تفسير الطبري تفسير الصفحة 60 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 60
061
059
 الآية : 78
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب, وهم الـيهود الذين كانوا حوالـي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم, علـى عهده من بنـي إسرائيـل. والهاء والـميـم فـي قوله: {مِنْهُمْ} عائدة علـى أهل الكتاب الذين ذكرهم فـي قوله: {وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَـيْكَ}. وقوله: {لَفَرِيق} يعنـي: جماعة {يَـلْوُونَ} يعنـي: يحرّفون, {ألْسِنَتَهُمْ بـالْكِتابِ لِتَـحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ} يعنـي: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيـله, يقول الله عزّ وجلّ: {وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم, فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله, ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التـحريف والكذب والبـاطل فألـحقوه فـي كتاب الله من عند الله}, يقول: {مـما أنزله الله علـى أنبـيائه, وما هو من عند الله}, يقول: {وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم, فأحدثوه مـما أنزله الله إلـى أحد من أنبـيائه, ولكنه مـما أحدثوه من قِبَل أنفسهم, افتراء علـى الله}. يقول عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ علـى الله الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} يعنـي بذلك: أنهم يتعمدون قـيـل الكذب علـى الله, والشهادة علـيه بـالبـاطل, والإلـحاق بكتاب الله ما لـيس منه طلبـا للرياسة والـخسيس من حطام الدنـيا.
الآية : 79
وبنـحو ما قلنا فـي معنى: {يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ} قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5890ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ} قال: يحرّفونه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5891ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالْكِتَابِ} حتـى بلغ: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} هم أعداء الله الـيهود حرّفوا كتاب الله وابتدعوا فـيه, وزعموا أنه من عند الله.
5892ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5893ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ لَتَـحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ} وهم الـيهود كانوا يزيدون فـي كتاب الله ما لـم ينزل الله.
5894ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بـالكِتَابِ} قال: فريق من أهل الكتاب يـلوون ألسنتهم, وذلك تـحريفهم إياه عن موضعه.
وأصل اللـيّ: الفتل والقلب, من قول القائل: لوى فلان يد فلان: إذا فتلها وقلبها, ومنه قول الشاعر:
لَـوَى يَـدَهُ الله الـذِي هُـوَ غَـالِـبُـهْ
يقال منه: لوى يده ولسانه يـلوي لـيا, وما لوى ظهر فلان أحد: إذا لـم يصرعه أحد, ولـم يفتل ظهره إنسان, وإنه لألوى بعيد الـمستـمر: إذا كان شديد الـخصومة صابرا علـيها لا يغلب فـيها, قال الشاعر:
فَلَوْ كَانَ فِـي لَـيـلَـى شَدا مِنْ خُصُومَةٍلَلَوّيْتُ أعْنَاقَ الـخُصُومِ الـمَلاوِيَا.
القول في تأويله تعالى:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر, والبشر: جمع بنـي آدم, لا واحد له من لفظه, مثل القوم والـخـلق, وقد يكون اسما لواحد. {أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّهُ الكِتابَ} يقول: أن ينزل الله علـيه كتابه, {والـحُكْمَ} يعنـي: ويعلـمه فصل الـحكمة, {وَالنُبُوّةَ} يقول: ويعطيه النبوّة, {ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّهِ} يعنـي: ثم يدعو الناس إلـى عبـادة نفسه دون الله, وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والـحكم والنبوّة, ولكن إذا آتاه الله ذلك فإنـما يدعوهم إلـى العلـم بـالله, ويحدوهم علـى معرفة شرائع دينه, وأن يكونوا رؤساء فـي الـمعرفة بأمر الله ونهيه, وأئمة فـي طاعته وعبـادته بكونهم معلـمي الناس الكتاب, وبكونهم دارسيه.
وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أهل الكتاب قالوا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلـى عبـادتك؟ كما:
5895ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتـمعت الأحبـار من الـيهود والنصارى من أهل نـجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلـى الإسلام: أتريد يا مـحمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريـم؟ فقال رجل من أهل نـجران نصرانـي, يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا مـحمد وإلـيه تدعونا؟ أو كما قال, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَعَاذَ اللّهُ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللّهِ, أوْ نَأْمُرَ بِعِبـادَةِ غَيْرِهِ, مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِـي, وَلا بِذَلِكَ أمَرَنِـي». أو كما قال¹ فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيهُ اللّهُ الكِتابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ}... الاَية, إلـى قوله بعد: {إذْ أَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ}.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قال أبو رافع القرظي, فذكر نـحوه.
5896ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّهِ} يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتـيه الله الكتاب والـحكم والنبوّة يأمر عبـاده أن يتـخذوه ربـا من دون الله.
