تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 69 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 69

068

وقوله 150- "بل الله مولاكم" إضراب عن مفهوم الجملة الأولى: إي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره، وقرئ بل الله بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله.
قوله 151- "سنلقي" قرأ السختياني بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالنون. وقرأ ابن عامر والكسائي "الرعب" بضم العين. وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان، يقال: رعبته رعباً ورعباً فهو مرعوب، ويجوز أن يكون مصدراً، والرعب بالضم الاسم، وأصله الملء، يقال سيل راعب: أي يملأ الوادي، ورعبت الحوض ملأته، فالمعنى: سنملأ قلوب الكافرين رعباً: أي خوفاً وفزعاً، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، ومجازاً في غيرها كهذه الآية، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين، وقالوا: بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به "بما أشركوا بالله" متعلق بقوله "سنلقي" وما مصدرية: أي بسبب إشراكهم "ما لم ينزل به سلطاناً" أي: ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة وبياناً وبرهاناً، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد: أي لا حجة ولا إنزال، والمعنى: أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى المكان الذي يقام فيه، يقال: ثوى يثوي ثواء.
قوله 152- "ولقد صدقكم الله وعده" نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده، فلما اشتغلوا بالغنيمة وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة. والحس: الاستئصال بالقتل، قاله أبو عبيد. يقال جراد محسوس: إذا قتله البر، وسنه حسوس: أي جدبة تأكل كل شيء. قيل: وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه: أذهب حسه بالقتل، وتحسونهم: تقتلونهم وتستأصلونهم، قال الشاعر: حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا وقال جرير: تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في الأجم الحصيد "بإذنه" أي: بعلمه وقضائه "حتى إذا فشلتم" أي: جبنتم وضعفتم، قيل: جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم وقال الفراء: جواب حتى قوله "وتنازعتم" والواو مقحمة زائدة كقوله "فلما أسلما وتله للجبين" وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم، وقيل فيه تقديم وتأخير: أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم، وقيل: إن الجواب عصيتم، والواو مقحمة. وقد جوز الأخفش مثله في قوله تعالى "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم"، وقيل: حتى بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب لها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله "من بعد ما أراكم ما تحبون" ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد كما تقدم "منكم من يريد الدنيا" يعني الغنيمة "ومنكم من يريد الآخرة" أي: الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم صرفكم عنهم ليبتليكم" أي: ردكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم "ولقد عفا عنكم" لما علم من ندمكم فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين وقيل: للرماة فقط.
قوله 153- "إذ تصعدون" متعلق بقوله "صرفكم" أو بقوله "ولقد عفا عنكم" أو بقوله "ليبتليكم" وقرأه الجمهور بضم التاء وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين. وقرأ ابن محيصن وقنبل " تصعدون " بالتحتية. قال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين. وقال القتيبي: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر: ألا أيها السائلي أين إصعدت فإن لها من بطن يثرب موعداً وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك: إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحد. ومعنى "تلوون" تعرجون وتقيمون: أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته "على أحد" أي: على أحد ممن معكم، وقيل: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن تلون بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء وهي لغة. قوله "والرسول يدعوكم في أخراكم" أي: في الطائفة المتأخرة منكم، يقال: جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عباد الله ارجعوا". قوله "فأثابكم" عطف على صرفكم: أي: فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم، أو غماً موصولاً بغم بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين، والغم في الأصل التغطية، غميت الشيء غطيته، ويوم غم، وليلة غمة: إذا كانا مظلمين: ومنه غم الهلال، وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي هريرة وخالد بن الوليد عليهم في الجبل. قوله: "لكيلا تحزنوا" اللام متعلقة بقوله "فأثابكم" أي: هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمريناً لكم على المصائب وتدريباً لاحتمال الشدائد. وقال المفضل: معنى "لكيلا تحزنوا" لكي تحزنوا، ولا زائدة كقوله تعالى " ما منعك أن لا تسجد " أي: أن تسجد، وقوله "لئلا يعلم أهل الكتاب" أي ليعلم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا" قال: لا تنصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي يقول: إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردكم كفاراً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب" نحو ما قدمناه في سبب نزول الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله "ولقد صدقكم الله وعده" قال: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد لملائكة. وقصة أحد مستوفاة في السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن عوف في قوله "إذ تحسونهم" قال: الحس القتل. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه. قال: الفشل الجبن. وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله "من بعد ما أراكم ما تحبون" قال: الغنائم وهزيمة القوم. وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله "ولقد عفا عنكم" قال: يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم. وأخرج أيضاً عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "إذ تصعدون" قال: أصعدوا في أحد فراراً والرسول يدعوهم في أخراهم: "إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا". وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف "فأثابكم غماً بغم" قال: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل قتل محمد، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "غما بغم" قال: فرة بعد الفرة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال: الغم الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.
الأمنة والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بأنزل. ونعاساً بدل منها أو عطف بيان أو مفعول له، وأما ما قيل من أن أمنة حال من نعاساً مقدمة عليه أو حال من المخاطبين أو مفعول له فبعيد. وقرأ ابن محيصن أمنة بسكون الميم. قوله 154- "يغشى" قرئ بالتحتية على أن الضمير للنعاس وبالفوقية على أن الضمير لأمنة، والطائفة الأخرى هم معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى "أهمتهم أنفسهم" حملتهم على الهم، أهمني الأمر أقلقني، والواو في قوله "وطائفة" للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل: إن معنى "أهمتهم أنفسهم" صارت همهم لا هم لهم غيرها "يظنون بالله غير الحق" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي: يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظن الجاهلية بدل منه. وهو الظن المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق. وقوله "يقولون" بدل من يظنون أي: يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم "هل لنا من الأمر من شيء" أي: هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد: أي ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدو، وقيل هو الخروج: أي إنما خرجنا مكرهين، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله "قل إن الأمر كله لله" وليس لكم ولا لعدوكم منه شيء، فالنصر بيده والظفر منه. وقوله "يخفون في أنفسهم" أي: يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " استئناف كأنه قيل: ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل: يقولون فيما بينهم أو في أنفسهم " لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" أي: لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يرد. وقوله "وليبتلي الله ما في صدوركم" علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: لعل ما فعل لمصالح جمة "وليبتلي" إلخ، وقيل: إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى: ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان.