تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 576 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 576

575

وجملة 18- " إنه فكر وقدر " تعليل لما تقدم من الوعيد: أي إنه فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من القرآن وقدر في نفسه: أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: هيأت الشيء إذا قدرته، وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه وقدر في نفسه ما يقول.
فذمه الله وقال: 19- "فقتل كيف قدر" أي لعن وعذب كيف قدر: أي على أي حال قدر ما قدر منالكلام كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه، وقيل المعنى: قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء عليه.
والتكرير في قوله: 20- "ثم قتل كيف قدر" للمبالغة والتأكيد.
21- "ثم نظر" أي بأي شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.
22- "ثم عبس" أي قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب، وقيل عبس في وجوه المؤمنين، وقيل عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم "وبسر" أي كلح وجهه وتغير، ومنه قول الشاعر: صبحنا تميمـاً غـداة الحفــار بشـــهبـاء مـلــموســة بــاسـره وقول الآخر: وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول: وجه باسر إذا تغير واسود. وقال الراغب: البسر استعجال الشر قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته: أي طلبها في غير أوانها. قال: ومنه قوله: "عبس وبسر" أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون: بسر المركب وأبسر: أي وقف لا يتقدم ولا يتأخر، وقد أبسرنا: أي صرنا إلى البسور.
23- "ثم أدبر واستكبر" أي أعرض عن الحق، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن.
24- "فقال إن هذا إلا سحر يؤثر" أي يأثره عن غيره ويريه عنه. والسحر: إظهار الباطل في صورة الحق، أو الخديعة على ما تقدم بيانه في سورة البقرة، يقال أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى: إن الذي فيه تحاربتما بين للسامع والأثر
25- "إن هذا إلا قول البشر" يعني أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاءً لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه.
ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه قال الله عز وجل: 26- "سأصليه سقر" أي سأدخله النار، وسقر من أسماء النار، ومن دركات جهنم، وقيل إن هذه الجملة بدل من قوله "سأرهقه صعوداً".
ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال: 27- "وما أدراك ما سقر" أي وما أعلمك أي شيء هي، والعرب تقول: وما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة ما سقر خبر المبتدأ.
ثم فسر حالها فقال 28- "لا تبقي ولا تذر" والجملة مستأنفة لبيان حال سقر، والكشف عن وصفها، وقيل هي في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، لأن قوله: "وما أدراك ما سقر" يدل على التعظيم، فكأنه قال: استعظموا سقر في هذه الحال، والأول أولى، ومفعول الفعلين محذوف. قال السدي: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً. وقال عطاء: لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً، وقيل هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك: صد عني، وأعرض عني.
29- "لواحة للبشر" قرأ الجمهور " لواحة " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل على أنه نعت لسقر، والأول أولى. وقرأ الحسن وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة وزيد بن علي بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، يقال: لاح يلوح: أي ظهر، والمعنى: أنها تظهر للبشر. قال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله: "وبرزت الجحيم لمن يرى" وقيل معنى "لواحة للبشر" أي مغيرة لهم ومسودة. قال مجاهد: والعرب تقول: لاحة الحر والبرد والسقم والحزن: إذا غيره، وهذا أرجح من الأول، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر: وتعجب هند أن رأتنـي شاحبـا تقول لشيء لوحته السمايم أي غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج: لــوح منــه بعــد بـدن وشبــق تلويحك الضامر يطوى للسبق وقال الأخفش: المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد: سقتني على لوح من الماء شربة سقاها به الله الرهام الغواديا والمراد بالبشر إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش.
