سورة آل عمران | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 69 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 69
070
068
الآية : 149
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, فـي وعد الله ووعيده وأمره ونهيه {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُو}, يعنـي: الذين جحدوا نبوّة نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم من الـيهود والنصارى, فـيـما يأمرونكم به, وفـيـما ينهونكم عنه, فتقبلوا رأيهم فـي ذلك, وتنتصحوهم فـيـما تزعمون أنهم لكم فـيه ناصحون, {يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ} يقول: يحملوكم علـى الردّة بعد الإيـمان والكفر بـالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام, {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} يقول: فترجعوا عن إيـمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين, يعنـي: هالكين, قد خسرتـم أنفسكم, وضللتـم عن دينكم, وذهبت دنـياكم وآخرتكم. ينهي بذلك أهل الإيـمان بـالله أن يطيعوا أهل الكفر فـي آرائهم, وينتصحوهم فـي أديانهم. كما:
6472ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ}: أي عن دينكم: فتذهب دنـياكم وآخرتكم.
6473ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُو} قال ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا الـيهود والنصارى علـى دينكم, ولا تصدّقوهم بشيءٍ فـي دينكم.
6474ـ حدثنا مـحمد قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} يقول: إن تطيعوا أبـا سفـيان يردّكم كفـارا.
الآية : 150
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: أن الله مسدّدكم أيها الـمؤمنون, فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.
وإنـما قـيـل: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} لأن قوله: {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ} نهيٌ لهم عن طاعتهم, فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا, فـيردّوكم علـى أعقابكم, ثم ابتدأ الـخبر, فقال: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} فأطيعوه دون الذين كفروا فهو خير من نصر, ولذلك رفع اسم الله, ولو كان منصوبـا علـى معنى: بل أطيعوا الله مولاكم دون الذين كفروا, كان وجها صحيحا. ويعنـي بقوله: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ}: ولـيكم وناصركم علـى أعدائكم الذين كفروا, {وَهُوَ خَيْرُ النّاصرِين} لا من فررتـم إلـيه من الـيهود وأهل الكفر بـالله, فبـالله الذي هو ناصركم ومولاكم فـاعتصموا وإياه فـاستنصروا دون غيره مـمن يبغيكم الغوائل ويرصدكم بـالـمكاره. كما:
6475ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا فـي قلوبكم, {وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ}: أي فـاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره, ولا ترجعوا علـى أعقابكم مرتدين عن دينكم.
الآية : 151
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: سيـلقـى الله أيها الـمؤمنون فـي قلوب الذين كفروا بربهم, وجحدوا نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم مـمن حاربكم بـأُحد الرعب, وهو الـجزع والهلع بـما أشركوا بـالله, يعنـي بشركهم بـالله وعبـادتهم الأصنام, وطاعتهم الشيطان التـي لـم أجعل لهم بها حجة, وهي السلطان التـي أخبر عزّ وجلّ أنه لـم ينزله بكفرهم وشركهم, وهذا وعد من الله جلّ ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالنصر علـى أعدائهم, والفلـج علـيهم ما استقاموا علـى عهده, وتـمسكوا بطاعته, ثم أخبرهم ما هو فـاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إلـيه, فقال جلّ ثناؤه: {وَمأْوَاهُمُ النّارُ} يعنـي: ومرجعهم الذي يرجعون إلـيه يوم القـيامة النار {وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِـمِينَ} يقول: وبئس مقام الظالـمين الذين ظلـموا أنفسهم بـاكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار. كما:
6476ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق:{سَنُلْقِـي فـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّهِ ما لَـمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا وَمأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثُوَى الظّالِـمِينَ} إنـي سألقـي فـي قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم علـيهم, بـما أشركوا بـي ما لـم أجعل لهم به حجة, أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر, ولا ظهور علـيكم ما اعتصمتـم واتبعتـم أمري, للـمصيبة التـي أصابتكم منهم بذنوب قدمتـموها لأنفسكم, خالفتـم بها أمري, وعصيتـم فـيها نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم.
