تفسير الطبري تفسير الصفحة 34 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 34
035
033
 الآية : 216
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِتالُ فرض علـيكم القتال, يعنـي قتال الـمشركين, وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ.
واختلف أهل العلـم فـي الذين عنوا بفرض القتال, فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:
3497ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء قلت له: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو علـى الناس من أجلها؟ قال: لا, كتب علـى أولئك حينئذٍ.
3498ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا خالد, عن حسين بن قـيس, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ الِقتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال: نسختها قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا.
وهذا قول لا معنى له, لأن نسخ الأحكام من قبل الله جل وعز لا من قبل العبـاد, وقوله: قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا خبر من الله عن عبـاده الـمؤمنـين وأنهم قالوه لا نسخ منه.
3499ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا معاوية بن عمرو, قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري, قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو علـى الناس كلهم؟ قال: لا أعلـمه, ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه, فأما الرجل فـي خاصة نفسه فلا.
وقال آخرون: هو علـى كل واحد حتـى يقوم به من فـي قـيامه الكفـاية, فـيسقط فرض ذلك حينئذٍ عن بـاقـي الـمسلـمين كالصلاة علـى الـجنائز وغسلهم الـموتـى ودفنهم, وعلـى هذا عامة علـماء الـمسلـمين. وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الـحجة علـى ذلك, ولقول الله عز وجل: فَضّلَ اللّهُ الـمُـجاهِدينَ بأمْوَالِهم وأنْفُسِهِمْ علـى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الـحُسْنَى فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للـمـجاهدين, وأن لهم وللقاعدين الـحسنى, ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهمّ السوأى لا الـحسنى.
وقال آخرون: هو فرض واجب علـى الـمسلـمين إلـى قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
3500ـ حدثنا حسين بن ميسر, قال: حدثنا روح بن عبـادة, عن ابن جريج, عن داود بن أبـي عاصم, قال: قلت لسعيد بن الـمسيب: قد أعلـم أن الغزو واجب علـى الناس فسكت. وقد أعلـم أنْ لو أنكر ما قلت لبـين لـي.
وقد بـينا فـيـما مضى معنى قوله «كتب» بـما فـيه الكفـاية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم, فترك ذكر «ذو» اكتفـاء بدلالة قوله: «كره لكم» علـيه, كما قال: وَاسْألِ القَرْيَةَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك روي عن عطاء فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك:
3501ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء فـي قوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال: كره إلـيكم حينئذ.
والكره بـالضم: هو ما حمل الرجل نفسه علـيه من غير إكراه أحد إياه علـيه, والكره بفتـح الكاف: هو ما حمله غيره, فأدخـله علـيه كرها ومـمن حُكي عنه هذا القول معاذ بن مسلـم.
3502ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد, عن معاذ بن مسلـم, قال: الكُرْه: الـمشقة, والكَرْه: الإجبـار.
وقد كان بعض أهل العربـية يقول الكرَه والكُرْه لغتان بـمعنى واحد, مثل الغَسل والغُسل, والضّعف والضّعف, والرّهب والرّهب. وقال بعضهم: الكُره بضم الكاف اسم, والكَره بفتـحها مصدر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتال, فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خير لكم, ولا تـحبوا ترك الـجهاد, فلعلكم أن تـحبوه وهو شّر لكم. كما:
3503ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تَكُرَهُوا شَيْئا وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وذلك لأن الـمسلـمين كانوا يكرهون القتال, فقال: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. يقول: إن لكم فـي القتال الغنـيـمة والظهور والشهادة, ولكم فـي القعود أن لا تظهروا علـى الـمشركين, ولا تستشهدوا, ولا تصيبوا شيئا.
3504ـ حدثنـي مـحمد بن إبراهيـم السلـمي, قال: ثنـي يحيى بن مـحمد بن مـجاهد, قال: أخبرنـي عبـيد الله بن أبـي هاشم الـجعفـي, قال: أخبرنـي عامر بن واثلة قال: قال ابن عبـاس: كنت رِدْف النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «يا ابنَ عبّـاسٍ ارْضَ عنِ اللّهِ بـمَا قَدّرَ وَإنْ كانَ خِلافَ هواكَ, فإنّه مُثْبَتٌ فـي كتابِ اللّهِ» قلت: يا رسول الله فأين وقد قرأتُ القرآن؟ قال: «فـي قوله: وَعَسَىَ أنْ تَكْرَهُوا شيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: والله يعلـم ما هو خير لكم مـما هو شر لكم, فلا تكرهوا ما كتبت علـيكم من جهاد عدوّكم, وقتال من أمرتكم بقتاله, فإنـي أعلـم أن قتالكم إياهم, هو خير لكم فـي عاجلكم ومعادكم وترككم قتالهم شر لكم, وأنتـم لا تعلـمون من ذلك ما أعلـم, يحضهم جل ذكره بذلك علـى جهاد أعدائه, ويرغبهم فـي قتال من كفر به.
الآية : 217
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك يا مـحمد أصحابك عن الشهر الـحرام وذلك رجب عن قتال فـيه. وخفض «القتال» علـى معنى تكرير عن علـيه, وكذلك كانت قراءة عبد الله بن مسعود فـيـما ذكر لنا. وقد:
3505ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قال: يقول: يسألونك عن قتال فـيه. قال: وكذلك كان يقرؤها: «عن قتال فـيه».
قال أبو جعفر: قل يا مـحمد قتال فـيه, يعنـي فـي الشهر الـحرام كبـير: أي عظيـم عند الله استـحلاله, وسفك الدماء فـيه.
ومعنى قوله: قِتالٍ فِـيهِ قل القتال فـيه كبـير. وإنـما قال: قل قتال فـيه كبـير, لأن العرب كانت لا تقرع فـيه الأسنة, فـيـلقـى الرجل قاتل أبـيه أو أخيه فـيه فلا يهيجه تعظيـما له, وتسميه مضر «الأصمّ» لسكون أصوات السلاح وقعقعته فـيه. وقد:
3506ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم الـمصري, قال: حدثنا شعيب بن اللـيث, قال: حدثنا اللـيث, قال: حدثنا الزبـير, عن جابر قال: لـم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو فـي الشهر الـحرام إلا أن يُغْزَى, أو يغزو حتـى إذا حضر ذلك أقام حتـى ينسلـخ.
وقوله جل ثناؤه: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ ومعنى الصدّ عن الشيء: الـمنع منه, والدفع عنه, ومنه قـيـل: صدّ فلان بوجهه عن فلان: إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إلـيه.
وقوله: وكُفْرٌ بِه يعنـي: وكفر بـالله, والبـاء فـي به عائدة علـى اسم الله الذي فـي سبـيـل الله.
وتأويـل الكلام: وصدّ عن سبـيـل الله, وكفر به, وعن الـمسجد الـحرام وإخراج أهل الـمسجد الـحرام, وهم أهله وولاته أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتال فـي الشهر الـحرام. فـالصدّ عن سبـيـل الله مرفوع بقوله أكبرُ عنَد اللّهِ وقوله: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ عطف علـى الصدّ ثم ابتدأ الـخبر عن الفتنة فقال: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ يعنـي: الشرك أعظم وأكبر من القتل, يعنـي من قتل ابن الـحضرمي الذي استنكرتـم قتله فـي الشهر الـحرام.
وقد كان بعض أهل العربـية يزعم أن قوله: وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ معطوف علـى «القتال», وأن معناه: يسألونك عن الشهر الـحرام, عن قتال فـيه, وعن الـمسجد الـحرام, فقال الله جل ثناؤه: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتال فـي الشهر الـحرام.
وهذا القول مع خروجه من أقوال أهل العلـم, قول لا وجه له لأن القوم لـم يكونوا فـي شكّ من عظيـم ما أتـى الـمشركون إلـى الـمسلـمين فـي إخراجهم إياهم من منازلهم بـمكة, فـيحتاجوا إلـى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج الـمشركين إياهم من منازلهم, وهل ذلك كان لهم؟ بل لـم يدّع ذلك علـيهم أحد من الـمسلـمين, ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإذْ كان ذلك كذلك, فلـم يكن القوم سألو.ا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عما ارتابوا بحكمه كارتـيابهم فـي أمر قتل ابن الـحضرمي, إذ ادّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله فـي الشهر الـحرام, فسألوا عن أمره, لارتـيابهم فـي حكمه. فأما إخراج الـمشركين أهل الإسلام من الـمسجد الـحرام, فلـم يكن فـيهم أحد شاكا أنه كان ظلـما منهم لهم فـيسألوا عنه.
ولا خلاف بـين أهل التأويـل جميعا أن هذه الآية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي سبب قتل ابن الـحضرمي وقاتله. ذكر الرواية عمن قال ذلك:
3507ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي الزهري, ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبـير, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش فـي رجب مقـفله من بدر الأولـى, وبعث معه بثمانـية رهط من الـمهاجرين, لـيس فـيهم من الأنصار أحد, وكتب له كتابـا, وأمره أن لا ينظر فـيه حتـى يسير يومين ثم ينظر فـيه فـيـمضي لـما أمره, ولا يستكره من أصحابه أحدا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من الـمهاجرين من بنـي عبد شمس أبو حذيفة بن ربـيعة ومن بنـي أمية بن عبد شمس, ثم من حلفـائهم عبد الله بن جحش بن رياب, وهو أمير القوم, وعكّاشة بن مـحصن بن حرثان أحد بنـي أسد بن خزيـمة, ومن بنـي نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حلـيف لهم, ومن بنـي زهرة بن كلاب: سعد بن أبـي وقاص, ومن بنـي عديّ بن كعب عامر بن ربـيعة حلـيف لهم, وواقد بن عبد الله بن مناة بن عويـم بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة, وخالد بن البكير أحد بنـي سعد بن لـيث حلـيف لهم, ومن بنـي الـحرث بن فهر سهيـل بن بـيضاء. فلـما سار عبد الله بن جحش يومين فتـح الكتاب ونظر فـيه, فإذا فـيه: «إذا نظرت إلـى كتابـي هذا, فسر حتـى تنزل نـخـلة بـين مكة والطائف, فترصد بها قريشا, وتعلّـم لنا من أخبـارهم». فلـما نظر عبد الله بن جحش فـي الكتاب قال: سمعا وطاعة, ثم قال لأصحابه: قد أمرنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلـى نـخـلة فأرصد بها قريشا حتـى آتـيه منهم بخبر, وقد نهانـي أن أستكره أحدا منكم, فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فـيها فلـينطلق, ومن كره ذلك فلـيرجع, فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى أصحابه معه, فلـم يتـخـلف عنه أحد, وسلك علـى الـحجاز, حتـى إذا كان بـمعدن فوق الفرُع يقال له نُـجْران, أضل سعد بن أبـي وقاص, وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا علـيه يعتقبـانه, فتـخـلفـا علـيه فـي طلبه, ومضى عبد الله بن جحش وبقـية أصحابه حتـى نزل بنـخـلة, فمرّت به عير لقريش تـحمل زبـيبـا وأدما وتـجارة من تـجارة قريش فـيها منهم عمرو بن الـحضرمي, وعثمان بن عبد الله بن الـمغيرة, وأخوه نوفل بن عبد الله بن الـمغيرة الـمخزوميان, والـحكم بن كيسان مولـى هشام بن الـمغيرة فلـما رآهم القوم هابوهم, وقد نزلوا قريبـا منهم, فأشرف لهم عكاشة بن مـحصن, وقد كان حلق رأسه فلـما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار فلا بأس علـينا منهم وتشاور القوم فـيهم, وذلك فـي أخر يوم من جمادى, فقال القوم: والله لئن تركتـم القوم هذه اللـيـلة لـيدخـلُنّ الـحرم فلـيـمتنعنّ به منكم, ولئن قتلتـموهم لنقتلنهم فـي الشهر الـحرام. فتردّد القوم فهابوا الإقدام علـيهم, ثم شجعوا علـيهم, وأجمعوا علـى قتل من قدروا علـيه منهم, وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التـميـمي عمرو بن الـحضرمي بسهم فقتله, واستأسر عثمان بن عبد الله, والـحكم بن كيسان, وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم. وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بـالعير والأسيرين, حتـى قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة. وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مـما غنـمتـم الـخمس وذلك قبل أن يفرض الـخمس من الغنائم. فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير, وقسم سائرها علـى أصحابه فلـما قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمَرْتُكُمْ بِقِتالٍ فِـي الشّهْرِ الـحَرَامِ», فوقـف العير والأسيرين, وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلـما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, سُقِط فـي أيدي القوم, وظنوا أنهم قد هلكوا, وعنفهم الـمسلـمون فـيـما صنعوا, وقالوا لهم: صنعتـم ما لـم تؤمروا به, وقاتلتـم فـي الشهر الـحرام ولـم تؤمروا بقتال وقالت قريش: قد استـحلّ مـحمد وأصحابه الشهر الـحرام, فسفكوا فـيه الدم, وأخذوا فـيه الأموال وأسروا. فقال من يردّ ذلك علـيهم من الـمسلـمين مـمن كان بـمكة: إنـما أصابوا ما أصابوا فـي جمادى وقالت يهود تتفـاءل بذلك علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الـحضرمي قتله واقد بن عبد الله, عمرو: عمرت الـحرب, والـحضرمي: حضرت الـحرب, وواقد بن عبد الله: وقدت الـحرب فجعل الله علـيهم ذلك وبهم. فلـما أكثر الناس فـي ذلك أنزل الله جل وعز علـى رسوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ أي عن قتال فـيه قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي إن كنتـم قتلتـم فـي الشهر الـحرام فقد صدوكم عن سبـيـل الله مع الكفر به, وعن الـمسجد الـحرام, وإخراجكم عنه, إذ أنتـم أهله وولاته, أكبر عند الله من قتل من قتلتـم منهم وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي قد كانوا يفتنون الـمسلـم عن دينه حتـى يردّوه إلـى الكفر بعد إيـمانه وذلك أكبر عند الله من القتل, ولا يزالون يقاتلونكم حتـى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا, أي هم مقـيـمون علـى أخبث ذلك وأعظمه, غير تائبـين ولا نازعين فلـما نزل القرآن بهذا من الأمر, وفرج الله عن الـمسلـمين ما كانوا فـيه من الشّفَق, قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين.
3508ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر, وأمّر علـيهم عبد الله بن جحش الأسدي, وفـيهم عمار بن ياسر, وأبو حذيفة بن عتبة بن ربـيعة, وسعد بن أبـي وقاص, وعتبة بن غزوان السلـمي حلـيف لبنـي نوفل, وسهيـل بن بـيضاء, وعامر بن فهيرة, وواقد بن عبد الله الـيربوعي حلـيف لعمر بن الـخطاب وكتب مع ابن جحش كتابـا وأمره أن لا يقرأه حتـى ينزل مَلَل, فلـما نزل ببطن ملل فتـح الكتاب, فإذا فـيه: أن سر حتـى تنزل بطن نـخـلة. فقال لأصحابه: من كان يريد الـموت فلـيـمض ولـيوص, فإنـي موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار وتـخـلف عنه سعد بن أبـي وقاص وعتبة بن غزوان أضلا راحلة لهما, فأتـيا نُـجْران يطلبـانها, وسار ابن جحش إلـى بطن نـخـلة, فإذا هم بـالـحكم بن كيسان, وعبد الله بن الـمغيرة, والـمغيرة بن عثمان, وعمرو بن الـحضرمي. فـاقتتلوا, فأسروا الـحكم بن كيسان وعبد الله بن الـمغيرة, وانفلت الـمغيرة, وقتل عمرو بن الـحضرمي, قتله واقد بن عبد الله, فكانت أول غنـيـمة غنـمها أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم فلـما رجعوا إلـى الـمدينة بـالأسيرين وما غنـموا من الأموال أراد أهل مكة أن يفـادوا بـالأسيرين, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «حّتـى نَنْظُرَ ما فَعَلَ صَاحِبـانا» فلـما رجع سعد وصاحبه فـادى بـالأسيرين, ففجر علـيه الـمشركون وقالوا: مـحمد يزعم أنه يتبع طاعة الله, وهو أوّل من استـحلّ الشهر الـحرام وقتل صاحبنا فـي رجب, فقال الـمسلـمون: إنـما قتلناه فـي جمادى, وقـيـل فـي أول لـيـلة من رجب, وآخر لـيـلة من جمادى وغمد الـمسلـمون سيوفهم حين دخـل رجب, فأنزل الله جل وعز يعير أهل مكة: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ لا يحل, وما صنعتـم أنتـم يا مشعر الـمشركين أكبر من القتل فـي الشهر الـحرام, حين كفرتـم بـالله, وصددتـم عنه مـحمدا وأصحابه, وإخراج أهل الـمسجد الـحرام منه حين أخرجوا مـحمدا, أكبر من القتل عند الله, والفتنة هي الشرك أعظم عند الله من القتل فـي الشهر الـحرام, فذلك قوله: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ والـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ.
3509ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان التـيـمي, عن أبـيه أنه حدثه رجل, عن أبـي السوار يحدثه, عن جندب بن عبد الله. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا, فبعث علـيهم أبـا عبـيدة فلـما أخذ لـينطلق بكى صبـابةً إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعث رجلاً مكانه يقال له عبد الله بن جحش, وكتب له كتابـا, وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتـى يبلغ كذا وكذا, ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك علـى السير معك. فلـما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعا وطاعة لأمر الله ورسوله. فخبرهم الـخبر, وقرأ علـيهم الكتاب. فرجع رجلان ومضى بقـيتهم. فلقوا ابن الـحضرمي فقتلوه, ولـم يدروا ذلك الـيوم من رجب أو من جمادى؟ فقال الـمشركون للـمسلـمين: فعلتـم كذا وكذا فـي الشهر الـحرام فأتوا النبـيّصلى الله عليه وسلم فحدثوه الـحديث, فأنزل الله عز وجل: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ والفتنة: هي الشرك.
وقال بعض الذين أظنه قال: كانوا فـي السرية: والله ما قتله إلا واحد, فقال: إن يكن خيرا فقد وَلِـيت, وإن يكن ذنبـا فقد عملت.
3510ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قال: إن رجلاً من بنـي تـميـم أرسله النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي سرية, فمرّ بـابن الـحضرمي يحمل خمرا من الطائف إلـى مكة, فرماه بسهم فقتله وكان بـين قريش ومـحمد عقد, فقتله فـي آخر يوم من جمادى الاَخرة, وأول يوم من رجب, فقالت قريش: فـي الشهر الـحرام ولنا عهد؟ فأنزل الله جل وعز: قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ الله وكُفْرٌ بِهِ و صدّ عن الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ الله من قتل ابن الـحضرمي, والفتنة كفر بـالله, وعبـادة الأوثان أكبر من هذا كله.
3511ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, وعثمان الـجزري, عن مقسم مولـى ابن عبـاس, قال: لقـي واقد بن عبد الله عمرو بن الـحضرمي فـي أول لـيـلة من رجب, وهو يرى أنه من جمادى فقتله, وهو أول قتـيـل من الـمشركين, فعير الـمشركون الـمسلـمين فقالوا: أتقتلون فـي الشهر الـحرام؟ فأنزل الله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وصَدّ عَن سَبِـيـلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالَـمسْجِدِ الـحَرَامِ يقول: وصدّ عن سبـيـل الله, وكفر بـالله والـمسجد الـحرام, وصد عن الـمسجد الـحرام وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من قتل عمرو بن الـحضرمي والفتنة: يقول: الشرك الذي أنتـم فـيه أكبر من ذلك أيضا. قال الزهري: وكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنا يحرّم القتال فـي الشهر الـحرام ثم أُحِلّ بعد.
3512ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وذلك أن الـمشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردّوه عن الـمسجد الـحرام فـي شهر حرام, ففتـح الله علـى نبـيه فـي شهر حرام من العام الـمقبل, فعاب الـمشركون علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال فـي شهر حرام, فقال الله جل وعز: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِه مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتل فـيه وإن مـحمدا بعث سرية, فلقوا عمرو بن الـحضرمي وهو مقبل من الطائف آخر لـيـلة من جمادى وأول لـيـلة من رجب وإن أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك اللـيـلة من جمادى وكانت أول رجب ولـم يشعروا, فقتله رجل منهم واحد. وإن الـمشركين أرسلوا يعيرونه بذلك, فقال الله جل وعز: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وغير ذلك أكبر منه صدّ عن سبـيـل الله, وكفر به, والـمسجد الـحرام, وإخراج أهله منه, إخراج أهل الـمسجد الـحرام أكبر من الذي أصاب مـحمدٌ والشرك بـالله أشد.
3513ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن حصين, عن أبـي مالك, قال: لـما نزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ استكبروه, فقال: والفتنة: الشرك الذي أنتـم علـيه مقـيـمون أكبر مـما استكبرتـم.
3514ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن حصين, عن أبـي مالك الغفـاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش فـي جيش, فلقـي ناسا من الـمشركين ببطن نـخـلة, والـمسلـمون يحسبون أنه آخر يوم من جمادى, وهو أول يوم من رجب, فقتل الـمسلـمون ابن الـحضرمي, فقال الـمشركون: ألستـم تزعمون أنكم تـحرمون الشهر الـحرام والبلد الـحرام؟ وقد قتلتـم فـي الشهر الـحرام فأنزل الله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ مِنَ الذي استكبرتـم من قتل ابن الـحضرمي والفتنة التـي أنتـم علـيها مقـيـمون, يعنـي الشرك أكبر من القتل.
3515ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, قال: وكان يسميها, يقول: لقـي واقد بن عبد الله التـميـمي عمرو بن الـحضرمي ببطن نـخـلة فقتله.
3516ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ فـيـمن نزلت؟ قال: لا أدري, قال ابن جريج: قال عكرمة ومـجاهد: فـي عمرو بن الـحضرمي, قال ابن جريج: وأخبرنا ابن أبـي حسين عن الزهري ذلك أيضا.
3517ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال يقول: صدّ عن الـمسجد الـحرام وإخراج أهله منه, فكل هذا أكبر من قتل ابن الـحضرمي, والفتنة أكبر من القتل كفر بـالله وعبـادة الأوثان أكبر من هذا كله.
3518ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ كان أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الـحضرمي فـي الشهر الـحرام, فعير الـمشركون الـمسلـمين بذلك, فقال الله: قتال فـي الشهر الـحرام كبـير, وأكبر من ذلك صدّ عن سبـيـل الله وكفر به, وإخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام.
وهذان الـخبران اللذان ذكرناهما عن مـجاهد والضحاك, ينبئان عن صحة ما قلنا فـي رفع «الصدّ» به, وأن رافعه «أكبر عند الله», وهما يؤكدان صحة ما روينا فـي ذلك عن ابن عبـاس, ويدلان علـى خطأ من زعم أنه مرفوع علـى العطف علـى الكبـير.
وقول من زعم أن معناه: وكبـير صدّ عن سبـيـل الله, وزعم أن قوله: «وإخراج أهله منه أكبر عند الله» خبر منقطع عما قبله مبتدأ.
3519ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم, عن الشعبـي فـي قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ قال: يعنـي به الكفر.
3520ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من ذلك. ثم عير الـمشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي الشرك بـالله أكبر من القتل. وبـمثل الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك رُوي عن ابن عبـاس.
3521ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: لـما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الـحضرمي فـي آخر لـيـلة من جمادى وأول لـيـلة من رجب, أرسل الـمشركون إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونه بذلك, فقال: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وغير ذلك أكبر منه: صدّ عن سبـيـل الله, وكفر به, والـمسجد الـحرام, وإخراج أهله منه أكبر من الذي أصاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي الذي ارتفع به قوله: وصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ فقال بعض نـحويـي الكوفـيـين فـي رفعه وجهان: أحدهما: أن يكون الصدّ مردودا علـى الكبـير, يريد: قل القتال فـيه كبـير, وصدّ عن سبـيـل الله وكفر به, وإن شئت جعلت الصدّ كبـيرا, يريد به: قل القتال فـيه كبـير, وكبـير الصدّ عن سبـيـل الله والكفر به, قال: فأخطأ, يعنـي الفراء فـي كلا تأويـلـيه, وذلك أنه إذا رفع الصدّ عطفـا به علـى كبـير, يصير تأويـل الكلام: قل القتال فـي الشهر الـحرام كبـير, وصدّ عن سبـيـل الله, وكفر بـالله. وذلك من التأويـل خلاف ما علـيه أهل الإسلام جميعا, لأنه لـم يدّع أحد أن الله تبـارك وتعالـى جعل القتال فـي الأشهر الـحرم كفرا بـالله, بل ذلك غير جائز أن يتوهم علـى عاقل يعقل ما يقول أن يقوله, وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة, والله جل ثناؤه يقول فـي أثر ذلك: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ؟ فلو كان الكلام علـى ما رآه جائزا فـي تأويـله هذا, لوجب أن يكون إخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام كان أعظم عند الله من الكفر به, وذلك أنه يقول فـي أثره: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وفـي قـيام الـحجة بأن لا شيء أعظم عند الله من الكفر به, ما يبـين عن خطأ هذا القول. وأما إذا رفع الصد بـمعنى ما زعم أنه الوجه الاَخر, وذلك رفعه بـمعنى: وكبـير صد عن سبـيـل الله, ثم قـيـل: وإخراج أهله منه أكبر عند الله, صار الـمعنى: إلـى أن إخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام أعظم عند الله من الكفر بـالله, والصدّ عن سبـيـله, وعن الـمسجد الـحرام, ومتأوّل ذلك كذلك داخـل من الـخطأ فـي مثل الذي دخـل فـيه القائل القول الأول من تصيـيره بعض خلال الكفر أعظم عند الله من الكفر بعينه, وذلك مـما لا يُخيـل علـى أحد خطؤه وفساده.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: القول الأول فـي رفع الصد, ويزعم أنه معطوف به علـى الكبـير, ويجعل قوله: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مرفوعا علـى الابتداء, وقد بـينا فساد ذلك وخطأ تأويـله.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ هل هو منسوخ أم ثابت الـحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: وَقاتِلُوا الـمُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً وبقوله: اقْتُلُوا الـمُشْركينَ. ذكر من قال ذلك:
3522ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء بن ميسرة: أحل القتال فـي الشهر الـحرام فـي براءة قوله: فَلاَ تَظْلِـمُوا فِـيهِنّ أنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الـمُشْرِكينَ كافّةً يقول: فـيهن وفـي غيرهن.
3523ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, قال: كان النبـي صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنا يحرم القتال فـي الشهر الـحرام, ثم أحلّ بعد.
وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابت لا يحل القتال لأحد فـي الأشهر الـحرم بهذه الآية, لأن الله جعل القتال فـيه كبـيرا. ذكر من قال ذلك:
3524ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: قلت لعطاء: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ قلت: ما لهم وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك فـي الشهر الـحرام, ثم غزوهم بعد فـيه, فحلف لـي عطاء بـالله ما يحل للناس أن يغزوا فـي الشهر الـحرام, ولا أن يقاتلوا فـيه, وما يستـحب, قال: ولا يدعون إلـى الإسلام قبل أن يقاتلوا ولا إلـى الـجزية تركوا ذلك.
والصواب من القول فـي ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة, من أن النهي عن قتال الـمشركين فـي الأشهر الـحرم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: إنّ عِدّةَ الشّهِور عِنْدَ الله اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِـي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ القَـيّـمُ فَلا تَظْلِـمُوا فِـيهنّ أنْفُسَكُمْ, وَقاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكمْ كافّة. وإنـما قلنا ذلك ناسخ لقوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ لتظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنـين, وثقـيفـا بـالطائف, وأرسل أبـا عامر إلـى أوطاس لـحرب من بها من الـمشركين فـي بعض الأشهر الـحرم, وذلك فـي شوّال وبعض ذي القعدة, وهو من الأشهر الـحرم. فكان معلوما بذلك أنه لو كان القتال فـيهن حراما وفـيه معصية, كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم. وأخرى: أن جميع أهل العلـم بسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أن بـيعة الرضوان علـى قتال قريش كانت فـي أول ذي القعدة, وأنه صلى الله عليه وسلم إنـما دعا أصحابه إلـيها يومئذ لأنه بلغه أن عثمان بن عفـان قتله الـمشركون إذ أرسله إلـيهم بـما إرسله به من الرسالة, فبـايع صلى الله عليه وسلم علـى أن يناجز القوم الـحرب ويحاربهم حتـى رجع عثمان بـالرسالة, وجرى بـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وقريش الصلـح, فكفّ عن حربهم حينئذ وقتالهم, وكان ذلك فـي ذي القعدة, وهو من الأشهر الـحرم. فإذا كان ذلك كذلك فبـين صحة ما قلنا فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وأنه منسوخ.