5897ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5898ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم, بتـحريفهم كتاب الله عن موضعه, فقال الله عزّ وجلّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّهُ الكِتابَ وَالـحُكْمَ والنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لِـي مِنْ دُونِ اللّهِ} ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله فـي كتابه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: ولكن يقول لهم: كونوا ربـانـيـين, فترك القول استغناء بدلالة الكلام علـيه.
وأما قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علـماء. ذكر من قال ذلك:
5899ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: حكماء علـماء.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: حكماء علـماء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن أبـي رزين, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبـي رزين: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}: حكماء علـماء.
5900ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن عوف, عن الـحسن فـي قوله: {كُونُوا رَبـانِـيّـينَ} قال: كونوا فقهاء علـماء.
5901ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيـينَ} قال: فقهاء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي القاسم, عن مـجاهد, قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: فقهاء.
5902ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: كونوا فقهاء علـماء.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن منصور بن الـمعتـمر, عن أبـي رزين فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: علـماء حكماء. قال معمر: قال قتادة.
5903ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} أما الربـانـيون: فـالـحكماء الفقهاء.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال الربـانـيون: الفقهاء العلـماء, وهم فوق الأحبـار.
5904ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} يقول: كونوا حكماء فقهاء.
5905ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي حمزة الثمالـي, عن يحيـى بن عقـيـل فـي قوله الربـانـيون والأحبـار, قال: الفقهاء العلـماء.
حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنـي ابن سنان القزاز, قال: حدثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: كونوا حكماء فقهاء.
5906ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} يقول: كونوا فقهاء علـماء.
وقال آخرون: بل هم الـحكماء الأتقـياء. ذكر من قال ذلك:
5907ـ حدثنـي يحيـى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيـينَ} قال: حكماء أتقـياء.
وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم. ذكر من قال ذلك:
5908ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: الربـانـيون: الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر, يربونهم: يـلونهم. وقرأ: {لولا يَنْهَاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحْبـارُ} قال: الربـانـيون: الولاة, والأحبـار: العلـماء.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي الربـانـيـين أنهم جمع ربـانـيّ, وأن الربـانـيّ الـمنسوب إلـى الرّبّـان: الذي يربّ الناس, وهو الذي يصلـح أمورهم ويربها, ويقوم بها, ومنه قول علقمة بن عبدة:
وكنتَ امْرأً أفْضَتْ إِلَـيْكَ رِبَـابَتِـيوَقَبْلَكَ رَبّتْنِـي فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعنـي بقوله: «ربّتنـي»: ولـي أمري والقـيام به قبلك من يربه ويصلـحه, فلـم يصلـحوه, ولكنهم أضاعونـي فضعت, يقال منه: ربّ أمري فلان فهو بربّه رَبّـا وهو رابّه, فإذا أريد به الـمبـالغة فـي مدحه قـيـل: هو رَبّـان, كما يقال: هو نعسان, من قولهم: نَعَس ينعُس, وأكثر ما يجيء من الأسماء علـى فعلان ما كان من الأفعال الـماضية علـى فَعِل مثل قولهم: هو سكران وعطشان وريان, من سَكِرَ يَسْكَر, وعَطِش يَعطش, ورَوِي يَرْوَى, وقد يجيء مـما كان ماضيه علـى فَعَل يَفْعُل, نـحو ما قلنا من نَعَسَ يَنْعُس, ورَبّ يَرُبّ.
فإذا كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا, وكان الربـان ما ذكرنا, والربـانـي: هو الـمنسوب إلـى من كان بـالصفة التـي وصفت, وكان العالـم بـالفقه والـحكمة من الـمصلـحين, يربّ أمور الناس بتعلـيـمه إياهم الـخير, ودعائهم إلـى ما فـيه مصلـحتهم, وكان كذلك الـحكيـم التقـيّ لله, والولـي الذي يـلـي أمور الناس علـى الـمنهاج الذي ولـيه الـمقسطون من الـمصلـحين أمور الـخـلق بـالقـيام فـيهم, بـما فـيه صلاح عاجلهم وآجلهم, وعائدة النفع علـيهم فـي دينهم ودنـياهم¹ كانوا جميعا مستـحقـين أنهم مـمن دخـل فـي قوله عزّ وجلّ {وَلَكِنْ كُونُوا رَبـانِـيّـينَ}. فـالربـانـيون إذا, هم عماد الناس فـي الفقه والعلـم وأمور الدين والدنـيا, ولذلك قال مـجاهد: «وهم فوق الأحبـار», لأن الأحبـار هم العلـماء. والربـانـي: الـجامع إلـى العلـم والفقه, البصرَ بـالسياسة والتدبـير, والقـيام بأمور الرعية, وما يصلـحهم فـي دنـياهم ودينهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بِـمَا كُنْتُـمْ تعَلّـمُونَ الكِتابَ, وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ}.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه عامة قراء أهل الـحجاز وبعض البصريـين: «بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ» بفتـح التاء وتـخفـيف اللام, يعنـي: بعلـمكم الكتاب, ودراستكم إياه وقراءتكم. واعتلّوا لاختـيارهم قراءة ذلك كذلك, بأن الصواب لو كان التشديد فـي اللام وضمّ التاء, لكان الصواب فـي «تدرسون» بضم التاء وتشديد الراء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: {بِـمَا كُنْتُـمْ تُعَلّـمُونَ الكِتابَ} بضم التاء من تعلّـمون وتشديد اللام, بـمعنى: بتعلـيـمكم الناس الكتاب, ودراستكم إياه. واعتلّوا لاختـيارهم ذلك بأن من وصفهم بـالتعلـيـم فقد وصفهم بـالعلـم, إذ لا يعلّـمون إلا بعد علـمهم بـما يعلـمون.
