تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 458 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 458

457

وجملة 84- "قال فالحق والحق أقول" مستأنفة كالجمل التي قبلها. قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب، أو هما منصوبان على الإغراء: أي الزموا الحق، أو مصدران مؤكدان لمضمون.
قوله: 85- "لأملأن جهنم" وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش وعاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر: أي فالحق مني، أو فالحق أنا، أو خبره لأملأن، أو هو خبر مبتدإ محذوف، وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور بعده: أي وأنا أقول الحق، وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون منصوباً بمعنى حقاً لأملأن جهنم. واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها. وروي عن سيبويه والفراء أيضاً أن المعنى فالحق أن إملاء جهنم. وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قرآ برفعها، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء، وخبره الجملة المذكورة بعده، والعائد محذوف. وقرأ ابن السميفع وطلحة بن مصرف بخلضهما على تقدير حرف القسم. قال الفراء: كما يقول الله عز وجل لأفعلن كذا، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال: لا يجوز الخفض بحر مضمر، وجملة "لأملأن جهنم" جواب القسم على قراءة الجمهور، وجملة "والحق أقول" معترضة بين القسم وجوابه، ومعنى "منك" أي من جنسك من الشياطين "وممن تبعك منهم" أي من ذرية آدم فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية و "أجمعين" تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه: أي لأملأنها من الشياطين وأتباعهم أجميعن.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل، فقال: 86- "قل ما أسألكم عليه من أجر" والضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر، ولكنه مفهوم من السياق. وقيل هو عائد إلى ما تقدم من قوله: "أأنزل عليه الذكر من بيننا" وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي ومن قول الرسول لله. والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه "وما أنا من المتكلفين" حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه، والتكلف: التصنع.
87- "إن هو إلا ذكر للعالمين" أي ما هذا القرآن، أو الوحي، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عز وجل للجن والإنس. قال الأعمش: من القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين.
88- "ولتعلمن" أيها الكفار "نبأه" أي ما أنبأ عنه، وأخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده، والترغيب إلى الجنة، والتحذير من النار "بعد حين" قال قتادة والزجاج والفراء: بعد الموت. وقال عكرمة وابن زيد: يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال السدي: وذلك يوم بدر. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس "إذ يختصمون" أن الخصومة هي: "إذ قال ربك" إلخ. وأخرج ابن جرير وابن الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر قال: خلق الله أربعاً بيده: العرش، وجنة عدن، والقلم، وآدم. وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الهل بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فالحق والحق أقول" قال: أنا الحق أقول الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر" قال: قل يا محمد "ما أسألكم عليه" ما أدعوكم إليه "من أجر" عرض دنيا. وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد، فقال فيما يقول: "يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال: دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، قال: قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئاً فاستوى قاعداً فقال: يا أيها الناس من علم منكم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين". وأخرج البخاري عن عمر قال: نهينا عن التكلف. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف.سورة الزمر هي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاثة آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الثلاث الآيات. وقال آخرون: إلى سبع آيات من قوله: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر السبع. وأخرج النسائي عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر". وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل". قوله: 1- "تنزيل الكتاب" ارتفاعه على أنه خبر مبتدإ محذوف هو اسم إشارة: أي هذا تنزيل. وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله: "إن هو إلا ذكر للعالمين"، كأنه قيل: وهذا الذكرما هو؟ فقيل هو تنزيل الكتاب، وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده: أي تنزيل كائن من الله، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء. قال الفراء: ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى هذا تنزيل، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر: أي اتبعوا أو اقرأوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: يجوز نصبه على الإغراء: أي الزموا، والكتاب هو القرآن، وقوله: "من الله العزيز الحكيم" على الوجه الأول صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر.
2- "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" الباء سببية متعلقة بالإنزال: أي أنزلناه بسبب الحق، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل: أي متلبسين بالحق، أو من المفعول: أي متلبساً بالحق، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف. قال مقاتل: يقول لم ننزله باطلاً لغير شيء.
3- "فاعبد الله مخلصاً له الدين" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وانتصاب مخلصاً على الحال من فاعل اعبد، والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله وأنه لا شريك له. قرأ الجمهور الدين بالنصب على أنه مفعول مخلصاً. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصاً مسند إلى الدين على طريقة المجاز. قيل وكان عليه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام. وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب، لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأم في الأقوال والأفعال النية، كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث "لا قول ولا عمل إلا بنية".
وجملة 4- "ألا لله الدين الخالص" مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص: أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله "والذين اتخذوا من دونه أولياء" لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله "إن الله يحكم بينهم"، وجملة "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" في محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى: والذين لم يخلصوا العبادة لله، بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريباً والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء والمراد بقوله: "إلا ليقربونا إلى الله زلفى" الشفاعة، كما حكاه الواحدي عن المفسرين. قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: "فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة"، والزلفى اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريباً. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد قالوا ما نعبدهم ومعنى "إن الله يحكم بينهم" أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلاً بما يستحقه، وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا، وحذف الأول لدلالة الحالة عليه، ومعنى " في ما هم فيه يختلفون " في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة تدعي أن الحق معها "إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار" أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله وكفر باتخاذها آلهة وجعلها شركاء لله، والكفار صيغة مبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية. وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه القراءة عن أنس.
5- "لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى" هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي "مما يخلق ما يشاء" أي يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ، فمعنى الآية: لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد عن الاطلاق فقال: "سبحانه" أي تنزيهاً له عن ذلك، وجملة "هو الله الواحد القهار" مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات: أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه. لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه "لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا".