تفسير الطبري تفسير الصفحة 220 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 220
221
219
 الآية : 98
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَمَتّعْنَاهُمْ إِلَىَ حِينٍ }.
يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ.
ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ونزول سخط الله بها بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه, فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت, كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه واستحقاقه سخط الله بمعصيته. إلاّ قَوْمَ يُونُسَ فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم, وأخرجهم منهم, وأخبر خلقه أنه نفعهم إيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها بمعنى: فما كانت قرية آمنت بمعنى الجحود, فكيف نصب «قوم» وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدا كان ما بعده مرفوعا, وأن الصحيح من كلام العرب: ما قام أحد إلا أخوك, وما خرج أحد إلا أبوك؟ قيل: إن ذلك إنما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله وذلك أن الأخ من جنس أحد, وكذلك الأب. ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله كان الفصيح من كلامهم النصب, وذلك لو قلت: ما بقي في الدار أحد إلا الوتد, وما عندنا أحد إلا كلبا أو حمارا لأن الكلب والوتد والحمار من غير جنس أحد, ومنه قول النابغة الذبياني:
............أعْيَتْ جوَابا ومَا بالرّبعْ مِنْ أحَدِ
ثم قال:
إلاّ أوارِيّ لأَيا ما أُبَيّنُهاوالنّوءْىُ كالحَوْضِ بالمظلومة الجَلَدِ
فنصب «الأواريّ» إذ كان مستثنى من غير جنسه, فكذلك نصب قوم يونس لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم من غير جنسهم وشكلهم وإن كانوا من بني آدم, وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع. ولو كان قوم يونس بعض الأمة الذين استثنوا منهم كان الكلام رفعا, ولكنهم كما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13912ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله, إلا قرية يونس.
قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس.
13913ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعها إيمانْها إلاّ قَوْمَ يُونسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحيَاةِ الدّنْيا وَمَتّعْناهُمْ إلى حِينٍ يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت, إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم, قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها, ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم, كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.
13914ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إلاّ قَوْمَ يُونُسَ قال: بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تلّ وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها يدعون الله أربعين ليلة, حتى تاب عليهم.
13915ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الحميد الحماني, عن إسماعيل بن عبد الملك, عن سعيد بن جبير, قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر.
13916ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن صالح المري, عن قتادة, عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس, حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل, فلما دعوا كشف الله عنهم.
13917ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وإسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها, إلا قوم يونس متعناهم.
13918ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فحدث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه, فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ففارقهم, فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب لكنّهم, خرجوا من مساكنهم وصعدوا في مكان رفيع, وأنهم جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب وأن يُرجع إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنزل: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي فِي الحياةِ الدّنْيا وَمَتّعْناهُمْ إلى حينً فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة فلما رأى ذلك يونس, لكنه ذهب عاتبا على ربه وانطلق مغاضبا وظنّ أن لن نقدر عليه, حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف الريح. فذكر قصة يونس وخبره.
13919ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, قال: لما رأوا العذاب ينزل فرّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام, ثم قاموا جميعا فدعوا الله وأخلصوا إيمانهم, فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبتهم؟ وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثة, فعند ذلك خرج مغضبا وساء ظنه.
13920ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن عبد الملك, عن سعيد بن جبير, قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه, قال: فدعاهم فأبوا, فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبّحهم فقالوا: إنا لم نجرّب عليه كذبا فانظروا, فإن بات فيكم فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ مخلاته فتزوّد فيها شيئا, ثم خرج. فلما أصبحوا تغشاهم العذاب كما يتغشى الإنسان الثوب في القبر, ففرّقوا بين الإنسان وولده وبين البهيمة وولدها, ثم عجوا إلى الله, فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا فكشف الله عنهم العذاب, فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا, قال: جرّبوا عليّ كذبا. فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر.