قالوا: ولا موصوف بأنه يعلـم, إلا وهو موصوف بأنه عالـم. قالوا: فأما الـموصوف بأنه عالـم, فغير موصوف بأنه معلـم غيره. قالوا: فأولـى القراءتـين بـالصواب, أبلغهما فـي مدح القوم, وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلّـمون الناس الكتاب. كما:
5909ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يحيـى بن آدم, عن ابن عيـينة, عن حميد الأعرج, عن مـجاهد أنه قرأ: «بِـمَا كُنْتُ تَعْلَـمُونَ الكِتابَ وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ» مخففة بنصب التاء. وقال ابن عيـينة: ما عَلّـموه حتـى عَلِـموه.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه بضم التاء وتشديد اللام, لأن الله عزّ وجلّ وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس فـي دينهم ودنـياهم, وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربـية, يقول جلّ ثناؤه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} علـى ما بـينا قبل من معنى الربـانـي. ثم أخبر تعالـى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس, وتربـية لهم بتعلـيـمهم إياهم كتاب ربهم. ودراستهم إياه: تلاوته, وقد قـيـل: دراستهم الفقه.
وأشبه التأويـلـين بـالدراسة ما قلنا من تلاوة الكتاب, لأنه عطف علـى قوله: {تُعَلّـمُونَ الكِتابَ}, والكتاب: هو القرآن, فلأن تكون الدراسة معنـيا بها دراسة القرآن أولـى من أن تكون معنـيا بها دراسة الفقه الذي لـم يجر له ذكر. ذكر من قال ذلك:
5910ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال يحيـى بن آدم: قال أبو زكريا: كان عاصم يقرؤها: {بِـمَا كُنْتُـمْ تُعَلّـمُونَ الكِتابَ} قال: القرآن, {وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ} قال: الفقه.
فمعنى الاَية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم فـي أمر دينهم ودنـياهم, ربـانـيـين بتعلـيـمكم إياهم كتاب الله, وما فـيه من حلال وحرام, وفرض وندب, وسائر ما حواه من معانـي أمور دينهم, وبتلاوتكم إياه ودراستكمونه.
الآية : 80
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }
اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ}, فقرأته عامة قراء الـحجاز والـمدينة: «وَلاَ يَأْمُرُكُمْ» علـى وجه الابتداء من الله بـالـخبر عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ لاَ يَأْمُرُكُمْ أيّها النّاسُ أنْ تَتّـخِذُوا الـمَلائِكَةَ وَالنّبِـيّـينَ أرْبـابـا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها وهي: «ولن يأمركم» فـاستدلوا بدخول لن علـى انقطاع الكلام عما قبله, وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلـما صير مكان «لن» فـي قراءتنا «لا» وجبت قراءته بـالرفع. وقرأه بعض الكوفـيـين والبصريـين: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بنصب الراء عطفـا علـى قوله: {ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ}. وكان تأويـله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتـيه الله الكتاب, ثم يقول للناس ولا أن يأمركم, بـمعنى: ولا كان له أن يأمركم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بـالنصب علـى الاتصال بـالذي قبله, بتأوّل: {ما كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّهُ الكِتابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّهِ} ولا أن يأمركم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا. لأن الاَية نزلت فـي سبب القوم الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك؟ فأخبرهم الله جلّ ثناؤه أنه لـيس لنبـيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلـى عبـادة نفسه, ولا إلـى اتـخاذ الـملائكة والنبـيـين أربـابـا, ولكن الذي له أن يدعوهم إلـى أن يكونوا ربـانـيـين. فأما الذي ادّعى من قرأ ذلك رفعا أنه فـي قراءة عبد الله: «ولن يأمركم» استشهادا لصحة قراءته بـالرفع, فذلك خبر غير صحيح سنده, وإنـما هو خبر رواه حجاج عن هارون لا يجوز أن ذلك فـي قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرا صحيحا سنده, لـم يكن فـيه لـمـحتـجّ حجة, لأن ما كان علـى صحته من القراءة من الكتاب الذي جاء به الـمسلـمون وراثة عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم لا يجوز تركه لتأويـل علـى قراءة أضيفت إلـى بعض الصحابة بنقل من يجوز فـي نقله الـخطأ والسهو.
