تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 523 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 523

522

52- "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم، و"كذلك" في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر كذلك. ثم فسر ما أجمله بقوله: "ما أتى" الخ، أو في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف: أي أنذركم إنذاراً كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم، والأول أولى.
53- "أتواصوا به" الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم: أي هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتوطأوا عليه "بل هم قوم طاغون" إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان: أي لم يتواصوا بذلك، بل جمعهم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم فقال: 54- "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق، فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته "فما أنت بملوم" عند الله بعد هذا لأنك قد أديت ما عليك، وهذا منسوخ بآية السيف.
ثم لما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال: 55- "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" قال الكلبي: المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. وقال مقاتل: عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن. وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله، وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به.
وجملة 56- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" مستأنفة مقررة لما قبلها، لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير وينشطهم للإجابة. قيل هذا خاص في من سبق من علم الله سبحانه أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص. قال الواحدي: قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني من أهل من الفريقين. قال: وهذا قول الكلبي والضحاك واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع، لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ولا أراجها منهم، وقد قال: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس" ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون". وقال مجاهد: إن المعنى: إلا ليعرفوني. قال الثعلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" واختار هذا الزجاج. وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية. وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة كما في قوله: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدره عليه. خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضرراً. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم.
57- "ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون" هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده، وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريده السادة من عبيدهم، بل هو الغني المطلق الرازق المعطي. وقيل المعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم، ولا يطعموا أحداً من خلقي ولا يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله. فمن أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه. وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عبدي استطعمتك فلم تطعمني" أي لم تطعم عبادي، ومن في قوله: "من رزق" زائدة لتأكيد العموم.
ثم بين سبحانه أنه هو الرزاق لا غيره، فقال: 58- "إن الله هو الرزاق" لا رزاق سواه ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة "ذو القوة المتين" ارتفاع المتين على أنه وصف للرزاق، أو لذو، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر. قرأ الجمهور " الرزاق " وقرأ ابن محيصن الرازق وقرأ الجمهور " المتين " بالرفع ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بالجر صفة للقوة، والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي. قال الفراء: كان حقه المتينة، فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، يقال حبل متين: أي محكم الفتل، ومعنى المتين: الشديد القوة هنا.
59- "فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم" أي ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، فإن لهم ذنوباً: أي طويل الشر لا ينقضي، وأصل الذنوب في اللغة الدلوا العظيمة، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر: لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب وما في الآية مأخوذ من مقاسمه السقاة الماء بالدلو الكبير، فهو تمثيل، جعل الذنوب. مكان الحظ والنصيب قاله ابن قتيبة "فلا يستعجلون" أي لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب كما في في قولهم: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ".
60- "فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون" قيل هو يوم القيامة وقيل يوم بدر، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر في قوله: "فتولى بركنه" عن ابن عباس قال: بقومه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله: "الريح العقيم" قال: الشديدة التي لا تلقح شيئاً. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب، وفي قوله: "إلا جعلته كالرميم" قال: كالشيء الهالك. وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "والسماء بنيناها بأيد" قال: بقوة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عنه في قوله: "فتول عنهم فما أنت بملوم" قال: أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم، وعذر محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" فنسختها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قال: ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً في قوله: "المتين" يقول: الشديد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ذنوباً" قال: دلواً. سورة الطورهي تسع وأربعون آية، وقيل ثمان وأربعون وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت الطور بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور". وأخرج البخاري وغيره عن أم سلمة "أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور". قوله: 1- "والطور" قال الجوهري: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. قال مجاهد السدي: الطور بالسريانية الجبل، والمراد به طور سيناء. قال مقاتل بن حيان: هما طوران: يقال لأحدهما طور سيناء، وللآخر طور زيتا، لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل هو جبل مدين، وقيل إن الطور كل جبل ينبت، وما لا ينبت فليس بطور، أقسم سبحانه بهذا الجبل تشريفاً له وتكريماً.
2- "وكتاب مسطور" المسطور: المكتوب، والمراد بالكتاب القرآن وقيل هو اللوح المحفوظ، وقيل جميع الكتب المنزلة، وقيل ألواح موسى، وقيل ما تكتبه الحفظة قاله الفراء وغيره، ومثله "ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً" وقوله: "وإذا الصحف نشرت".
3- "في رق منشور" متعلق بمسطور: أي مكتوب في رق. قرأ الجمهور "في رق" بفتح الراء، وقرأ أبو السماك بكسرها. قال الجوهري: الرق بالفتح ما يكتب فيه، وهو جلد رقيق، ومنه قوله تعالى: "في رق منشور" قال المبرد: الرق ما رق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق، ومن هذا قول المتلمس: فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور وأما الرق بالكسر فهو المملوك، يقال عبد رق وعبد مرقوق.
4- "والبيت المعمور" في السماء السابعة. وقيل في سماء الدنيا، وقيل هو الكعبة، فعلى القولين الأولين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة ويعبد الله فيه. وعلى القول الثالث، يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازاً باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم.
5- "والسقف المرفوع" يعني السماء سماها سقفاً لكونها كالسقف للأرض، ومنه قوله "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً" وقيل هو العرش.
6- "والبحر المسجور" أي الموقد، من السجر: وهو إيقاد النار في النور، ومنه قوله: "وإذا البحار سجرت" وقد روي أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون ناراً، وقيل المسجور المملوء، قيل إنه من أسماء الأضداد، يقال بحر مسجور: أي مملوء، وبحر مسجور: أي فارغ، وقيل المسجور الممسوك، ومنه ساجور الكلب، لأنه يمسكه. وقال أبو العالية: المسجور الذي ذهب ماؤه، وقيل المسجور المفجور، ومنه "وإذا البحار فجرت" وقال الربيع بن أنس: هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح. والأول أولى، وبه قال مجاهد والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش وغيرهم.
7- "إن عذاب ربك لواقع" هذا جواب القسم: أي كائن لا محالة لمن يستحقه.
8- "ما له من دافع" يدفعه ويرده عن أهل النار، وهذه الجملة خبر ثان لإن، أو صفة لواقع، ومن مزيدة للتأكيد. ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمة دال على كمال القدرة الربانية.
9- "يوم تمور السماء موراً" العامل في الظرف لواقع: أي إنه لواقع في هذا اليوم، ويجوز أن يكون العامل فيه دافع. والمور: الاضطراب والحركة. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور موراً: إذا تحرك وجاء وذهب قاله الأخفش وأبو عبيدة: وأنشد بيت الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها مشي السحابة لا ريث ولا عجل وليس في البيت ما يدل على ما قالاه إلا إذا كانت هذه المشية المذكورة في البيت يطلق المور عليها لغة. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض، وقال مجاهد: تدور دوراً، وقيل تجري جرياً، ومنه قول الشاعر: وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل ويطلق المور على الموج، ومنه ناقة موارة اليد، أي سريعة تموج في مشيها موجاً، ومعنى الآية أن العذاب يقع بالعصاة ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا، وهو يوم القيامة. وقيل إن السماء هاهنا الفلك، وموره: اضطراب نظمه واختلاف سيره.
10- "وتسير الجبال سيراً" أي تزول عن أماكنها وتسير عن مواضعها كسير السحاب وتكون هباءً منبثاً، قيل ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتها وخروجهما عن المعهود، وقد تقدم تفسير هذا في سورة الكهف.
11- "فويل يومئذ للمكذبين" ويل كلمة تقال للهالك، واسم واد في جهنم، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة: أي إذا وقع ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فويل لهم.
ثم وصف المكذبين بقوله: 12- "الذين هم في خوض يلعبون" أي في تردد في الباطل واندفاع فيه يلهون لا يذكرون حساباً ولا يخافون عقاباً. والمعنى: أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء، وقيل يخوضون في أسباب الدنيا ويعرضون عن الآخرة.
13- "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا" الدع الدفع بعنف وجفوة: يقال دعته أدعه دعا: أي دفعته، والمعنى: أنهم يدفعون إلى النار دفعاً عنيفاً شديداً. قال مقاتل: تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعاً على وجوههم. قرأ الجمهور بفتح الدال وتشديد العين. وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي وابن السميفع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة: أي يدعون إلى النار من الدعاء. ويوم إما بدل من يوم تمور: أو متعلق بالقول المقدر في الجملة التي بعد هذه.
وهي 14- "هذه النار التي كنتم بها تكذبون" أي يقال لهم ذلك يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً: أي هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار.