تفسير الطبري تفسير الصفحة 221 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 221
222
220
 الآية : 107
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله يا محمد بشدّة أو بلاء فلا كاشف لذلك إلا ربك الذي أصابك به دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الاَلهة والأنداد. وَإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور, فَلا رادّ لِفَضْلِهِ يقول: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين ذلك ولا يردّك عنه ولا يحرمكه لأنه الذي بيده السرّاء والضرّاء دون الاَلهة والأوثان ودون ما سواه. يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ يقول: يصيب ربك يا محمد بالرخاء والبلاء والسرّاء والضرّاء من يشاء ويريد من عباده, وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته, الرحيم بمن آمن به منهم وأطاعه أن يعذّبه بعد التوبة والإنابة.
الآية : 108
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد للناس يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الحَقّ مِنْ رَبّكُمْ يعني: كتاب الله, فيه بيان كلّ ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم, فَمَنِ اهْتَدَى يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحقّ, وصدّق بما جاء من عند الله من البيان. فإنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ يقول: فإنما يستقيم على الهدى, ويسلك قصد السبيل لنفسه, فإياها يبغي الخير بفعله ذلك لا غيرها. وَمَنْ ضَلّ يقول: ومن اعوجّ عن الحقّ الذي أتاه من عند الله, وخالف دينه, وما بعث به محمدا والكتاب الذي أنزله عليه. فإنّما يَضِلّ عَلَيْها يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها ولا يورد بضلاله ذلك المهالك سوىَ نفسه. وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَما أنا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ يقول: وما أنا عليكم بمسلط على تقويمكم, إنما أمركم إلى الله, وهو الذي يقوّم من شاء منكم, وإنما أنا رسول مبلغ أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
الآية : 109
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: واتبع يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك وتنزيله الذي ينزله عليك, فاعمل به واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره وعلى ما نالك منهم حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعل فاصل. وَهُوَ خَيرُ الحاكمينَ يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين. فحكم جلّ ثناؤه بينه وبينهم يوم بدر, وقتلهم بالسيف, وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم أو يتوبوا وينيبوا إلى طاعته. كما:
13929ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَاصْبِرْ حتى يَحْكُمَ اللّهَ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمِينَ قال: هذا منسوخ حتى يحكم الله, حكم الله بجهادهم وأمره بالغلظة عليهم.
والله الموفق للصواب, والحمد لله وحده, والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة يونس

سورة هود
مكية
وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها هود
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1
{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }.
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله الر والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن. ورفع قوله: «كتابٌ» بنية: هذا كتاب. فأما على قول من زعم أن قوله: الر مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن, وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها, وأن معنى الكلام: هذه الحروف كتاب أحكمت آياته, فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعا بقوله: الر.
وأما قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله, فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي, ثم فصلت بالثواب والعقاب. ذكر من قال ذلك:
13862حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرني أبو محمد الثقفي, عن الحسن, في قوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال: أحكمت بالأمر والنهِي, وفصّلت بالثواب والعقاب.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال: أحكمت في الأمر والنهي وفصلت بالوعيد.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن رجل, عن الحسن: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال: بالأمر والنهِي ثُمّ فُصّلَتْ قال: بالثواب والعقاب.
ورُوي عن الحسن قول خلافَ هذا. وذلك ما:
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن أبي بكر, عن الحسن, قال: وحدثنا عباد بن العوّام, عن رجل, عن الحسن: أُحْكِمَتْ بالثواب والعقاب ثُمّ فُصّلَتْ بالأمر والنهِي.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحكمت آياته من الباطل, ثم فصلت, فبين منها الحلال والحرام. ذكر من قال ذلك:
13930ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه, فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
13931ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال: أحكمها الله من الباطل, ثم فصلها: بينها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدّخل والخلل والباطل, ثم فصلها بالأمر والنهي. وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه, وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذوزيغ أن يطعن فيها من قبله. وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعض بالبيان عما فيها من حلال وحرام وأمر ونهي. وكان بعض المفسرين يفسر قوله: فُصّلَتْ بمعنى: فسرت, وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول. ذكر من قال ذلك:
13932ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, قال: حدثنا ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ثُمّ فُصّلَتْ قال: فسرت.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فُصّلَتْ قال: فسرت.