فإن ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال فـي الأشهر الـحرم كان بعد استـحلال النبـيّ صلى الله عليه وسلم إياهنّ لـما وصفنا من حروبه, فقد ظنّ جهلاً وذلك أن هذه الآية, أعنـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ فـي أمر عبد الله بن جحش وأصحابه, وما كان من أمرهم وأمر القتـيـل الذي قتلوه, فأنزل الله فـي أمره هذه الآية فـي آخر جمادى الاَخرة من السنة الثانـية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة وهجرته إلـيها, وكانت وقعة حنـين والطائف فـي شوّال من سنة ثمان من مقدمه الـمدينة وهجرته إلـيها, وبـينهما من الـمدة ما لا يخفـى علـى أحد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا.
يعنـي تعالـى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتـى يردوكم عن دينكم إن قدروا علـى ذلك. كما:
3525ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: ثنـي الزهري ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبـير: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا أي هم مقـيـمون علـى أخبث ذلك وأعظمه, غير تائبـين ولا نازعين, يعنـي علـى أن يفتنوا الـمسلـمين عن دينهم حتـى يردوهم إلـى الكفر, كما كانوا يفعلون بـمن قدروا علـيه منهم قبل الهجرة.
3526ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا قال: كفـار قريش.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَـيَـمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِـيهَا خالِدُون.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ من يرجع منكم عن دينه, كما قال جل ثناؤه: فـارْتَدّا علـى آثارهِما قَصَصا يعنـي بقوله: فـارتدا: رجعا. ومن ذلك قـيـل: استردّ فلان حقه من فلان, إذا استرجعه منه. وإنـما أظهر التضعيف فـي قوله: يَرْتَدِدْ لأن لام الفعل ساكنة بـالـجزم, وإذا سكنت فـالقـياس ترك التضعيف, وقد تضعف وتدغم وهي ساكنة بناء علـى التثنـية والـجمع.
وقوله: فَـيَـمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يقول: من يرجع عن دينه, دين الإسلام, فـيـمت وهو كافر, فـيـمت قبل أن يتوب من كفره, فهم الذين حبطت أعمالهم يعنـي بقوله: حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ بطلت وذهبت, وبطولها: ذهاب ثوابها, وبطول الأجر علـيها والـجزاء فـي دار الدنـيا والاَخرة.
وقوله: وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِـيهَا خالِدُونَ يعنـي الذين ارتدوا عن دينهم فماتوا علـى كفرهم, هم أهل النار الـمخـلدون فـيها. وإنـما جعلهم أهلها لأنهم لا يخرجون منها, فهم سكانها الـمقـيـمون فـيها, كما يقال: هؤلاء أهل مـحلة كذا, يعنـي سكانها الـمقـيـمون فـيها. ويعنـي بقوله: هُمْ فِـيهَا خالِدُونَ هم فـيها لابثون لبثا من غير أمد ولا نهاية.
الآية : 218
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعنـي بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بـالله وبرسوله, وبـما جاء به. وبقوله: وَالّذِينَ هاجَرُوا: الذين هجروا مساكنة الـمشركين فـي أمصارهم, ومـجاورتهم فـي ديارهم, فتـحوّلوا عنهم, وعن جوارهم وبلادهم إلـى غيرها, هجرة... لـما انتقل عنه إلـى ما انتقل إلـيه. وأصل الـمهاجرة الـمفـاعلة, من هجرة الرجل الرجل للشحناء تكون بـينهما, ثم تستعمل فـي كل من هجر شيئا لأمر كرهه منه.
وإنـما سمي الـمهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لـما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم, كراهة منهم النزول بـين أظهر الـمشركين وفـي سلطانهم, بحيث لا يأمنون فتنتهم علـى أنفسهم فـي ديارهم إلـى الـموضع الذي يأمنون ذلك.
وأما قوله: وَجاهَدُوا فإنه يعنـي: وقاتلوا وحاربوا وأصل الـمـجاهدة الـمفـاعلة, من قول الرجل: قد جهد فلان فلانا علـى كذا, إذا كربه وشقّ علـيه يجهده جهدا. فإذا كان الفعل من اثنـين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة, قـيـل: فلان يجاهد فلانا, يعنـي أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشقّ علـيه, فهو يجاهده مـجاهدة وجهادا. وأما سبـيـل الله: فطريقه ودينه.
فمعنى قوله إذا: وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّهِ والذين تـحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم, وخوف فتنتهم علـى أديانهم, وحاربوهم فـي دين الله لـيدخـلوهم فـيه, وفـيـما يرضى الله, أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحَمةَ اللّهِ أي يطمعون أن يرحمهم الله فـيدخـلهم جنته بفضل رحمته إياهم, واللّهُ غَفُورٌ أي ساتر ذنوب عبـاده بعفوه عنها, متفضل علـيهم بـالرحمة.
وهذه الآية أيضا ذكر أنها نزلت فـي عبد الله بن جحش وأصحابه. ذكر من قال ذلك:
3527ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه أنه حدّثه رجل, عن أبـي السوار يحدثه, عن جندب بن عبد الله قال: لـما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه, وأمر ابن الـحضرمي ما كان قال بعض الـمسلـمين إن لـم يكونوا أصابوا فـي سفرهم, أظنه قال: وزرا, فلـيس لهم فـيه أجر, فأنزل الله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيـمٌ.
3528ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي الزهري, ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبـير قال: أنزل الله عز وجل القرآن بـما أنزل من الأمر, وفرج الله عن الـمسلـمين فـي أمر عبد الله بن جحش وأصحابه, يعنـي فـي قتلهم ابن الـحضرمي, فلـما تـجلـى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فـيه حين نزل القرآن, طمعوا فـي الأجر, فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فـيها أجر الـمـجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فـيهم: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيـمٌ فوقـفهم الله من ذلك علـى أعظم الرجاء.
3529ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: أثنى الله علـى أصحاب نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء, فقال: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيـمٌ هؤلاء خيار هذه الأمة, ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون, وأنه من رجا طلب, ومن خاف هرب.
3530ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
الآية : 219-220
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ * فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىَ قُلْ إِصْلاَحٌ لّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد عن الـخمر وشربها. والـخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطى علـيه, وهو من قول القائل: خَمَرت الإناء إذا غطيته, وخَمِرَ الرجل: إذا دخـل فـي الـخَمَرِ, ويقال: هو فـي خُمار الناس وغُمارهم, يراد به: دخـل فـي عُرض الناس, ويقال للضبع: خامري أم عامر, أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر, ومن ذلك أيضا خِمار الـمرأة, وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه, ومنه يقال: هو يـمشي لك الـخَمَر, أي مستـخفـيا, كما قال العجاج:
فِـي لامِعِ الِعقْبـانِ لا يأتـي الـخَمَرْيُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ
ويعنـي بقوله: لا يأتـي الـخمر: لا يأتـي مستـخفـيا ولا مسارقة, ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبـان جمع عقاب, وهي الرايات.
وأما «الـميسر» فإنها «الـمفعِل» من قول القائل: يسَر لـي هذا الأمر: إذا وجب لـي فهو يَـيْسِر لـي يَسَرا ومَيْسِرا, والـياسر: الواجب, بقداح وجب ذلك أو مبـاحه أو غير ذلك, ثم قـيـل للـمقامر: ياسر, ويَسَر, كما قال الشاعر:
فَبِتّ كأنّنِـي يَسَرٌ غَبِـينٌيُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا
وكما قال النابغة:
أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِهأسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَـلّعُ
يعنـي بـالـياسر: الـمقامر, وقـيـل للقمار: ميسر, وكان مـجاهد يقول نـحو ما قلنا فـي ذلك.
3531ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَن الـخَمْرِ وَالـمَيْسِر قال: القمار, وإنـما سمي الـميسر لقولهم أيسروا واجزروا, كقولك ضع كذا وكذا.
3532ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: كل القمار من الـميسر, حتـى لعب الصبـيان بـالـجوز.
3533ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن,قال: حدثنا سفـيان, عن عبد الـملك بن عمير, عن أبـي الأحوص, قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكعاب الـموسومة التـي تزجرون بها زجرا فإنهن من الـميسر.
3534ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عبد الـملك بن عمير, عن أبـي الأحوص, مثله.
3535ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن نافع, قال: حدثنا شعبة, عن يزيد بن أبـي زياد, عن أبـي الأحوص, عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التـي تزجرون بها زجرا, فإنها من الـميسر.
3536ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي, قال: حدثنا علـيّ بن مسهر, عن عاصم, عن مـحمد بن سيرين, قال: القمار: ميسر.
3537ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم الأحول, عن مـحمد بن سيرين, قال: كل شيء له خطر, أو فـي خطر أبو عامر شك فهو من الـميسر.
3538ـ حدثنا الولـيد بن شجاع أبو همام, قال: حدثنا علـيّ بن مسهر, عن عاصم, عن مـحمد بن سيرين, قال: كل قمار ميسر حتـى اللعب بـالنرد علـى القـيام والصياح والريشة يجعلها الرجل فـي رأسه.
3539ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عاصم, عن ابن سيرين, قال: كل لعب فـيه قمار من شرب أو صياح أو قـيام فهو من الـميسر.