13921ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون, قال: حدثنا ابن مسعود في بيت المال, قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام, ففرّقوا بين كلّ والدة وولدها, ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه فكفّ عنهم العذاب, وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا, وكان من كذّب ولم تكن له بينة قُتل. فانطلق مغاضبا.
13922ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا صالح المرى, عن أبي عمران الجوني, عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم, فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا يا حيّ حين لا حيّ, ويا حيّ محي الموتى, ويا حيّ لا إله إلا أنت فكشف عنهم العذاب ومتّعوا إلى حين.
13923ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: بلغني في حرف ابن مسعود: «فلولا يقول فهلاّ».
وقوله: لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحيَاةِ الدّنْيا يقول: لما صدقوا رسولهم وأقرّوا بما جاءهم به بعد ماأظلهم العذاب وغشيهم أمر الله ونزل بهم البلاء, كشفنا عنهم عذاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا. وَمَتّعْناهُمْ إلى حينٍ يقول: وأخرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة, وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ووقت فناء أعمارهم التي قضيت فناءها.
الآية : 99
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكر لنبيه: وَلَوْ شاءَ يا محمد رَبّكَ لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا بك, فصدّقوك أنك لي رسول وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له حقّ, ولكن لا يشاء ذلك لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولاً أنه لا يؤمن بك ولا يتبعك فيصدّقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأوّل قبل أن يخلق السماوات والأرض وما فيهنّ, وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13924ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَلَوْ شاءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا وَما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤْمِنَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ ونحو هذا في القرآن, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى, فأخبره الله أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأوّل, ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأوّل.
فإن قال قائل: فما وجه قوله: لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا؟ فالكلّ يدل على الجميع, والجميع على الكلّ, فما وجه تكرار ذلك وكلّ واحدة منهما تغنى عن الأخرى؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله «جميعا» في هذا الموضع توكيدا كما قال: لا تَتّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ففي قوله: «إلهين» دليل على الاثنين. وقال غيره: جاء بقوله «جميعا» بعد «كلهم», لأن «جميعا» لا تقع إلا توكيدا, و «كلهم» يقع توكيدا واسما فلذلك جاء ب «جميعا» بعد «كلهم». قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد لجاز ههنا. قال: وكذلك: إلَهيْنِ اثْنَيْنِ العدد كله يفسر به, فيقال: رأيت قوما أربعة, فما جاء باثنين وقد اكتفى بالعدد منه لأنهم يقولون: عندي درهم ودرهمان, فيكفي من قولهم: عندي درهم واحد ودرهمان اثنان, فإذا قالوا دراهم قالوا ثلاثة, لأن الجمع يلتبس والواحد والاثنان لا يلتبسان, لم يثن الواحد والتثنية على تنافي في الجمع, لأنه ينبغي أن يكون مع كلّ واحد واحد, لأن درهما يدلّ على الجنس الذي هو منه, وواحد يدلّ على كلّ الأجناس, وكذلك اثنان يدلان على كل الأجناس, ودرهمان يدلان على أنفسهما, فلذلك جاء بالأعداد لأنه الأصل.
وقوله: أفأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حتى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك, لا بإكراهك إياه ولا بحرصك على ذلك, أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين لك مصدّقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جلّ ثناؤه: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ والّذِيَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ أنّهم لا يُؤْمِنُونَ.
الآية : 100
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتها من سبيل إلى تصديقك يا محمد إلا بإن آذن لها في ذلك, فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها, وبلغها وعيد الله وعرفها ما أمرك ربك بتعريفها, ثم خلّها, فإن هداها بيد خالقها.
وكان الثوري يقول في تأويل قوله: إلاّ بأذْنِ اللّهِ ما:
13925ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, في قوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُوءْمِنَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ قال: بقضاء الله.
وأما قوله: وَيجْعَلُ الرّجْسَ على الّذِينَ لا يَعْقَلُونَ فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد, ويأذن له في تصديقك فيصدّقك ويتبعك, ويقرّ بما جئت به من عند ربك, ويجعل الرجس, وهو العذاب, وغضب الله على الذين لا يعقلون يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جلّ ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان.