فتأويـل الاَية إذا: وما كان للنبـيّ أن يأمر الناس أن يتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا, يعنـي بذلك آلهة يعبدون من دون الله, كما لـيس له أن يقول لهم كونوا عبـادا لـي من دون الله. ثم قال جلّ ثناؤه نافـيا عن نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عبـاده بذلك: أيأمركم بـالكفر أيها الناس نبـيكم بجحود وحدانـية الله بعد إذ أنتـم مسلـمون, يعنـي بعد إذ أنتـم له منقادون بـالطاعة متذللون له بـالعبودية, أي إن ذلك غير كائن منه أبدا. وقد:
5911ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: ولا يأمركم النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا.
الآية : 81
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين, يعنـي حين أخذ الله ميثاق النبـيـين, وميثاقهم: ما وثقوا به علـى أنفسهم طاعة الله فـيـما أمرهم ونهاهم. وقد بـينا أصل الـميثاق بـاختلاف أهل التأويـل فـيه بـما فـيه الكفـاية. {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكَمَةٍ} اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الـحجاز والعراق¹ {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} بفتـح اللام من «لـما», إلا أنهم اختلفوا فـي قراءة آتـيتكم, فقرأه بعضهم {آتَـيْتُكُمْ} علـى التوحيد, وقرأه آخرون: «آتـيناكم», علـى الـجمع.
ثم اختلف أهل العربـية إذا قرىء ذلك كذلك, فقال بعض نـحويـي البصرة: اللام التـي مع «ما» فـي أوّل الكلام لام الابتداء, نـحو قول القائل: لزيد أفضل منك, لأن «ما» اسم, والذي بعدها صلة لها, واللام التـي فـي: {لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} لام القسم, كأنه قال: والله لتؤمننّ به, يؤكد فـي أول الكلام وفـي آخره, كما يقال: أما والله أن لو جئتنـي لكان كذا وكذا, وقد يستغنى عنها فـيؤكد فـي لتؤمننّ به بـاللام فـي آخر الكلام, وقد يستغنى عنها, ويجعل خبر «ما آتـيتكم من كتاب وحكمة», «لتؤمننّ به», مثل: «لعبدالله والله لا آتـينه», قال: وإن شئت جعلت خبر «ما» «من كتاب» يريد: لـما آتـيتكم كتابٌ وحكمة, وتكون «من» زائدة. وخطّأ بعض نـحويـي الكوفـيـين ذلك كله, وقال: اللام التـي تدخـل فـي أوائل الـجزاء لا تـجاب بـما ولا «لا» فلا يقال لـمن قام: لا تتبعه, ولا لـمن قام: ما أحسن, فإذا وقع فـي جوابها «ما» و«لا» علـم أن اللام لـيست بتوكيد للأولـى, لأنه يوضع موضعها «ما» و«لا», فتكون كالأولـى, وهي جواب للأولـى. قال: وأما قوله: {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} بـمعنى إسقاط «من» غلط, لأن «من» التـي تدخـل وتـخرج لا تقع مواقع الأسماء, قال: ولا تقع فـي الـخبر أيضا, إنـما تقع فـي الـجحد والاستفهام والـجزاء.
وأولـى الأقوال فـي تأويـل هذه الاَية علـى قراءة من قرأ ذلك بفتـح اللام بـالصواب أن يكون قوله: {لَـمَ} بـمعنى: لـمهما, وأن تكون «ما» حرف جزاء أدخـلت علـيها اللام, وصير الفعل معها علـى فَعَل, ثم أجيبت بـما تـجاب به الأيـمان, فصارت اللام الأولـى يـمينا إذ تلقـيت بجواب الـيـمين.
وقرأ ذلك آخرون: «لِـما آتَـيْتُكُمْ» بكسر اللام من «لـما», وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه إذا قرىء كذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين للذي آتـيتكم, فما علـى هذه القراءة بـمعنى: الذي عندهم. وكان تأويـل الكلام: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة, ثم جاءكم رسول: يعنـي: ثم إن جاءكم رسول, يعنـي ذكر مـحمد فـي التوراة, لتؤمنن به, أي لـيكونن إيـمانكم به للذي عندكم فـي التوراة من ذكره.