3540ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا خالد بن الـحرث, قال: حدثنا الأشعث, عن الـحسن, أنه قال: الـميسر: القمار.
3541ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن لـيث, عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الـميسر, حتـى لعب الصبـيان بـالكعاب والـجوز.
3542ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد, قال: الـميسر: القمار.
3543ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمير, عن أبـي الأحوص, عن عبـيد الله قال: إياكم وهاتـين الكعبتـين يزجر بهما زجرا فإنهما من الـميسر.
3544ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن أبـي عروبة, عن قتادة, قال: أما قوله والـميسر, فهو القمار كله.
3545ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يحيى بن عبد الله بن سالـم, عن عبـيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبـيد الله يقول للقاسم بن مـحمد: النرد: ميسر, أرأيت الشطرنـج ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة, فهو ميسر.
3546ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: الـميسر: القمار, كان الرجل فـي الـجاهلـية يخاطر علـى أهله وماله, فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.
3547ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: الـميسر القمار.
3548ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: الـميسر القمار.
3549ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن اللـيث, عن مـجاهد وسعيد بن جبـير, قالا: الـميسر: القمار كله, حتـى الـجوز الذي يـلعب به الصبـيان.
3550ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: سمعت عبـيد بن سلـيـمان يحدث عن الضحاك قوله: الـميسر: قال: القمار.
3551ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الـميسر: القمار.
3552ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو بدر شجاع بن الولـيد, قال: حدثنا موسى بن عقبة, عن نافع أن ابن عمر كان يقول: القمار من الـميسر.
3553ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: الـميسر قداح العرب, وكعاب فـارس. قال: وقال ابن جريج, وزعم عطاء بن ميسرة أن الـميسر: القمار كله.
3554ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, عن سعيد بن عبد العزيز, قال: قال مكحول: الـميسر: القمار.
3555ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد الذارع, قال: حدثنا الفضل بن سلـيـمان وشجاع بن الولـيد, عن موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمر, قال: الـميسر: القمار.
وأما قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهم فـيهما, يعنـي فـي الـخمر والـميسر إثم كبـير. فـالإثم الكبـير الذي فـيهما ما ذكر عن السدي فـيـما:
3556ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما قوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ فإثم الـخمر أن الرجل يشرب فـيسكر فـيؤذي الناس. وإثم الـميسر أن يقامر الرجل فـيـمنع الـحق ويظلـم.
3557ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أول ما عيبت به الـخمر.
3558ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ يعنـي ما ينقص من الدين عند من يشربها.
والذي هو أولـى بتأويـل الآية, الإثم الكبـير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي الـخمر والـميسر, فـالـخمر ما قاله السدي زوال عقل شارب الـخمر إذا سكر من شربه إياها حتـى يعزب عنه معرفة ربه, وذلك أعظم الاَثام, وذلك معنى قول ابن عبـاس إن شاء الله. وأما فـي الـميسر فما فـيه من الشغل به عن ذكر الله, وعن الصلاة, ووقوع العداوة والبغضاء بـين الـمتـياسرين بسببه, كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: إنّـمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَـيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِـي الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصّلاةِ.
وأما قوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الـخمر كانت أثمانها قبل تـحريـمها, وما يصلون إلـيه بشربها من اللذة, كما قال الأعشى فـي صفتها:
لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌوَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها
وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌومالٌ كَثِـيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها
وكما قال حسان:
فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكاوأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ
وأما منافع الـميسر فـيـما يصيبون فـيه من أنصبـاء الـجزور, وذلك أنهم كانوا يـياسرون علـى الـجزور, وإذا أفلـج الرجل منهم صاحبه نـحره, ثم اقتسموا أعشارا علـى عدد القداح, وفـي ذلك يقول أعشى بنـي ثعلبة:
وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلـى النّدَىونِـياطِ مُقْـفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3559ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم,قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الـمنافع ههنا: ما يصيبون من الـجزور.
3560ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: أما منافعهما فإن منفعة الـخمر فـي لذته وثمنه, ومنفعة الـميسر فـيـما يصاب من القمار.
3561ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال: منافعهما قبل أن يحرّما.
3562ـ حدثنا علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَمَنافعُ للنّاسِ قال: يقول فـيـما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها.
واختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه عظم أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين والبصريـين قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ بـالبـاء, بـمعنى: قل فـي شرب هذه والقمار هذا كبـير من الاَثام. وقرأه آخرون من أهل الـمصرين, البصرة والكوفة: «قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ» بـمعنى الكثرة من الاَثام, وكأنهم رأوا أن الإثم بـمعنى الاَثام, وإن كان فـي اللفظ واحدا فوصفوه بـمعناه من الكثرة.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالبـاء: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ لإجماع جميعهم علـى قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بـالبـاء وفـي ذلك دلالة بـينة علـى أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر, لا الكثرة فـي العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة, لقـيـل وإثمهما أكثر من نفعهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.
يعنـي بذلك عزّ ذكره: والإثم بشرب هذه والقمار هذا, أعظم وأكبر مضرّة علـيهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنـما كان ذلك كذلك, لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم علـى بعض وقاتل بعضهم بعضا, وإذا ياسروا وقع بـينهم فـيه بسببه الشرّ, فأدّاهم ذلك إلـى ما يأثمون به.
ونزلت هذه الآية فـي الـخمر قبل أن يصرّح بتـحريـمها, فأضاف الإثم جل ثناؤه إلـيهما, وإنـما الإثم بأسبـابهما, إذ كان عن سببهما يحدث.
وقد قال عدد من أهل التأويـل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تـحريـمهما أكبر من نفعهما قبل تـحريـمهما. ذكر من قال ذلك:
3563ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: منافعهما قبل التـحريـم, وإثمهما بعدما حرّما.
3564ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه عن الربـيع: وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل الـمنافع قبل التـحريـم, والإثم بعد ما حرّم.
3565ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول: إثمهما بعد التـحريـم أكبر من نفعهما قبل التـحريـم.
3566ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول: ما يذهب من الدين والإثم فـيه أكبر مـما يصيبون فـي فرحها إذا شربوها.
وإنـما اخترنا ما قلنا فـي ذلك من التأويـل لتواتر الأخبـار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تـحريـم الـخمر والـميسر, فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله فـي هذه الآية فأضافه إلـيهما إنـما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبـابهما علـى ما وصفنا, لا الإثم بعد التـحريـم.
ذكر الأخبـار الدالة علـى ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تـحريـم الـخمر:
3567ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا قـيس, عن سالـم, عن سعيد بن جبـير, قال: لـما نزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وشربها قوم لقوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ, حتـى نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال: فكانوا يدعونها فـي حين الصلاة ويشربونها فـي غير حين الصلاة, حتـى نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فقال عمر: ضيعةً لك الـيوم قرنت بـالـميسر.
3568ـ حدثنـي مـحمد بن معمر, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي حميد, عن أبـي توبة الـمصري, قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل فـي الـخمر ثلاثا, فكان أول ما أنزل: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ الآية, فقالوا: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها, كما قال الله جل وعز فـي كتابه. ثم نزلت هذه الآية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى... الآية, قالوا: يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال: ثم نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ الآية, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُرّمَتِ الـخَمْرُ».
3569ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة والـحسن قالا: قال الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التـي فـي الـمائدة, فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية.
3570ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا عوف, عن أبـي القموص زيد بن علـيّ, قال: أنزل الله عز وجل فـي الـخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال الله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: فشربها من الـمسلـمين من شاء الله منهم علـى ذلك, حتـى شرب رجلان, فدخلا فـي الصلاة, فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو, فأنزل الله عز وجل فـيهما: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم, وجعلوا يتقونها عند الصلاة, حتـى شربها فـيـما زعم أبو القموص رجلٌ, فجعل ينوح علـى قتلـى بدر:
تُـحَيّـي بـالسّلامَةِ أُمّ عَمرووهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ
ذَرِيِنـي أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّـيرأيْتُ الـمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ
وَوَدّ بَنُو الـمَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُبألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ
كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بـالسّنامِ
كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الفِتْـيانِ والـحُلَل الكِرَامِ
قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتـى انتهى إلـيه, فلـما عاينه الرجل, فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بـيده لـيضربه, قال: أعوذ بـالله من غضب الله ورسوله, والله لا أطعَمُها أبدا فأنزل الله تـحريـمها: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الـخطاب رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.
3571ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا إسحاق الأزرق, عن زكريا عن سماك, عن الشعبـي, قال: نزلت فـي الـخمر أربع آيات: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها, ثم نزلت: تَتّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها. ثم نزلت الاَيتان فـي الـمائدة إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ.
3572ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: نزلت هذه الآية: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية, فلـم يزالوا بذلك يشربونها, حتـى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما, فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيهم علـيّ بن أبـي طالب, فقرأ: قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولـم يفهمها, فأنزل الله عز وجل يشدّد فـي الـخمر: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً, يشربون من صلاة الفجر حتـى يرتفع النهار أو ينتصف, فـيقومون إلـى صلاة الظهر وهم مُصْحون, ثم لا يشربونها حتـى يصلوا العتـمة وهي العشاء, ثم يشربونها حتـى ينتصف اللـيـل وينامون, ثم يقومون إلـى صلاة الفجر وقد صحوا. فلـم يزالوا بذلك يشربونها, حتـى صنع سعد بن أبـي وقاص طعاما, فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيهم رجل من الأنصار, فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم علـيه, فلـما أكلوا وشربوا من الـخمر سكروا وأخذوا فـي الـحديث, فتكلـم سعد بشيء, فغضب الأنصاري, فرفع لـحى البعير فكسر أنف سعد, فأنزل الله نسخ الـخمر وتـحريـمها وقال: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ.