30- "عليها تسعة عشر" قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، وقيل تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة، وقيل تسعة عشر صفاً من صفوفهم، وقيل تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة، والأول أولى. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. قرأ الجمهور تسعة عشر بفتح الشين من عشر. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكانها. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: إن أول ما نزل من القرآن "يا أيها المدثر" فقال له يحيى بن أبي كثير: يقولون إن أول ما نزل "اقرأ باسم ربك الذي خلق" فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدثنك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعباً، فرجعت فقلت دثروني فدثروني، فنزلت " يا أيها المدثر * قم فأنذر " إلى قوله: "والرجز فاهجر"" وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت، والجمع ممكن. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس "يا أيها المدثر" فقال: دثر هذا الأمر، فقم به. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه "يا أيها المدثر" قال: النائم "وثيابك فطهر" قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل "والرجز فاهجر" قال: الأصنام "ولا تمنن تستكثر" قال: لا تعط تلتمس بها أفضل منها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضاً "وثيابك فطهر" قال: من الإثم. قال: وهي في كلام العرب نقي الثياب. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً "وثيابك فطهر" قال: من الغدر، لا تكن غداراً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: "وثيابك فطهر" قال: لا تلبسها على غدرة، ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عنه أيضاً "ولا تمنن تستكثر" قال: لا تعط الرجل عطاء رجال أن يعطيك أكثر منه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً "فإذا نقر في الناقور" قال: الصور "يوم عسير" قال: شديد. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً "ذرني ومن خلقت وحيداً" قال الوليد بن المغيرة. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلي، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت "ذرني ومن خلقت وحيداً". وأخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وكذا أخرجه ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وغير واحد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله: "وجعلت له مالاً ممدوداً" قال: غلة شهر بشهر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "وجعلت له مالاً ممدوداً" قال: ألف دينار. وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله: "سأرهقه صعوداً" قال: هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أبديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "عنيداً" قال: جحوداً. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً". قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج. قال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة انتهى، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "صعوداً" صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وأخرج ابن المنذر عنه قال: جبل في النار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "لا تبقي ولا تذر" قال: لا تبقي منهم شيئاً، وإذا بدلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً "لواحة للبشر" قال: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "لواحة" قال: محرقة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء: أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه ساعتئذ "عليها تسعة عشر".
لما نزل قوله سبحانه: "عليها تسعة عشر" قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشد، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يومالقيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر ونمضي ندخل الجنة فأنزل الله 31- "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة" يعني ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم. وقيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة، وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة" أي ضلالة "للذين" استقلوا عددهم ومحنة لهم، والمعنى: ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم. وقيل معنى إلا فتنة إلا عذاباً كما في قوله: "يوم هم على النار يفتنون" أي يعذبون، واللام في قوله: "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب" متعلق بجعلنا، والمراد بأهل الكتاب لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم "ويزداد الذين آمنوا إيماناً" وقيل المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وقيل أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة "ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون" مقررة لما تقدم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى نفي الارتياب عنهم في الدين، أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قبله شك "وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً" المراد بالذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض مجرد حصول الثلث والريب، وهو كائن في الكفار. قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن يمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية لخلاف، والمراد بقوله: "والكافرون" كفار العرب من أهل مكة وغيرهم، ومعنى "ماذا أراد الله بهذا مثلاً" أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل. قال الليث: المثل الحديث، ومنه قوله: "مثل الجنة التي وعد المتقون" أي حديثها الخبر عنها "كذلك يضل الله من يشاء" أي مثل ذلك الإضلال المتقدم ذكره، وه قوله: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا"" يضل الله من يشاء" من عباده، والكاف نعت مصدر محذوف "ويهدي من يشاء" من عباده والمعنى: مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقيل المعنى: كذلك يضل الله عن الجنة من يشاء ويهدي إليها من يشاء "وما يعلم جنود ربك إلا هو" أي يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد. وقال عطاء: يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله. والمعنى: أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال: "وما هي إلا ذكرى للبشر" أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم، وقيل: "وما هي" أي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر. وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد. وقيل ما هي أي عدة خزنة جهنم إلا تذكرة للبش ليعلموا كمال قدرة الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وقيل الضمير في "وما هي" يرجع إلى الجنود.
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال: 32- "كلا والقمر" قال الفراء: كلا صلة للقسم. التقدير: أي والقمر، وقيل المعنى: حقاً والقمر. قال ابن جرير: المعنى رد زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم: أي ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية.