وقال آخرون منهم: تأويـل ذلك إذا قرىء بكسر اللام من «لِـما». وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين للذي آتاهم من الـحكمة, ثم جعل قوله: لتؤمنن به من الأخذ, أخذ الـميثاق, كما يقال فـي الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الـميثاق بـمنزلة الاستـحلاف. فكان تأويـل الكلام عند قائل هذا القول: وإذا استـحلف الله النبـيـين للذي آتاهم من كتاب وحكمة, متـى جاءهم رسول مصدق لـما معهم لـيؤمننّ به ولـينصرنه.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} بفتـح اللام, لأن الله عز وجلّ أخذ ميثاق جميع الأنبـياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلـى خـلقه فـيـما ابتعثه به إلـيهم, كان مـمن آتاه كتابـا, أو من لـم يؤته كتابـا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبـياء الله عزّ وجلّ ورسله, بأنه كان مـمن أبـيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذا كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن منهم من أنزل علـيه الكتاب, وأن منهم من لـم ينزل علـيه الكتاب, كان بـيّنا أن قراءة من قرأ ذلك: «لِـمَا آتَـيْتُكُمْ» بكسر اللام, بـمعنى: من أجل الذي آتـيتكم من كتاب, لا وجه له مفهوم إلا علـى تأويـل بعيد, وانتزاع عميق.)
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن أخذ ميثاقه بـالإيـمان بـمن جاءه من رسل الله مصدّقا لـما معه, فقال بعضهم: إنـما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب, دون أنبـيائهم, واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله: {لَتوءْمِنَنّ بِه وَلتَنْصُرَنّهُ} قالوا: فإنـما أمر الذين أرسلت إلـيهم الرسل من الأمـم بـالإيـمان برسل الله, ونصرتها علـى من خالفها. وأما الرسل فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد, لأنها الـمـحتاجة إلـى الـمعونة علـى من خالفها من كفرة بنـي آدم, فأما هي فإنها لا تعين الكفرة علـى كفرها ولا تنصرها.) قالوا: وإذا لـم يكن غيرها وغير الأمـم الكافرة, فمن الذي ينصر النبـيّ, فـيؤخذ ميثاقه بنصرته؟ ذكر من قال ذلك:
5912ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} قال: هي خطأ من الكاتب, وهي فـي قراءة ابن مسعود: «وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ».
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5913ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ} يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب, وكذلك كان يقرؤها الربـيع: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب», إنـما هي أهل الكتاب, قال: وكذلك كان يقرؤها أبـيّ بن كعب, قال الربـيع: ألا ترى أنه يقول: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّق لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنَنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} يقول: لتؤمننّ بـمـحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه, قال: هم أهل الكتاب.
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الأنبـياء دون أمـمها. ذكر من قال ذلك:
5914ـ حدثنـي الـمثنى وأحمد بن حازم قالا: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: إنـما أخذ الله ميثاق النبـيـين علـى قومهم.
5915ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ} أن يصدّق بعضهم بعضا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ}... الاَية, قال: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبـياء لـيصدقنّ ولـيؤمننّ بـما جاء به الاَخِر منهم.
5916ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ بن أبـي طالب, قال: لـم يبعث الله عزّ وجلّ نبـيا, آدم فمن بعده, إلا أخذ علـيه العهد فـي مـحمد: لئن بعث وهو حيّ لـيؤمننّ به ولـينصرنه, ويأمره فـيأخذ العهد علـى قومه, فقال: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}... الاَية.
5917ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ}... الاَية, هذا ميثاق أخذه الله علـى النبـين أن يصدّق بعضهم بعضا, وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته. فبلغت الأنبـياء كتاب الله ورسالاته إلـى قومهم, وأخذ علـيهم فـيـما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, ويصدّقوه وينصروه.
5918ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}... الاَية. قال: لـم يبعث الله عزّ وجلّ نبـيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه: لـيؤمننّ بـمـحمد, ولـينصرنه إن خرج وهو حيّ, وإلا أخذ علـى قومه أن يؤمنوا به, ولـينصرنه إن خرج وهم أحياء.