قال: حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, قال: بلغني, عن مجاهد: ثُمّ فُصّلَتْ قال: فسرت.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
وقال قتادة: معناه: بيّنت, وقد ذكرنا الرواية بذلك قبل, وهو شبيه المعنى بقول مجاهد.
وأما قوله: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فإن معناه: حكيم بتدبير الأشياء وتقديرها, خبير بما يؤول إليه عواقبها.
13933ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يقول: من عند حكيم خبير.
الآية : 2
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: ثم فصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وتخلعوا الاَلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: إنني لكم من عند الله نذير ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام, وبشير يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألوهة له.
الآية : 3
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مّتَاعاً حَسَناً إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ }.
يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم, فيستر عليكم عظيم ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام وإشراككم الاَلهة والأنداد في عبادته.
وقوله: ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. ولذلك قيل: وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ ولم يقل: وتوبوا إليه لأن التوبة معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله, والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين, والعمل لله لا يكون عملاً له إلا بعد ترك الشرك به, فأما الشرك فإن عمله لا يكون إلا للشيطان, فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك, لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يطيعون الله بكثير من أفعالهم وهم على شركهم مقيمون.
وقوله: يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الاَيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه, فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها, وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13934ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه, فإن الله منعم يحبّ الشاكرين وأهل الشكر في مزيد من الله, وذلك قضاؤه الذي قضى. وقوله: إلى أجَلٍ مُسَمّى يعني الموت.
13935ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إلى أجَلٍ مُسَمّى قال: الموت.
13936ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إلى أجَلٍ مُسَمّى وهو الموت.
حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: إلى أجَلٍ مُسَمّى قال: الموت.
وأما قوله: وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فإنه يعني: يثيب كلّ من تفضل بفضل ماله أو قوّته أو معروفه على غيره محتسبا مريدا به وجه الله, أجْزَلَ ثوابه وفضله في الاَخرة. كما:
13937ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قال: ما احتسب به من ماله, أو عمل بيده أو رجله, أو كلمه, أو ما تطوّع به من أمره كله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد. قال: وحدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, إلا أنه قال: أو عمل بيديه أو رجليه وكلامه, وما تطوّل به من أمره كله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد بنحوه, إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله.
13938ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي في الاَخرة.
وقد رُوي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:
13939ـ حُدثت به عن المسيب بن شريك, عن أبي بكر, عن سعيد بن جبير, عن ابن مسعود, في قوله: وَيُوءْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة, ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات, وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشاره.
وقوله: وإنْ تَوَلّوْا فإني أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الاَلهة وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه فأدبروا مولين عن ذلك, فإني أيها القوم أخاف عليكم عذاب يوم كبير شأنه عظيم هوله, وذلك يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وقال جلّ ثناؤه: وإنْ تَوَلّوْا فإنّ أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ كَبِيرٍ ولكنه مما قد تقدمه قوله, والعرب إذا قدمت قبل الكلام قولاً خاطبت ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ثم رجعت بعد إلى الخطاب, وقد بينا ذلك في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
الآية : 4
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: إلى الله أيها القوم ما بكم ومصيركم, فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الاَلهة والأصنام, فإنه مخلدكم نار جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه. وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم, وعقابكم على إشراككم به الأوثان وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادر.
الآية : 5
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }.
اختلف القرّاء في قراءة قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ فقرأته عامة الأمصار: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ على تقدير يفعلون من «ثنيت», والصدور منصوبة.