6477ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما ارتـحل أبو سفـيان والـمشركون يوم أُحد متوجهين نـحو مكة, انطلق أبو سفـيان حتـى بلغ بعض الطريق, ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتـم, إنكم قتلتـموهم, حتـى إذا لـم يبق إلا الشرّير تركتـموهم, ارجعوا فـاستأصلوهم, فقذف الله عزّ وجلّ فـي قلوبهم الرعب, فـانهزموا, فلقوا أعرابـيا, فجعلوا له جُعْلاً, وقالوا له: إن لقـيت مـحمدا فأخبره بـما قد جمعنا لهم! فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم, فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد, فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك, فذكر أبـا سفـيان حين أراد أن يرجع إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم وما قذف فـي قلبه من الرعب, فقال: {سَنُلْقِـي فِـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّهِ}.
الآية : 152
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: ولقد صدقكم الله أيها الـمؤمنون من أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم بـأُحد وعده الذي وعدهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم. والوعد الذي كان وعدهم علـى لسانه بـأُحد قوله للرماة: «اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ», وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلـى أمره¹ كالذي:
6478ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمشركين بـأُحد, أمر الرماة, فقاموا بأصل الـجبل فـي وجوه خيـل الـمشركين, وقال: «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ» وأمّر علـيهم عبد الله بن جبـير أخا خوّات بن جبـير, ثم إن طلـحة بن عثمان صاحب لواء الـمشركين قام فقال: يا معشر أصحاب مـحمد, إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلـى النار, ويعجلكم بسيوفنا إلـى الـجنة, فهل منكم أحد يعجله الله بسيفـي إلـى الـجنة, أو يعجلنـي بسيفه إلـى النار؟ فقام إلـيه علـيّ بن أبـي طالب, فقال: والذي نفسي بـيده, لا أفـارقك حتـى يعجلك الله بسيفـي إلـى النار, أو يعجلنـي بسيفك إلـى الـجنة! فضربه علـيّ, فقطع رجله فسقط, فـانكشفت عورته, فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم! فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال لعلـيّ أصحابه: ما منعك أن تـجهز علـيه؟ قال: إن ابن عمي ناشدنـي حين انكشفت عورته فـاستـحيـيت منه. ثم شدّ الزبـير بن العوّام والـمقداد بن الأسود علـى الـمشركين, فهزماهم, وحمل النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فهزموا أبـا سفـيان, فلـما رأى ذلك خالد بن الولـيد وهو علـى خيـل الـمشركين حمل, فرمته الرماة, فـانقمع¹ فلـما نظر الرماة إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فـي جوف عسكر الـمشركين ينتهبونه, بـادروا الغنـيـمة, فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فـانطلق عامتهم, فلـحقوا بـالعسكر¹ فلـما رأى خالد قلة الرماة, صاح فـي خيـله, ثم حمل فقتل الرماة, ثم حمل علـى أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم¹ فلـما رأى الـمشركون أن خيـلهم تقاتل, تنادوا, فشدّوا علـى الـمسلـمين, فهزموهم وقتلوهم.
6479ـ حدثنا هارون بن إسحاق, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء, قال: لـما كان يوم أُحد ولقـينا الـمشركين, أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة, وأمّر علـيهم عبد الله بن جبـير أخا خوّات بن جبـير, وقال لهم: «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ! إنْ رأيْتُـمُونا ظَهَرْنا عَلَـيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا, وَإنْ رأيْتُـمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَـيْنا فَلا تُعِينُونا» فلـما التقـى القوم, هُزم الـمشركون حتـى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن, وبدت خلاخـلهن, فجعلوا يقولون: الغنـيـمة الغنـيـمة! قال عبد الله: مهلاً, أما علـمتـم ما عهد إلـيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأبوا, فـانطلقوا, فلـما أتوهم صرف الله وجوههم, فأصيب من الـمسلـمين سبعون قتـيلاً.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن أبـي أسحاق, عن البراء, بنـحوه.