5919ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا عبد الكبـير بن عبد الـمـجيد أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد بن منصور قال: سألت الـحسن, عن قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}... الاَية كلها, قال: أخذ الله ميثاق النبـيـين: لـيبلغنّ آخركم أولكم ولا تـختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه ميثاق النبـيـين وأمـمهم, فـاجتزأ بذكر الأنبـياء عن ذكر أمـمها, لأن فـي ذكر أخذ الـميثاق علـى الـمتبوع دلالة علـى أخذه علـى التبـاع, لأن الأمـم هم تبّـاع الأنبـياء. ذكر من قال ذلك:
5920ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: ثم ذكر ما أخذ علـيهم, يعنـي علـى أهل الكتاب, وعلـى أنبـيائهم من الـميثاق بتصديقه, يعنـي بتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم, وإقرارهم به علـى أنفسهم, فقال: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}... إلـى آخر الاَية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: الـخبر عن أخذ الله الـميثاق من أنبـيائه بتصديق بعضهم بعضا, وأخذ الأنبـياء علـى أمـمها, وتبـاعها الـميثاق بنـحو الذي أخذ علـيها ربها, من تصديق أنبـياء الله ورسله بـما جاءتها به, لأن الأنبـياء علـيهم السلام بذلك أرسلت إلـى أمـمها, ولـم يدّع أحد مـمن صدق الـمرسلـين أن نبـيا أرسل إلـى أمة بتكذيب أحد من أنبـياء الله عزّ وجلّ, وحججه فـي عبـاده, بل كلها, وإن كذّب بعض الأمـم بعض أنبـياء الله بجحودها نبوّته, مقرّ بأن من ثبتت صحة نبوّته, فعلـيها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقرّ به جميعهم. ولا معنى لقول من زعم أن الـميثاق إنـما أخذ علـى الأمـم دون الأنبـياء, لأن الله عزّ وجلّ, قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبـيـين, فسواء قال قائل: لـم يأخذ ذلك منها ربها, أو قال: لـم يأمرها ببلاغ ما أرسلت, وقد نصّ الله عزّ وجلّ أنه أمرها بتبلـيغه, لأنهما جميعا خبران من الله عنها, أحدهما أنه أخذ منها, والاَخر منهما أنه أمرها, فإن جاز الشكّ فـي أحدهما جاز فـي الاَخر. وأما ما استشهد به الربـيع بن أنس علـى أن الـمعنـيّ بذلك أهل الكتاب من قوله: {لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرنّهُ} فإن ذلك غير شاهد علـى صحة ما قال, لأن الأنبـياء قد أمر بعضها بتصديق بعض, وتصديق بعضها بعضا, نصرة من بعضها بعضا.
ثم اختلفوا فـي الذين عنوا بقوله: {ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك هم الأنبـياء, أخذت مواثـيقهم أن يصدّق بعضهم بعضا, وأن ينصروه, وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله.
وقال آخرون: هم أهل الكتاب أمروا بتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته, وأخذ ميثاقهم فـي كتبهم بذلك, وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله.
وقال آخرون مـمن قال الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم فـي هذه الاَية هم الأنبـياء, قوله: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ} معنـيّ به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
5921ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر. قال: أخبرنا ابن طاوس, عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِـيّـينَ لِـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} قال: أخذ الله ميثاق النبـيـين: أن يصدّق بعضهم بعضا, ثم قال: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} قال: فهذه الاَية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بـمـحمد ويصدّقوه.
5922ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: ثنـي ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: قال قتادة: أخذ الله علـى النبـيـين ميثاقهم أن يصدّق بعضهم بعضا, وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلـى عبـاده, فبلّغت الأنبـياء كتاب الله ورسالاته إلـى قومهم, وأخذوا مواثـيق أهل الكتاب فـي كتابهم, فـيـما بلغتهم رسلهم, أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, ويصدّقوه وينصروه.
وأولـى الأقوال بـالصواب عندنا فـي تأويـل هذه الاَية: أن جميع ذلك خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم به, وألزمهم دعاء أمـمهم إلـيه والإقرار به, لأن ابتداء الاَية خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم, ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم, فقال: هو كذا وهو كذا.
وإنـما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثـيق أنبـيائه من ذلك, قد أخذت الأنبـياء مواثـيق أمـمها به, لأنها أرسلت لتدعو عبـاد الله إلـى الدينونة, بـما أمرت بـالدينونة به فـي أنفسها من تصديق رسل الله علـى ما قدمنا البـيان قبل. فتأويـل الاَية: واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين لـمهما آتـيتكم أيها النبـيون من كتاب وحكمة, ثم جاءكم رسول من عندي مصدّق لـما معكم لتؤمننّ به, يقول: لتصدقنه ولتنصرنه. وقد قال السديّ فـي ذلك بـما:
5923ـ حدثنا به مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قوله: {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} يقول للـيهود: أخذت ميثاق النبـيـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وهو الذي ذكر فـي الكتاب عندكم.