واختلفت قارئو ذلك كذلك في تأويله, فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطى وجهه وثنى ظهره. ذكر من قال ذلك:
13940ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن شعبة, عن حصين, عن عبد الله بن شدّاد في قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال: كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه وثنى ظهره.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن عبد الله بن شداد بن الهاد, قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان المنافقون إذا مرّوا به ثنى أحدهم صدره ويطأطىء رأسه, فقال الله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ... الآية.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن حصين, قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول, في قوله: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال: كان أحدهم إذا مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثنى صدره, وتغشى بثوبه كي لا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلاً منهم بالله وظنّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك. ذكر من قال ذلك:
13941ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال: شكا وامتراء في الحقّ, ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شكّا وامتراء في الحقّ. لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال: من الله إن استطاعوا.
13942ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال: تضيق شكّا.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال: تضيق شكّا وامتراء في الحقّ, قال: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال: من الله إن استطاعوا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
13943ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, في قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال: من جهالتهم به, قال الله: ألاَ حِينَ يَسْتَغْثُونَ ثِيَابَهُمْ في ظلمة الليل في أجوف بيوتهم, يَعْلَمُ تلك الساعة ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ إنّهُ عَلِيمٌ بذاتِ الصّدُور.
13944ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي رزين: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه.
وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كلام الله تعالى. ذكر من قال ذلك:
13945ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ... الآية, قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله, قال تعالى: ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى صدره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه, فإن الله لا يخفى ذلك عليه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرّ في نفسه شيئا وتغطى بثوبه, فذلك أخفى ما يكون, والله يطلع على ما في نفوسهم, والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون.
وقال آخرون: إنما هذا إخبار من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ويبدون له المحبة والمودّة, وأنهم معه وعلى دينه. يقول جلّ ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله, ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم.
وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك:
13946ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضا. وقرأ: ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ... الآية.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ» على مثال: تَحْلَولِي التمرة: تَفْعَوعِل.
13947ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة, قال: سمعت ابن عباس يقرأ «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ» قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء.
13948ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: سمعت ابن عباس يقرؤها: «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ» قال: سألته عنها, فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلّوا فيُفْضُوا إلى السماء, وأن يصيبوا فيفضوا إلى السماء.
ورُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر, وهو ما:
13949ـ حدثنا به محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: أخبرت عن عكرمة, أن ابن عباس, قرأ «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ» وقال ابن عباس: تثنوني صدورهم: الشك في الله وعمل السيئات. يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يستكبر, أو يستكنّ من الله والله يراه, يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن رجل, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه قرأ: «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ» قال عكرمة: تثنوني صدورهم, قال: الشك في الله وعمل السيئات, فيستغشي ثيابه ويستكنّ من الله, والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار, وهو: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ على مثال «يفعلون», والصدور نصب بمعنى: يحنون صدورهم ويكنّونها. كما:
13950ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول: يكنّون.
13951ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول: يكتمون ما في قلوبهم. ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ما عملوا بالليل والنهار.
13952ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول: تثنوني صدورُهم.
وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس, إلا أن الذي حدثنا هكذا ذكر القراءة في الرواية. فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب لإجماع الحجة من القرّاء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك, تأويل من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلاً منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية, لأن قوله: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ بمعنى: ليستخفوا من الله, وأن الهاء في قوله: مِنْهُ عائدة على اسم الله, ولم يجر لمحمد ذكر قبل,. فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك, كان معلوما أنهم لم يحدّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله إلا بجهلهم به, فلما أخبرهم جلّ ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حال كانوا تغشوا بالثياب أو أظهروا بالبزار, فقال: ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يعني: يتغشون ثيابهم يتغطونها ويلبسون, يقال منه: استغشى ثوبه وتغشاه, قال الله: واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وقالت الخنساء:
أرْعَى النّجُومَ وَما كُلّفْتُ رِعْيَتَهاوتارَةً أتَغشّى فَضْلَ أطْمارِى شعي
يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ يقول جلّ ثناؤه: يعلم ما يسرّ هؤلاء الجهلة بربهم, الظانون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها وثنوه, وما تناجوه بينهم فأخفوه وما يُعْلِنُونَ سواء عنده سرائر عباده وعلانيتهم إنّه عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورَ يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكلّ ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر وحقّ وباطل وخير وشرّ, وما تستجنّه مما لم يجنه بعد. كما:
13953ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يقول: يغطون رؤسهم