل.
63- "فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل" أرادوا بهذا ما تقدم من قول يوسف لهم: "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي": أي منع منا الكيل في المستقبل، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا برد بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد "ولما فتحوا متاعهم" إلى آخره، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف، فقالوا "فأرسل معنا أخانا" يعنون بنيامين و"نكتل" جواب الأمر: أي نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر وعاصم "نكتل" بالنون. وقرأ سائر الكوفيون بالياء التحتية، واختار أبو عبيد القراءة الأولى قال: ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده: أي يكتال أخونا بنيامين، واعترضه النحاس مما حاصله أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع،والمعنى: يكتال بنيامين لنا جميعاً. قال الزجاج أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل "وإنا له" أي لأخيهم بنيامين "لحافظون" من أن يصيبه سوء أو مكروه.