فتأويـل ذلك علـى قول السديّ الذي ذكرناه: واذكروا يا معشر أهل الكتاب, إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم أيها الـيهود من كتاب وحكمة. وهذا الذي قاله السديّ كان تأويلاً لا وجه غيره لو كان التنزيـل «بـما آتـيتكم», ولكن التنزيـل بـاللام لـما آتـيتكم, وغير جائز فـي لغة أحد من العرب أن يقال: أخذ الله ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم, بـمعنى: بـما آتـيتكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أأقْرَرْتُـمْ وأخَذْتُـمْ علـى ذَلِكُمْ إِصْرِي؟ قَالُوا أقْرَرْن}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين بـما ذكر, فقال لهم تعالـى ذكره: أأقررتـم بـالـميثاق الذي واثقتـمونـي علـيه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي, مصدّق لـما معكم, لتؤمننّ به ولتنصرنه, {وأخَذْتُـمْ علـى ذَلِكُمْ إِصْرِي} يقول: وأخذتـم علـى ما واثقتـمونـي علـيه من الإيـمان بـالرسل التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من عندي, والقـيام بنصرتهم إصري, يعنـي عهدي ووصيتـي, وقبلتـم فـي ذلك منـي ورضيتـموه. والأخذ: هو القبول فـي هذا الـموضع, والرضا من قولهم: أخذ الوالـي علـيه البـيعة, بـمعنى: بـايعه, وقبل ولايته, ورضي بها. وقد بـينا معنى الإصر بـاختلاف الـمختلفـين فـيه, والصحيح من القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وحذفت الفـاء من قوله: {قَالَ أأقْرَرْتُـمْ} لأنه ابتداء كلام علـى نـحو ما قد بـينا فـي نظائره فـيـما مضى. وأما قوله: {قَالُوا أقْرَرْن} فإنه يعنـي به: قال النبـيـيون الذين أخذ الله ميثاقهم بـما ذكر فـي هذه الاَية: أقررنا بـما ألزمتنا من الإيـمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقـين لـما معنا من كتبك وبنصرتهم.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَـاشْهَدُوا وأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه, قال الله: فـاشهدوا أيها النبـيـيون بـما أخذت به ميثاقكم من الإيـمان بتصديق رسلـي التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والـحكمة, ونصرتهم علـى أنفسكم, وعلـى أتبـاعكم من الأمـم إذ أنتـم أخذتـم ميثاقهم علـى ذلك, وأنا معكم من الشاهدين علـيكم وعلـيهم بذلك. كما:
5924ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ بن أبـي طالب فـي قوله: {قَالَ فَـاشْهَدُو} يقول: فـاشهدوا علـى أمـمكم بذلك, {وأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} علـيكم وعلـيهم.
الآية : 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَمَنْ تَوَلّىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: فمن أعرض عن الإيـمان برسلـي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبـيائي من الكتب والـحكمة, وعن نصرتهم, فأدبر ولـم يؤمن بذلك, ولـم ينصر, ونكث عهده وميثاقه بعد ذلك, يعنـي بعد العهد والـميثاق الذي أخذه الله علـيه, فأولئك هم الفـاسقون: يعنـي بذلك أن الـمتولـين عن الإيـمان بـالرسل الذين وصف أمرهم ونصرتهم بعد العهد والـميثاق اللذين أخذا علـيهم بذلك, هم الفـاسقون, يعنـي بذلك: الـخارجون من دين الله, وطاعة ربهم. كما:
5925ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ بن أبـي طالب: فمن تولـى عنك يا مـحمد بعد هذا العهد من جميع الأمـم, فأولئك هم الفـاسقون, هم العاصون فـي الكفر.
5926ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه ـ قال أبو جعفر: يعنـي الرازي ـ: {فَمَنْ تَوَلّـى بَعْدَ ذَلِكَ} يقول: بعد العهد والـميثاق الذي أخذ علـيهم, فأولئك هم الفـاسقون.
5927ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وهاتان الاَيتان وإن كان مخرج الـخبر فـيهما من الله عزّ وجلّ بـما أخبر أنه شهد, وأخذ به ميثاق من أخذ ميثاقه به عن أنبـيائه ورسله, فإنه مقصود به إخبـار من كان حوالـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل أيام حياته صلى الله عليه وسلم, عما لله علـيهم من العهد فـي الإيـمان بنبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم, ومعنـيّ تذكيرهم ما كان الله آخذا علـى آبـائهم وأسلافهم من الـمواثـيق والعهود, وما كانت أنبـياء الله عرفتهم وتقدمت إلـيهم فـي تصديقه واتبـاعه ونصرته علـى من خالفه, وكذبه, وتعريفهم ما فـي كتب الله التـي أنزلها إلـى أنبـيائه التـي ابتعثهم إلـيهم من صفته وعلامته.
الآية : 83
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
اختلف القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الحجاز من مكة والمدينة وقراء الكوفة: «أفغير دين الله تبغون», «وإليه ترجعون», على وجه الخطاب. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز: {أَفَغَيْرِ دِينِ اللّهِ يَبْغُون... وَإِلَـيْهِ يُرْجَعُونَ} بـالـياء كلتـيهما علـى وجه الـخبر عن الغائب. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: {أَفَغَيْر دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ} علـى وجه الـخبر عن الغائب, «وإلـيه تُرجعون» بـالتاء, علـى وجه الـمخاطبة.
وأولـى ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: «أفَعَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ» علـى وجه الـخطاب «وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ» بـالتاء, لأن الاَية التـي قبلها خطاب لهم, فإتبـاع الـخطاب نظيره أولـى من صرف الكلام إلـى غير نظيره, وإن كان الوجه الاَخر جائزا لـما قد ذكرنا فـيـما مضى قبل من أن الـحكاية يخرج الكلام معها أحيانا علـى الـخطاب كله, وأحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب, وأحيانا بعضه علـى الـخطاب, وبعضه علـى الغيبة, فقوله: «تَبْغُونَ... وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ» فـي هذه الاَية من ذلك.
وتأويـل الكلام: يا معشر أهل الكتاب: «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ» يقول: أفغير طاعة الله تلتـمسون وتريدون {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يقول: وله خشع من فـي السموات والأرض, فخضع له بـالعبودية, وأقرّ له بإفراد الربوبـية, وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية {طَوْعا وكَرْه} يقول: أسلـم لله طائعا, من كان إسلامه منهم له طائعا, وذلك كالـملائكة والأنبـياء والـمرسلـين, فإنهم أسلـموا لله طائعين, وكرها من كان منهم كارها.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى إسلام الكاره الإسلام, وصفته, فقال بعضهم: إسلامه: إقراره بأن الله خالقه وربه, وإن أشرك معه فـي العبـادة غيره. ذكر من قال ذلك:
5928ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ} قال: هو كقوله: {وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَـيَقُولُنّ اللّهُ}.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, مثله.
5929ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: كل آدميّ قد أقرّ علـى نفسه بأن الله ربـي وأنا عبده, فمن أشرك فـي عبـادته فهذا الذي أسلـم كرها, ومن أخـلص له العبودية فهو الذي أسلـم طوعا.
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الـميثاق, فأقرّ به. ذكر من قال ذلك:
5930ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن الأعمش, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْه} قال: حين أخذ الـميثاق.
وقال آخرون: عنى بإسلام الكاره منهم: سجود ظله. ذكر من قال ذلك:
5931ـ حدثنا سوَار بن عبد الله, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن لـيث, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْه} قال: الطائع: الـمؤمن, وكرها: ظل الكافر.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {طَوْعا وكَرْه} قال: سجود الـمؤمن طائعا, وسجود الكافر وهو كاره.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {كَرْه} قال: سجود الـمؤمن طائعا, وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
5932ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قال: سجود وجهه وظله طائعا.
وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه فـي مشيئة الله واستقادته لأمره, وإن أنكر ألوهته بلسانه. ذكر من قال ذلك:
5933ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيـل, عن جابر, عن عامر: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال: استقاد كلهم له.
وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلـم من الناس كرها حذر السيف علـى نفسه. ذكر من قال ذلك:
5934ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْه}... الاَية كلها, فقال: أكره أقوام علـى الإسلام, وجاء أقوام طائعين.
5935ـ حدثنـي الـحسن بن قزعة البـاهلـي, قال: حدثنا روح بن عطاء, عن مطر الورّاق فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: الـملائكة طوعا, والأنصار طوعا, وبنو سلـيـم وعبد القـيس طوعا, والناس كلهم كرها.
وقال آخرون: معنى ذلك أن أهل الإيـمان أسلـموا طوعا, وأن الكافر أسلـم فـي حال الـمعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها. ذكر من قال ذلك:
5936ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ»... الاَية, فأما الـمؤمن فأسلـم طائعا, فنفعه ذلك, وقبل منه¹ وأما الكافر فأسلـم كارها, حين لا ينفعه ذلك, ولا يقبل منه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْه} قال: أما الـمؤمن فأسلـم طائعا, وأما الكافر فأسلـم حين رأى بأس الله {فَلَـمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيـمَانُهُمْ لـمّا رَأَوْا بَـأْسَنَ}.
وقال آخرون: معنى ذلك: فـي عبـادة الـخـلق لله عزّ وجل. ذكر من قال ذلك:
5937ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وَكَرْها» قال: عبـادتهم لـي أجمعين طوعا وكرها, وهو قوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْه}.
وأما قوله: «وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ» فإنه يعنـي: وإلـيه يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من الـيهود والنصارى! وسائر الناس. «ترجعون» يقول: إلـيه تصيرون بعد مـماتكم, فمـجازيكم بأعمالكم, الـمـحسن منكم بإحسانه, والـمسيء بإساءته. وهذا من الله عزّ وجلّ تـحذير خـلقه أن يرجع إلـيه أحد منهم, فـيصير إلـيه بعد وفـاته علـى غير ملة الإسلام