6480ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, ابن عبـاس قوله: {وَلَقَدْ صَدقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونهُمْ بإذْنِهِ} فإن أبـا سفـيان أقبل فـي ثلاث لـيال خـلون من شوّال, حتـى نزل أُحدا, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأذن فـي الناس, فـاجتـمعوا, وأمّر علـى الـخيـل الزبـير بن العوّام, ومعه يومئذ الـمقداد بن الأسود الكندي, وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير, وخرج حمزة بن عبد الـمطلب بـالـحُسّر, وبعث حمزة بـين يديه, وأقبل خالد بن الولـيد علـى خيـل الـمشركين ومعه عكرمة بن أبـي جهل, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبـير, وقال: «اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الوَلِـيدِ فَكُنْ بإزَائِهِ حَتّـى أوذِنْكَ!» وأمر بخيـل أخرى, فكانوا من جانب آخر, فقال: «لا تَبْرَحُوا حتـى أوذِنَكُمْ!» وأقبل أبو سفـيان يحمل اللات والعزّى, فأرسل النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى الزبـير أن يحمل, فحمل علـى خالد بن الولـيد, فهزمه ومن معه, كما قال: {لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وإن الله وعد الـمؤمنـين أن ينصرهم, وأنه معهم.
6481ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن عبـيد الله الزهري, أن مـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا فـي قصة ذكرها عن أُحد, ذكر أن كلهم قد حدّث ببعضها, وأن حديثهم اجتـمع فـيـما ساق من الـحديث, فكان فـيـما ذكر فـي ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد فـي عُدْوة الوادي إلـى الـجبل, فجعل ظهره وعسكره إلـى أحد, وقال: «لا تُقَاتِلُوا حَتّـى نَأْمُرَ بـالِقَتال», وقد سرحت قريش الظهر والكُراع فـي زروع كانت بـالصّمْغة من قناة للـمسلـمين, فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أتُرْعى زروع بنـي قـيـلة ولـما نُضارب! وصفّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال, وهو فـي سبعمائة رجل, وتصافّ قريش وهم ثلاثة آلاف, ومعهم مائتا فرس قد جَنَبُوها, فجعلوا علـى ميـمنة الـخيـل خالد بن الولـيد, وعلـى ميسرتها عكرمة بن أبـي جهل. وأمّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علـى الرماة عبد الله بن جبـير أخا بنـي عمرو بن عوف, وهو يومئذ معلـم بثـياب بـيض, والرماة خمسون رجلاً, وقال: «انْضَحْ عَنّا الـخَيْـلَ بـالّنْبِل لا يَأْتُونَا مِنْ خَـلْفِنَا! إنْ كَانَتْ لنا أو عَلَـيْنَا فـاثْبُتْ مَكَانَكَ, لا نُؤْتَـيَنّ مِنْ قَبِلِكَ!» فلـما التقـى الناس, ودنا بعضهم من بعض, واقتتلوا حتـى حميت الـحرب, وقاتل أبو دجانة حتـى أمعن فـي الناس, وحمزة بن عبد الـمطلب, وعلـيّ بن أبـي طالب فـي رجال من الـمسلـمين, فأنزل الله عزّ وجلّ نصره, وصدقهم وعده, فحسّوهم بـالسيوف حتـى كشفوهم, وكانت الهزيـمة لا شك فـيها.
6482ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن يحيـى بن عبـاد بن عبد الله بن الزبـير, عن أبـيه, عن جده, قال: قال الزبـير: والله لقد رأيتنـي أنظر إلـى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوازم, ما دون إحداهن قلـيـل ولا كثـير, إذ مالت الرماة إلـى العسكر حين كشفنا القوم عنه, يريدون النهب, وخـلوا ظهورنا للـخيـل, فـأُتـينا من أدبـارنا, وصرخ صارخ: ألا إن مـحمدا قد قُتل! فـانكفأنا وأنكفأ علـينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء, حتـى ما يدنو منه أحد من القوم.
6483ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ}: أي لقد وفـيت لكم بـما وعدتكم من النصر علـى عدوّكم.