3573ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, وعن رجل عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قال: لـما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض, حتـى نزل تـحريـمها فـي سورة الـمائدة.
3574ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أوّل ما عيبت به الـخمر.
3575ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما الله ولـم يحرّمهما لـما أراد أن يبلغ بهما من الـمدة والأجل, ثم أنزل الله فـي سورة النساء أشدّ منها: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها, حتـى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها, فكان السكر علـيهم حراما. ثم أنزل الله جل وعز فـي سورة الـمائدة بعد غزوة الأحزاب: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ إلـى: لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ فجاء تـحريـمها فـي هذه الآية قلـيـلها وكثـيرها, ما أسكر منها وما لـم يسكر, ولـيس للعرب يومئذ عيش أعجب إلـيهم منها.
3576ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. قال: لـما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْريـمِ الـخَمْرِ». قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْرِيـمِ الـخَمْرِ». قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الـخمر عند ذلك.
3577ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية كلها, قال نسخت ثلاثةً: فـي سورة الـمائدة, وبـالـحدّ الذي حدّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وضرب النبـيّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا, ولكنه كان يعمل فـي ذلك برأيه, ولـم يكن حدّا مسمى وهو حد. وقرأ: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ.
يعنـي جل ذكره بذلك: ويسألك يا مـحمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به, فقل لهم يا مـحمد أنفقوا منها العفو.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى: العَفْو فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناه: الفضل. ذكر من قال ذلك:
3578ـ حدثنا عمرو بن علـيّ البـاهلـي, قال: حدثنا وكيع ح, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس قال: العفو: ما فضل عن أهلك.
3579ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قل العفو: أي الفضل.
3580ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: هو الفضل.
3581ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء فـي قوله: العفو, قال: الفضل.
3582ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: العفو, يقول: الفضل.
3583ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان القوم يعملون فـي كل يوم بـما فـيه, فإن فضل ذلك الـيوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا, ويتصدقون به علـى الناس.
3584ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا يونس, عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هوالفضل فضل الـمال.
وقال آخرون: معنى ذلك ما كان عفوا لا يبـين علـى من أنفقه أو تصدق به. ذكر من قال ذلك:
3585ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ يقول: ما لا يتبـين فـي أموالكم.
3586ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن جريج, عن طاوس فـي قول الله جل وعز: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: الـيسير من كل شيء.
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة ما لـم يكن إسرافـا ولا إقتارا. ذكر من قال ذلك:
3587ـ حدثنا مـحمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, عن عوف, عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ يقول: لا تـجهد مالك حتـى ينفد للناس.
3588ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء, عن قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال: العفو فـي النفقة أن لا تـجهد مالك حتـى ينفد, فتسأل الناس.
3589ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء, عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: العفو: ما لـم يسرفوا, ولـم يقتروا فـي الـحقّ. قال: وقال مـجاهد: العفو صدقة عن ظهر غنى.
3590ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن فـي قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هو أن لا تـجهد مالك.
وقال آخرون: معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قلـيلاً أو كثـيرا. ذكر من قال ذلك:
3591ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ يقول: ما أتوك به من شيء قلـيـل أو كثـير, فـاقبله منهم.
وقال آخرون: معنى ذلك ما طاب من أموالكم. ذكر من قال ذلك:
3592ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال: يقول الطيب منه, يقول: أفضل مالك وأطيبه.
3593ـ حدثت عن عمار بن الـحسن قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, قال: كان يقول: العفو: الفضل. يقول: أفضل مالك.
وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:
3594ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن قـيس بن سعد, أو عيسى عن قـيس, عن مـجاهد شك أبو عاصم قول الله جل وعز: قُلِ العَفْوَ قال: الصدقة الـمفروضة.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله فـي مئونتهم وما لا بدّ لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالإذن فـي الصدقة, وصدقته فـي وجه البرّ.
ذكر بعض الأخبـار التـي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:
3حدثنا علـيّ بن مسلـم, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن عجلان, عن الـمقبري, عن أبـي هريرة, قال: قال رجل: يا رسول الله عندي دينار قال: «أنْفِقْهُ علـى نَفْسِكَ؟» قال: عندي آخر قال: «أنْفِقْهُ علـى أهْلِكَ» قال: عندي آخر قال: «أنْفِقْهُ علـى وَلَدِكَ» قال: عندي آخر قال: «فأنْتَ أبْصَرُ».
3595ـ حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي, قال: حدثنا روح بن عبـادة, قال: حدثنا ابن جريج, قال: أخبرنـي أبو الزبـير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِـيرا فَلْـيَبَدأ بِنَفْسِهِ, فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِـمَنْ يَعُولُ, ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْـيَتَصَدّقْ علـى غَيْرِهِمْ».
3596ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن عاصم, عن عمر بن قتادة, عن مـحمود بن لبـيد, عن جابر بن عبد الله, قال: أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببـيضة من ذهب أصابها فـي بعض الـمعادن, فقال: يا رسول الله, خذ هذه منـي صدقة, فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه, فأتاه من ركنه الأيـمن, فقال له مثل ذلك, فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك, فقال: «هاتها» مغضبـا, فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره, ثم قال: «يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِـمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّـمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى».
3597ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن إبراهيـم الـمخرمي, قال: سمعت أبـا الأحوص يحدث عن عبد الله, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ, وَابْدأ بِـمَنْ تَعُولُ, وَلا تُلامُ علـى كَفـافٍ».
وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بـالفضل عن حاجة الـمتصدق الفضل من ذلك, هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو فـي كلام العرب فـي الـمال وفـي كل شيء هو الزيادة والكثرة, ومن ذلك قوله جل ثناؤه: حَتـى عَفَوْا بـمعنى: زادوا علـى ما كانوا علـيه من العدد وكثروا, ومنه قول الشاعر:
وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّابأسْوُقِ عافِـياتِ الشّحْمِ كُومِ
يعنـي به كثـيرات الشحوم. ومن ذلك قـيـل للرجل: خذ ما عفـا لك من فلان, يراد به: ما فضل فصفـا لك عن جهده بـما لـم تـجهده. كان بـينا أن الذي أذن الله به فـي قوله قُلِ العَفْوَ لعبـاده من النفقة, فأذنهم بإنفـاقه إذا أرادوا إنفـاقه هو الذي بـين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى» وأذنهم به.
فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة الـمفروضة؟ قـيـل: أنكرنا ذلك لقـيام الـحجة علـى أن من حلت فـي ماله الزكاة الـمفروضة, فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة, أن علـيه أن يسلـمه إلـيهم, إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه فـي أداء الواجب كان لهم (فـي) ماله إلـيهم, وذلك لا شك أنه جهده إذا سلـمه إلـيهم لا عفوه, وفـي تسمية الله جل ثناؤه ما علـم عبـاده وجه إنفـاقهم من أموالهم عفوا, ما يبطل أن يكون مستـحقا اسم جهد فـي حالة, وإذا كان ذلك كذلك فبّـين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ الـمال إلـى إمامه, فأعطاه كائنا ما كان من قلـيـل ماله وكثـيره, وقول من زعم أنه الصدقة الـمفروضة.
وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول: إن معناه ما لـم يتبـين فـي أموالكم, لأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما قال له أبو لبـابة: إن من توبتـي أن أنـخـلع إلـى الله ورسوله من مالـي صدقة, قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «يَكْفِـيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ» وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال له نـحوا من ذلك. والثلث لا شك أنه بـين فقده من مال ذي الـمال, ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلـم يَقْتُرُوا وكانَ بَـيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلـى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا وذلك هو ما حده صلـى الله علـيه وسلـم فـيـما دون ذلك علـى قدر الـمال واحتـماله.
ثم اختلف أهل العلـم فـي هذه الآية: هل هي منسوخة, أم ثابتة الـحكم علـى العبـاد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة نسختها الزكاة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:
3598ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
3حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: لـم تفرض فـيه فريضة معلومة, ثم قال: خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة.
3حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة.
وقال آخرون: بل مثبتة الـحكم غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن قـيس بن سعد أو عيسى, عن قـيس, عن مـجاهد شك أبو عاصم, قال قال: العفو: الصدقة الـمفروضة.
والصواب من القول فـي ذلك ما قاله ابن عبـاس علـى ما رواه عنه عطية من أن قوله: قُلِ العَفْوَ لـيس بإيجاب فرض فرض من الله حقا فـي ماله, ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مـما يسخطه جوابـا منه لـمن سأل نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عما فـيه له رضا, فهو أدب من الله لـجميع خـلقه علـى ما أدبهم به فـي الصدقة غير الـمفروضات ثابت الـحكم غير ناسخ لـحكم كان قبله بخلافه, ولا منسوخ بحكم حدث بعده, فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتـجاوز فـي صدقات التطوّع وهبـاته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبـيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ بِنَفْسِهِ, ثُمّ بأهْلِه, ثُمّ بِوَلَدِهِ» ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِـي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِـي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبّها. وذلك هو القوام بـين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ فـي كتابه إن شاء الله تعالـى. ويقال لـمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة علـى نسخه؟ وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث, فما الذي دلّ علـى أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعنـي بقوله: إنه منسوخ أن إخراج العفو من الـمال غير لازم فرضا, وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة فـي الـمال قـيـل له: وما الدلـيـل علـى أن إخراج العفو كان فرضا, فأسقطه فرض الزكاة؟ ولا دلالة فـي الآية علـى أن ذلك كان فرضا, إذ لـم يكن أمر من الله عز ذكره, بل فـيها الدلالة علـى أنها جواب ما سأل عنه القوم علـى وجه التعرف لـما فـيه لله الرضا من الصدقات, ولا سبـيـل لـمدعي ذلك إلـى دلالة توجب صحة ما ادّعى.