33- "والليل إذ أدبر" أي ولى. قرأ الجمهور "إذا" بزيادة الألف، "دبر" بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع وحفص وحمزة "إذ" بدون ألف، "أدبر" بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان، ودب وأدبر لغتان، كما يقال أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال دبر الليل وأدبر: إذا تولى ذاهباً.
34- "والصبح إذا أسفر" أي أضاء وتبين.
35- "إنها لإحدى الكبر" هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر: أي إن سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى، وقال مقاتل: إن الكبر اسم من أسماء النار، وقيل إنها: أي تكذيبهم لمحمد لإحدى الكبر، وقيل إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر: يابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير قرأ الجمهور "لإحدى" بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن وابن كثير في رواية عنه " إنها لإحدى " بدون همزة. وقال الكلبي: أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها.
36- "نذيرا للبشر" انتصاب نذيراً على الحال من الضمير في إنها، قاله الزجاج. وروي عنه وعن الكسائي وأبي علي الفارسي أنه حال من قوله قم فأنذر أي قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر. وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدر. وقيل إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل أعظم الكبر إنذاراً، وقيل إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أول السورة، وقيل منصوب بإضمار أعني، وقيل منصوب بتقدير ادع، وقيل منصوب بتقدير ناد أو بلغ. وقيل إنه مفعول لأجله، والتقدير: وإنها لإحدى الكبر لأجل إنذار البشر. قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي نذير، أو هو نذير. وقد اختلف في النذير، فقال الحسن: هي النار، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو رزين: المعنى أنا نذير لكم منها، وقيل القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد.
37- "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" هو بدل من قول للبشر: أي نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد [حصل] لكل من آمن وكفر، وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه: أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر والأول أولى. وقال السدي: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل "عليها تسعة عشر". قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا" قال: قال أبو الأشد: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: و" حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خزان جهنم فقال: كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لهم مثل قوة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم". أخرج الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية "وما يعلم جنود ربك إلا هو"". وأخرج أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطت السماء وحق ما أن تئط. ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد". وأخرجه الترمذي وابن ماجه. قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إذ أدبر" قال: دبور ظلامه. وأخرج مسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهدقال: سألت ابن عباس عن قوله: " والليل إذ أدبر " فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها.
قوله: 38- "كل نفس بما كسبت رهينة" أي مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل رهين، لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة.
39- "إلا أصحاب اليمين" فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم. واختلف في تعيينهم، فقيل هم الملائكة، وقيل المؤمنون، وقيل أولاد المسلمين، وقيل الذين كانوا عن يمين آدم، وقيل أصحاب الحق، وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته.
40- "في جنات" هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جواباً على سؤال نشأ مما قبله، ويجوز أن يكون في جنات حالاً من أصحاب اليمين، وأن يكون حالاً من فاعل يتساءلون، وأن يكون ظرفاً ليتساءلون، وقوله: "يتساءلون" يجوز أن يكون على بابه: أي يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون: أي يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأول يكون.
41- "عن المجرمين" متعلقاً بيتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة: أي يسألون المجرمين.
وقوله: 42- "ما سلككم في سقر" هو على تقدير القول: أي يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين لهم: ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أدخلكم في سقر، تقول سلكت الخيط في كذا: إذا دخلته فيه. قال الكلبي: يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان ما سلكك في النار. وقيل إن الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم: ما سلككم في سقر. قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان، لأنهم لا يعرفون الذنوب.
43- "قالوا لم نك من المصلين" أي من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا.
44- "ولم نك نطعم المسكين" أي لم نتصدق على المساكين، قيل وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة، لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.
45- "وكنا نخوض مع الخائضين" أي نخالط أهل الباطل في باطلهم. قال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقال السدي: كنا نكذب مع المكذبين. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم كاذب مجنون ساحر شاعر.
46- "وكنا نكذب بيوم الدين" أي بيوم الجزاء والحساب.
47- "حتى أتانا اليقين" وهو الموت، كما في قوله: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".