6484ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللّهُ وَعْدَهُ}, وذلك يوم أُحد, قال لهم: «إنّكُمْ سَتَظْهَرُونَ فَلاَ تَأْخُذُوا ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنائمهِمْ شَيْئا حتـى تَفْرُغُوا» فتركوا أمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وعصوا, ووقعوا فـي الغنائم, ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم, وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولقد وفـى الله لكم أيها الـمؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما وعدكم من النصر علـى عدوّكم بأحُد, حين تـحسّونهم, يعنـي: حين تقتلونهم. يقال منه: حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا: إذا قتله. كما:
6485ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي, قال: حدثنا يعقوب بن عيسى, قال: ثنـي عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف, عن مـحمد بن عبد العزيز, عن الزهري, عن عبد الرحمن بن الـمسور بن مخرمة, عن أبـيه, عن عبد الرحمن بن عوف فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: الـحَسّ: القتل.
6486ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا ابن أبـي الزناد, عن أبـيه, قال: سمعت عبـيد الله بن عبد الله يقول فـي قول الله عزّ وجلّ: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} قال: القتل.
6487ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: تقتلونهم.
6488ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنهُمْ} أي قتلاً بإذنه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} يقول: إذ تقتلونهم.
6489ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} والـحَسّ القتل.
6490ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} يقول: تقتلونهم.
6491ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بـالسيوف: أي بـالقتل.
6492ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن: {إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ} يعنـي: القتل.
6493ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} يقول: تقتلونهم.
وأما قوله: {بإذْنِهِ} فإنه يعنـي: بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسلـيطي إياكم علـيهم. كما:
6494ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بإذنـي وتسلـيطي أيديكم علـيهم, وكفـي أيديهم عنكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُـحِبّونَ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: حتـى إذا جبنتـم وضعفتـم, {وتَنازَعتـمْ فـي الأمْرِ} بقول: واختلفتـم فـي أمر الله¹ يقول: وعصيتـم وخالفتـم بنـيكم, فتركتـم أمره, وما عهد إلـيكم. وإنـما يعنـي بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بـأُحد, بإزاء خالد بن الولـيد ومن كان معه من فرسان الـمشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم.
وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} فإنه يعنـي بذلك: من بعد الذي أراكم الله أيها الـمؤمنون بـمـحمد من النصر والظفر بـالـمشركين, وذلك هو الهزيـمة التـي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التـي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فـيها, وقبل خروج خيـل الـمشركين علـى الـمؤمنـين من ورائهم.
وبنـحو الذي قلنا تظاهرت الأخبـار عن أهل التأويـل, وقد مضى ذكر بعض من قال, وسنذكر قول بعض من لـم يذكر قوله فـيـما مضى. ذكر من قال ذلك:
6495ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي الأمر, {وعصيتـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذاكم يوم أُحد, عهد إلـيهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر, فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم بنـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فـانصرف علـيهم عدوّهم بعد ما أراهم من عدوّهم ما يحبون.
6496ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس ـ يعنـي: يوم أُحد ـ فكانوا من ورائهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُونُوا هَهُنا فَرُدّوا وَجْهَ مَنْ قَدِمَنا, وكُونُوا حَرَسا لَنا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنا» وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هزم القوم هو وأصحابه, اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم, فقال بعضهم لبعض لـما رأوا النساء مصعدات فـي الـجبل, ورأوا الغنائم, قالوا: انطلقوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنـيـمة قبل أن تسبقوا إلـيها! وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا. فذلك قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي} للذين أرادوا الغنـيـمة, {وِمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الاَخِرَةَ} للذين قالوا: نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا. فأتوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فكان فشلاً حين تنازعوا بـينهم¹ يقول: {وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد مَا أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} كانوا قد رأوا الفتـح والغنـيـمة.
6497ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ} يقول: جبنتـم عن عدوّكم, {وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} يقول: اختلفتـم وعصيتـم, {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذلك يوم أُحد, قال لهم: «إنّكَم سَتَظْهَرُونَ فلا أعَرِفنّ ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنَائمهم شَيْئا حتـى تفَرغُوا», فتركوا أمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وعصوا, ووقعوا فـي الغنائم, ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم, وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به, فـانصرف علـيهم عدوّهم من بعد ما أراهم فـيهم ما يحبون.