وأما القراء فإنهم اختلفوا فـي قراءة العفو, فقرأته عامة قراء الـحجاز وقراء الـحرمين وعظم قراء الكوفـيـين: قُلِ العَفْوَ نصبـا, وقرأه بعض قراء البصريـين: قُلِ العَفْوُ رفعا. فمن قرأه نصبـا جعل «ماذا» حرفـا واحدا, ونصبه بقوله: يُنْفِقُونَ علـى ما قد بـينت قبل, ثم نصب العفو علـى ذلك فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟ ومن قرأه رفعا جعل «ما» من صلة «ذا» ورفعوا العفو فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي ينفقون, قل الذي ينفقون العفو. ولو نصب العفو, ثم جعل «ماذا» حرفـين بـمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ينفقون العفو, ورفع الذين جعلوا «ماذا» حرفـا واحدا بـمعنى: ما ينفقون؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابـا صحيحا فـي العربـية. وبأيّ القراءتـين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنـيـيهما مع استفـاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بـالنصب, لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ.
يعنـي بقول عز ذكره: كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ هكذا يبـين أي ما بـينت لكم أعلامي وحججي, وهي آياته فـي هذه السورة, وعرفتكم فـيها ما فـيه خلاصكم من عقابـي, وبـينت لكم حدودي وفرائضي, ونبهتكم فـيها علـى الأدلة علـى وحدانـيتـي, ثم علـى حجج رسولـي إلـيكم, فأرشدتكم إلـى ظهور الهدى, فكذلك أبـين لكم فـي سائر كتابـي الذي أنزلته علـى نبـيـي مـحمد صلى الله عليه وسلم آياتـي وحججي, وأوضحها لكم لتتفكروا فـي وعدي ووعيدي وثوابـي وعقابـي, فتـجاوزوا طاعتـي التـي تنالون بها ثوابـي فـي الدار الاَخرة, والفوز بنعيـم الأبد علـى القلـيـل من اللذات, والـيسير من الشهوات, بركوب معصيتـي فـي الدنـيا الفـانـية التـي من ركبها, كان معاده إلـيّ, ومصيره إلـى ما لا قبل له به من عقابـي وعذابـي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3حدثنا علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَة قال: يعنـي فـي زوال الدنـيا وفنائها, وإقبـال الاَخرة وبقائها.
3حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ يقول: لعلكم تتفكرون فـي الدنـيا والاَخرة, فتعرفون فضل الاَخرة علـى الدنـيا.
3حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قال: قوله: كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ قال: أما الدنـيا فتعلـمون أنها دار بلاء ثم فناء, والاَخرة دار جزاء ثم بقاء, فتتفكرون, فتعملون للبـاقـية منهما. قال: وسمعت أبـا عاصم يذكر نـحو هذا أيضا.
3599ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فـي الدّنْـيا والاَخِرَة وإنه من تفكر فـيهما عرف فضل إحداهما علـى الأخرى وعرف أن الدنـيا دار بلاء ثم دار فناء, وأن الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء, فكونوا مـمن يَصْرم حاجة الدنـيا لـحاجة الاَخرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهمْ خَيْرٌ, وإنْ تُـخَالِطُوهُم فَإخْوانُكُمْ.
اختلف أهل التأويـل فـيـما نزلت هذه الآية: فقال بعضهم نزلت.....
3600ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيـل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال:: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الَـيتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ عزلوا أموال الـيتامى, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت: وَإنْ تُـخالِطوِهمْ فإخْوَانُكُمْ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتكُمْ فخالطوهم.
3601ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما نزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ وإنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا انطلق من كان عنده يتـيـم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل الشيء من طعامه, فـيحبس له حتـى يأكله أو يفسد. فـاشتدّ ذلك علـيهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل: وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ فخـلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
3602ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد, قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ قال: كنا نصنع للـيتـيـم طعاما فـيفضل منه الشيء, فـيتركونه حتـى يفسد, فأنزل الله: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ.
3حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا أبو أسامة, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن الـحكم, قال: سئل عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى عن مال الـيتـيـم, فقال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ اجتنبت مخالطتهم, واتقوْا كل شيء حتـى اتقوا الـمَاء, فلـما نزلت: وَإِنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: فخالطوهم.
3حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى الآية كلها, قال: كان الله أنزل قبل ذلك فـي سورة بنـي إسرائيـل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ فكبرت علـيهم, فكانوا لا يخالطونهم فـي مأكل ولا فـي غيره. فـاشتدّ ذلك علـيهم, فأنزل الله الرخصة, فقال: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ.
3603ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ اعتزل الناس الـيتامى فلـم يخالطوهم فـي مأكل ولا مشرب ولا مال, قال: فشقّ ذلك علـى الناس, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ.
3حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... الآية. قال: فذكر لنا والله أعلـم أنه أنزل فـي بنـي إسرائيـل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ حتّـى يَبْلُغَ أشُدّهُ فكبرت علـيهم, فكانوا لا يخالطونهم فـي طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فـاشتدّ ذلك علـيهم, فأنزل الله الرخصة فقال: ويَسألُونَكَ عَن الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُم فإخْوَانُكُم يقول: مخالطتهم فـي ركوب الدابة, وشرب اللبن, وخدمة الـخادم. يقول للولـيّ الذي يـلـي أمرهم: فلا بأس علـيه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن, أو يخدمه الـخادم.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
3حدثنـي عمرو بن علـيّ قال: حدثنا عمران بن عيـينة, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ الآية, قال: كان يكون فـي حجر الرجل الـيتـيـم, فـيعزل طعامه وشرابه وآنـيته, فشقّ ذلك علـى الـمسلـمين, فأنزل الله: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح فأحلّ خـلطهم.
3حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص بن غياث, قال: حدثنا أشعث, عن الشعبـي, قال: لـما نزلت هذه الآية: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا قال: فـاجتنب الناس الأيتام, فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه وماله من ماله, وشرابه من شرابه. قال: فـاشتدّ ذلك علـى الناس, فنزلت: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح. قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـما فلـيتوسع علـيه, ومن خالطه لـيأكل من ماله فلا يفعل.
3604ـ حدثنـي علـي بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُم خَيْرٌ وذلك أن الله لـما أنزل: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَونَ سَعِيرا كره الـمسلـمون أن يضموا الـيتامى, وتـحرّجوا أن يخالطوهم فـي شيء, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ.
3حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح عن قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ قال: لـما نزلت سورة النساء عزل الناس طعامهم, فلـم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشق علـينا أن نعزل طعام الـيتامى وهم يأكلون معناه فنزلت وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ.
قال ابن جريج وقال مـجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم, وألبـانهم عن ألبـانهم, وأُدْمهم عن أدمهم, فشق ذلك علـيهم, فنزلت: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الـمراعي والأدم. قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: الألبـان وخدمة الـخادم وركوب الدابة. قال ابن جريج: وفـي الـمساكن, قال: والـمساكن يومئذٍ عزيزة.
3605ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر, قال: أخبرنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ و: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامى ظُلْـما قال: اجتنب الناس مال الـيتـيـم وطعامه, حتـى كان يفسد إن كان لـحما أو غيره, فشق ذلك علـى الناس, فشكوا ذلك إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ.
3606ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن قـيس بن سعد أو عيسى, عن قـيس بن سعد, شك أبو عاصم عن مـجاهد: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الرّعْي والأدم.
وقال آخرون: بل كان اتقاء مال الـيتـيـم واجتنابه من أخلاق العرب, فـاستفتوا فـي ذلك لـمشقته علـيهم, فأفتوا بـما بـينه الله فـي كتابه. ذكر من قال ذلك:
3607ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ قال: كانت العرب يشددون فـي الـيتـيـم حتـى لا يأكلوا معه فـي قصعة واحدة, ولا يركبوا له بعيرا, ولا يستـخدموا له خادما, فجاءوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه, فقال: قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يصلـح له ماله وأمره له خير, وإن يخالطه فـيأكل معه ويطعمه, ويركب راحلته ويحمله, ويستـخدم خادمه ويخدمه, فهو أجود. وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ.
3608ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ إلـى: إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيـمٌ وإن الناس كانوا إذا كان فـي حجر أحدهم الـيتـيـم جعل طعامه علـى ناحية ولبنه علـى ناحية, مخافة الوزر. وإنه أصاب الـمؤمنـين الـجهد, فلـم يكن عندهم ما يجعلون خدما للـيتامى, فقال الله: قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... إلـى آخر الآية.
3609ـ حدثت عن الـحسن بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامى كانوا فـي الـجاهلـية يعظمون شأن الـيتـيـم, فلا يَـمسّون من أموالهم شيئا, ولا يركبون لهم دابة, ولا يطعمون لهم طعاما. فأصابهم فـي الإسلام جهد شديد, حتـى احتاجوا إلـى أموال الـيتامى, فسألوا نبـي الله صلى الله عليه وسلم عن شأن الـيتامى, وعن مخالطتهم, فأنزل الله: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ يعنـي بـالـمخالطة: ركوب الدابة, وخدمة الـخادم, وشرب اللبن.
فتأويـل الآية إذًا: ويسألك يا مـحمد أصحابك عن مال الـيتامى, وخـلطهم أموالهم به فـي النفقة والـمطاعمة والـمشاربة والـمساكنة والـخدمة, فقل لهم: تفضلكم علـيهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة شيء من أموالهم, وغير أخذ عوض من أموالهم علـى إصلاحكم ذلك لهم, خير لكم عند الله, وأعظم لكم أجرا, لـما لكم فـي ذلك من الأجر والثواب, وخير لهم فـي أموالهم فـي عاجل دنـياهم, لـما فـي ذلك من توفر أموالهم علـيهم. وإن تـخالطوهم فتشاركوهم بأموالكم أموالهم فـي نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم, فتضموا من أموالهم عوضا من قـيامكم بأمورهم وأسبـابهم وإصلاح أموالهم, فهم إخوانكم, والإخوان يعين بعضهم بعضا, ويكنف بعضهم بعضا فذو الـمال يعين ذا الفـاقة, وذو القوّة فـي الـجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالـى ذكره: فأنتـم أيها الـمؤمنون وأيتامكم كذلك إن خالطتـموهم بأموالكم, فخـلطتـم طعامكم بطعامهم, وشرابكم بشرابهم وسائر أموالكم بأموالهم, فأصبتـم من أموالهم فضل مرفق بـما كان منكم من قـيامكم بأموالهم وولائهم, ومعاناة أسبـابهم علـى النظر منكم لهم نظر الأخ الشفـيق لأخيه العامل فـيـما بـينه وبـينه بـما أوجب الله علـيه وألزمه, فذلك لكم حلال, لأنكم إخوان بعضكم لبعض. كما:
3610ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: قد يخالط الرجل أخاه.
3حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي مسكين, عن إبراهيـم, قال: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم كالعُرْة.
3حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن هشام الدستوائي, عن حماد, عن إبراهيـم, عن عائشة, قالت: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم عندي عُرّة حتـى أخـلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابـي.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال فإخْوَانُكُمْ فرفع الإخوان, وقال فـي موضع آخر: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا. قـيـل: لافتراق معنـيـيهما, وذلك أن أيتام الـمؤمنـين إخوان الـمؤمنـين, خالطهم الـمؤمنون بأموالهم أو لـم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تـخالطوهم فهم إخوانكم. والإخوان مرفوعون بـالـمعنى الـمتروك ذكره وهو هم لدلالة الكلام علـيه, وإنه لـم يُرد بـالإخوان الـخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم. ولو كان ذلك الـمراد لكانت القراءة نصبـا, وكان معناه حينئذٍ وإن تـخالطوهم فخالطوا إخوانكم, ولكنه قرىء رفعا لـما وصفت من أنهم إخوان للـمؤمنـين الذين يـلونهم خالطوهم أو لـم يخالطوهم.
وأما قوله: فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا فنصب لأنهما حالان للفعل غير دائبـين, ولا يصلـح معهما هو, وذلك أنك لو أظهرت هو معهما لاستـحال الكلام.
ألا ترى أنه لو قال قائل: إن خفت من عدوّك أن تصلـي قائما, فهو راجل أو راكب لبطل الـمعنى الـمراد بـالكلام؟
وذلك أن تأويـل الكلام: فإن خفتـم أن تصلوا قـياما من عدوّكم, فصلوا رجالاً أو ركبـانا ولذلك نصبه إجراء علـى ما قبله من الكلام كما تقول فـي نـحوه من الكلام: إن لبست ثـيابـا فـالبـياض, فتنصبه لأنك تريد إن لبست ثـيابـا فـالبس البـياض, ولست تريد الـخبر عن أن جميع ما يـلبس من الثـياب فهو البـياض, ولو أردت الـخبر عن ذلك لقلت: إن لبست ثـيابـا فـالبـياضُ رفعا, إذ كان مخرج الكلام علـى وجه الـخبر منك عن اللابس أن كل ما يـلبس من الثـياب فبـياض, لأنك تريد حينئذٍ: إن لبست ثـيابـا فهي بـياض.
فإن قال: فهل يجوز النصب فـي قوله: فإخْوَانكُمْ؟ قـيـل: جائز فـي العربـية, فأما فـي القراءة فإنـما منعناه لإجماع القرّاء علـى رفعه. وأما فـي العربـية فإنـما أجزناه لأنه يحسن معه تكرير ما يحمل فـي الذي قبله من الفعل فـيهما: وإن تـخالطوهم فإخوانكم تـخالطون فـيكون ذلك جائزا فـي كلام العرب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن ربكم وإن أذن لكم فـي مخالطتكم الـيتامى علـى ما أذن لكم به, فـاتقوا الله فـي أنفسكم أن تـخالطوهم وأنتـم تريدون أكل أموالهم بـالبـاطل, وتـجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلـى إفساد أموالهم, وأكلها بغير حقها, فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التـي لا قبل لكم بها, فإنه يعلـم من خالط منكم يتـيـمه, فشاركه فـي مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته فـي حال مخالطته إياه ما الذي يقصد بـمخالطته إياه إفساد ماله, وأكله بـالبـاطل, أم إصلاحه وتثميره, لأنه لا يخفـى علـيه منه شيء, ويعلـم أيكم الـمريد إصلاح ماله, من الـمريد إفساده. كما:
3حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله تعالـى ذكره: وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ قال: الله يعلـم حين تـخـلط مالك بـماله أتريد أن تصلـح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق.
3حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أشعث, عن الشعبـي: وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـما فلـيتوسع علـيه, ومن خالطه لـيأكل ماله فلا يفعل.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعَنْتَكُمْ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولو شاء الله لـحرّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالهم, فجهدكم ذلك وشقّ علـيكم, ولـم تقدروا علـى القـيام بـاللازم لكم من حقّ الله تعالـى, والواجب علـيكم فـي ذلك من فرضه, ولكنه رخص لكم فـيه, وسهله علـيكم, رحمة بكم ورأفة.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لأَعْنَتَكُمْ فقال بعضهم بـما:
3حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن قـيس بن سعد, أو عيسى, عن قـيس بن سعد, عن مـجاهد شك أبو عاصم فـي قول الله تعالـى ذكره: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ لـحرّم علـيكم الـمرعى والأدم.
قال أبو جعفر: يعنـي بذلك مـجاهد, رعي مواشي والـي الـيتـيـم مع مواشي الـيتـيـم والأكل من إدامه, لأنه كان يتأول فـي قوله: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ أنه خـلطة الولـي الـيتـيـم بـالرعي والأدم.
3611ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ يقول: ولو شاء الله لأحرجكم, فضيق علـيكم, ولكنه وسع ويسّر, فقال: وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيأكُلْ بـالـمَعْرُوفِ.
3612ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ يقول: لـجهدكم, فلـم تقوموا بحقّ ولـم تؤدّوا فريضة.
3613ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع نـحوه, إلا أنه قال: فلـم تعملوا بحق.
3614ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ لشدّد علـيكم.
3615ـ حدثنـي يونس. قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ قال: لشقّ علـيكم فـي الأمر, ذلك العنت.
3616ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس قوله: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال: ولو شاء الله لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى مُوبقا.
وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذُكرَت عنه, وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيها فـيها, فإنها متقاربـات الـمعانـي لأن من حرم علـيه شيء فقد ضيق علـيه فـي ذلك الشيء, ومن ضيق علـيه فـي شيء, فقد أحرج فـيه, ومن أحرج فـي شيء أو ضيق علـيه فـيه فقد جهد, وكل ذلك عائد إلـى الـمعنى الذي وصفت من أن معناه الشدة والـمشقة, ولذلك قـيـل: عَنِت فلان: إذا شق علـيه وجهده فهو يعنت عنتا, كما قال تعالـى ذكره: عَزِيرٌ عَلَـيْهِ ما عَنِتّـمْ يعنـي ما شقّ علـيكم وآذاكم وجهدكم, ومنه قوله تعالـى ذكره: ذَلِكَ لِـمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ فهذا إذا عنت العانت, فإن صيره غيره كذلك قـيـل: أعنته فلان فـي كذا: إذا جهده وألزمه أمرا جهده القـيام به يعنته إعناتا, فكذلك قوله: لأَعْنَتَكُمْ معناه: لأوجب لكم العنت بتـحريـمه علـيكم ما يجهدكم ويحرجكم مـما لا تطيقون القـيام بـاجتنابه وأداء الواجب له علـيكم فـيه.
وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقككم وأهلككم. ذكر من قال ذلك:
3حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا طلق بن غنام, عن زائدة, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس قال: قرأ علـينا: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال ابن عبـاس: ولو شاء الله لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى موبقا.
3617ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن فضيـل وجرير, عن منصور, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال: لـجعل ما أصبتـم موبقا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن الله عزيز فـي سلطانه لا يـمنعه مانع مـما أحلّ بكم من عقوبة, لو أعنتكم بـما يجهدكم القـيام به من فرائضه, فقصرتـم فـي القـيام به, ولا يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مـما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله هو, لكنه بفضل رحمته منّ علـيكم بترك تكلـيفه إياكم ذلك, وهو حكيـم فـي ذلك لو فعله بكم, وفـي غيره من أحكامه وتدبـيره لا يدخـل أفعاله خـلل ولا نقص ولا وهي ولا عيب, لأنه فعل ذي الـحكمة الذي لا يجهل عواقب الأمور, فـيدخـل تدبـيره مذمة عاقبة, كما يدخـل ذلك أفعال الـخـلق لـجهلهم بعواقب الأمور, لسوء اختـيارهم فـيها ابتداء