13926ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَيجْعَلُ الرّجْسَ قال: السخط.
الآية : 101
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الاَيَاتُ وَالنّذُرُ عَن قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك, السائليك الاَيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انْظُرُوا أيها القوم ماذَا في السّمَوَاتِ من الاَيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها, واختلاف ليلها ونهارها, ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها, و في الأرْضِ من جبالها وتصدّعها بنباتها, وأقوات أهلها, وسائر صنوف عجائبها فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبرا, ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يغنيكم عما سواه من الاَيات. يقول الله جلّ ثناؤه: وَما تُغْنِي الاَياتُ والنّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يقول جلّ ثناؤه: وما تغنى الحجج والعبر والرسل المنذرة عباد الله عقابه عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى لهم في أمّ الكتاب أنهم من أهل النار لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدّقون به. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلّ آيَةٍ حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمِ.
الآية : 102
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوَاْ إِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم محذّرا مشركي قومه من حلول عاجل نقمة بساحتهم نحو الذي حلّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربهم سبيلهم: فهل ينتظر يا محمد هؤلاء المشركون من قومك المكذّبون بما جئتهم به من عند الله, إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب الذين مضوا قبلهم فخلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود, قل لهم يا محمد: إن كانوا ذلك ينتظرون, فانتظروا عقاب الله إياكم ونزول سخطه بكم, إني من المنتظرين هلاككم وبواركم بالعقوبة التي تحل بكم من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13927ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إلاّ مِثْلَ أيامِ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود.
13928ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, في قوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إلاّ مِثْلَ أيامِ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فانْتَظِرُوا إني مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرينَ قال: خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته, ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر أنجى الله رسله والذين آمنوا معه, فقال الله: ثُمّ نُنَجّي رُسُلَنا والّذِينَ آمَنُوا كذلكَ حَقّا عَلَيْنا نُنْجِ المُؤْمِنينَ.
الآية : 103
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ نُنَجّي رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله, فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم, ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك, ثم ننجي هناك رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدقه واتبعه على دينه, كما فعلنا قبل ذلك برسلنا الذين أهلكنا أممهم فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حق على أممهم. كذلكَ حَقّا عَلَيْنا نُنْجي المُؤْمِنِينَ يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها, كذلك نفعل بك يا محمد وبالمؤمنين فننجيك وننجي المؤمنين بك حقّا علينا غير شكّ.
الآية : 104
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك إن كنتم في شكّ أيها الناس من ديني الذي أدعوكم إليه فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الاَلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئا, فتشكوا في صحته. وهذا تعريض ولحن من الكلام لطيف. وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شكّ من ديني, لا ينبغي لكم أن تشكوا فيه, وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئا ولا تضرّ ولا تنفع, فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه, لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء وينفعهم ويضرّ من يشاء وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة, وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبّ وعقل صحيح.
وقوله: وَلكِنْ أعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم. وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُوءْمِنِينِ يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده.
الآية : 105
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وأمرت أن أكون من المؤمنين, وأن أقم. و«أن» الثانية عطف على «أن» الأولى. ويعني بقوله: أقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ أقم نفسك على دين الإسلام حنيفا مستقيما عليه, غير معوجّ عنه إلى يهودية ولا نصرانية ولا عبادة وثن. وَلا تَكُونَنّ مِنَ المُشْرِكِينَ يقول: ولا تكوننّ ممن يشرك في عبادة ربه الاَلهة والأنداد فتكون من الهالكين.
الآية : 106
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنّكَ إِذاً مّنَ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الاَخرة ولا يضرّك في دين ولا دنيا, يعني بذلك الاَلهة والأصنام, يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرّها, فأنها لا تنفع ولا تضرّ, فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله فإنّكَ إذا مِنَ الظّالِمِينَ يقول: من المشركين بالله, الظالم لنفسه