6498ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ} قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: الفشل: الـجبن.
6499ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} من الفتـح.
6500ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: أي تـخاذلتـم, {وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي أمري, {وَعَصَيْتُـمْ}: أي تركتـم أمر نبـيكم صلى الله عليه وسلم وما عهد إلـيكم, يعنـي: الرماة. {مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} أي الفتـح لا شكّ فـيه, وهزيـمة القوم عن نسائهم وأموالهم.
6501ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن الـمبـارك, عن الـحسن: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ مَا تُـحِبّونَ} يعنـي: من الفتـح.
وقـيـل: معنى قوله: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} حتـى إذا تنازعتـم فـي الأمر فشلتـم وعصيتـم من بعد ما أراكم ما تـحبون أنه من الـمقدّم الذي معناه التأخير, وإن الواو دخـلت فـي ذلك, ومعناها: السقوط كما قلنا فـي: {فَلَـمّا أسْلَـما وَتَلّهُ للْـجَبِـينِ وَنادَيْناهُ} معناه: ناديناه, وهذا مقول فـي «حتـى إذا» وفـي «فلـما أنْ», ومنه قول الله عزّ وجلّ: {حتـى إذَا فُتِـحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ} ثم قال: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقّ} ومعناه: اقترب, وكما قال الشاعر:
حتـى إذَا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُوَرأيْتُـمُ أبْناءَكُمْ شَبّوا
وَقلبْتُـمْ ظَهْرَ الـمِـجَنّ لنَاإنّ اللّئِيـمَ العاجِزُ الـخَبّ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي}: الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الشعب من أحد لـخيـل الـمشركين, ولـحقوا بـمعسكر الـمسلـمين طلب النهب إذ رأوا هزيـمة الـمشركين {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} يعنـي بذلك: الذين ثبتوا من الرماة فـي مقاعدهم التـي أقعدهم فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, واتبعوا أمره, مـحافظة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم, والدار الاَخرة. كما:
6502ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فـالذين انطلقوا يريدون الغنـيـمة, هم أصحاب الدنـيا والذين بقوا, وقالوا: لا نـخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا الاَخرة.
6503ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس مثله.
6504ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فإن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد طائفة من الـمسلـمين, فقال: «كُونُوا مَسْلَـحَةً للنّاسِ» بـمنزلة أمرهم أن يثبوا بها, وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتـى يأذن لهم, فلـما لقـي بنـيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبـا سفـيان ومن معه من الـمشركين, هزمهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: فلـما رأى الـمسلـحةُ أن الله عزّ وجلّ هزم الـمشركين, انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنـيـمة الغنـيـمة لا تفتكم! وثبت بعضهم مكانهم, وقالوا: لا نريـم موضعنا حتـى يأذن لنا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم. ففـي ذلك نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعَرَضها حتـى كان يوم أحد.
6505ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: لـما هزم الله الـمشركين يوم أُحد, قال الرماة: أدركوا الناس ونبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلـى الغنائم فتكون لهم دونكم! وقال بعضهم: لا نريـم حتـى يأذن لنا النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فنزلت: {مِنكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} قال ابن جريج: قال ابن مسعود: ما علـمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعرضها حتـى كان يومئذٍ.
6506ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن الـمبـارك, عن الـحسن: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي} هؤلاء الذين يحوزون الغنائم, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} الذين يتبعونهم يقتلونهم.
6507ـ حدثنا الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزيّ, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ عن عبد خير, قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنـيا, حتـى نزل فـينا يوم أُحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.
حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, عن عبد خير, قال: قال ابن مسعود: ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحدا يريد الدنـيا حتـى قال الله ما قال.
6508ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال عبد الله بن مسعود لـما رآهم وقعوا فـي الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنـيا حتـى كان الـيوم.
6509ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وَعَرَضها حتـى كان يومئذٍ.
6510ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنـيْ} أي الذين أرادوا النهب رغبة فـي الدنـيا وترك ما أمروا به من الطاعة التـي علـيها ثواب الاَخرة, {وَمِنْكُمْ مَنْ يَرِيدُ الاَخرَةَ}: أي الذين جاهدوا فـي الله لـم يخالفوا إلـى ما نهوا عنه لعرض من الدنـيا رغبة فـي رجاء ما عند الله من حسن ثوابه فـي الاَخرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلِـيَكُمْ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ثم صرفكم أيها الـمؤمنون عن الـمشركين بعد ما أراكم ما تـحبون فـيهم, وفـي أنفسكم من هزيـمتكم إياهم, وظهوركم علـيهم, فردّ وجوهكم عنهم لـمعصيتكم أمر رسولـي, ومخالفتكم طاعته, وإيثاركم الدنـيا علـى الاَخرة, عقوبة لكم علـى ما فعلتـم, لـيبتلـيكم, يقول: لـيختبركم, فـيتـميز الـمنافق منكم من الـمخـلص, الصادق فـي إيـمانه منكم. كما:
6511ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ثم ذكر حين مال علـيهم خالد بن الولـيد: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلـيكُمْ}.
6512ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن فـي قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} قال: صرف القوم عنهم, فقتل من الـمسلـمين بعدّة من أسروا يوم بدر, وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكسرت ربـاعيته, وشجّ فـي وجهه, وكان يـمسح الدم عن وجهه, ويقول: «كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى رَبّهِمْ؟»¹ فنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}... الاَية, فقالوا: ألـيس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} إلـى قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ وَلَقَدْ عَفَـا عَنْكُمْ}.
6513ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ}: أي صرفكم عنهم لـيختبركم, وذلك ببعض ذنوبكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـين}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا الله أيها الـمخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتاركون طاعته, فـيـما تقدم إلـيكم من لزوم الـموضع الذي أمركم بلزومه عنكم, فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتـيتـموه عما هو أعظم مـما عاقبكم به من هزيـمة أعدائكم إياكم, وصرف وجوهكم عنهم إذ لـم يستأصل جمعكم. كما:
6514ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن, فـي قوله: {وَلَقَد عَفـا عَنْكُمْ} قال: قال الـحسن وصفق بـيديه: وكيف عفـا عنهم وقد قتل منهم سبعون, وقتل عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكسرت ربـاعيته, وشجّ فـي وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عزّ وجلّ: قد عفوت عنكم إذ عصيتـمونـي أن لا أكون استأصلتكم. قال: ثم يقول الـحسن: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفـي سبـيـل الله غضاب لله, يقاتلون أعداء الله, نهوا عن شيء فصنعوه, فوالله ما تركوا حتـى غموا بهذا الغمّ, فأفسق الفـاسقـين الـيوم يتـجرأ علـى كل كبـيرة, ويركب كل داهية, ويسحب علـيها ثـيابه, ويزعم أن لا بأس علـيه, فسوف يعلـم.
6515ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ} قال: لـم يستأصلكم.
6516ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا الله عن عظيـم ذلك لـم يهلككم بـما أتـيتـم من معصية نبـيكم, ولكن عُدْت بفضلـي علـيكم.
وأما قوله: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ} فإنه يعنـي: والله ذو طول علـى أهل الإيـمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثـير ما يستوجبون به العقوبة علـيه من ذنوبهم, فإن عاقبهم علـى بعض ذلك, فذو إحسان إلـيهم بجميـل أياديه عندهم. كما:
6517ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ} يقول: وكذلك منّ الله علـى الـمؤمنـين أن عاقبهم ببعض الذنوب فـي عاجل الدنـيا أدبـا وموعظة, فإنه غير مستأصل لكل ما فـيهم من الـحقّ له علـيهم, لـما أصابوا من معصيته, رحمة لهم, وعائدة علـيهم لـما فـيهم من الإيـمان.
الآية : 153
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولقد عفـا عنكم أيها الـمؤمنون إذ لـم يستأصلكم, إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم, وهربكم¹ {إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَـى أَحَدٍ}.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه عامة قراء الـحجاز والعراق والشام سوى الـحسن البصري: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضمّ التاء وكسر العين, وبه القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القراء علـى القراءة به, واستنكارهم ما خالفه. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: «إذْ تَصْعَدُونَ» بفتـح التاء والعين.
6518ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن يونس بن عبـيد, عن الـحسن.
فأما الذين قرءوا: {تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين, فإنهم وجهوا معنى ذلك إلـى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا فـي الوادي هاربـين. وذكروا أن ذلك فـي قراءة أبـيّ: «إذْ تُصْعِدون فـي الوادي».
6519ـ حدثنا أحمد بن يوسف, قال: حدثنا أبو عبـيد, قال: حدثنا حجاج, عن هارون.
قالوا: الهرب فـي مستوى الأرض, وبطون الأودية والشعاب, إصعاد لا صعود, قالوا وإنـما يكون الصعود علـى الـجبـال والسلالـيـم والدّرَج, لأن معنى الصعود: الارتقاء والارتفـاع علـى الشيء علوّا. قالوا: فأما الأخذ فـي مستوى الأرض الهبوط, فإنـما هو إصعاد, كما يقال: أصعدنا من مكة, إذا ابتدأت فـي السفر منها والـخروج, وأصعدنا من الكوفة إلـى خراسان, بـمعنى خرجنا منها سفرا إلـيها, وابتدأنا منها الـخروج إلـيها. قالوا: وإنـما جاء تأويـل أكثر أهل التأويـل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم فـي بطن الوادي. ذكر من قال ذلك:
6520ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ} ذاكم يوم أُحد أصعدوا فـي الوادي فرارا, ونبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم فـي أخراهم, قال: «إلـيّ عِبـادَ اللّهِ, إلـيّ عبـادَ اللّهِ».
وأما الـحسن فإنـي أراه ذهب فـي قراءته: «إذْ تَصْعَدُونَ» بفتـح التاء والعين إلـى أن القوم حين انهزموا عن الـمشركين صَعِدوا الـجبل. وقد قال ذلك عدد من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6521ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما شدّ الـمشركون علـى الـمسلـمين بـأُحد فهزموهم, دخـل بعضهم الـمدينة, وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة, فقاموا علـيها, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إلـيّ عِبَـادَ اللّهِ, إلـيّ عِبـادَ اللّهِ!» فذكر الله صعودهم علـى الـجبل, ثم ذكر دعاء نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم, فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ والرّسُولُ يَدْعُوكُم فِـي أُخْرَاكُمْ}.
6522ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: انـحازوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعلوا يصعدون فـي الـجبل, والرسول يدعوهم فـي أخراهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6523ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, قوله: {إذْ تُصْعدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَد} قال: صعدوا فـي أُحد فرارا.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين, بـمعنى السبق والهرب فـي مستوى الأرض, أو فـي الـمهابط, لإجماع الـحجة علـى أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففـي إجماعها علـى ذلك الدلـيـل الواضح علـى أن أولـى التأويـلـين بـالاَية تأويـل من قال: أصعدوا فـي الوادي, ومضوا فـيه, دون قول من قال: صعدوا علـى الـجبل.
وأما قوله: {وَلا تَلْوْونَ علـى أحَدٍ} فإنه يعنـي: ولا تعطفون علـى أحد منكم, ولا يـلتفت بعضكم إلـى بعض هربـا من عدوّكم مصعدين فـي الوادي. ويعنـي بقوله: {وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها الـمؤمنون به من أصحابه فـي أخراكم, يعنـي أنه يناديكم من خـلفكم: «إلـيّ عِبـادَ اللّهِ, إلـيّ عِبـادَ اللّه!». كما:
6524ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: إلـيّ عبـاد الله ارْجِعُوا, إلـيّ عِبَـاد اللّهِ ارْجِعُوا!.
6525ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: رأوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم: إلـيّ عبـاد الله!
6526ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, مثله.
6527ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أنّبهم الله بـالفرار عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم, وهو يدعوهم لا يعطفون علـيه لدعائه إياهم, فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـيِ أُخْرَاكُمْ}.
6528ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـي أُخْرَاكُمْ} هذا يوم أُحد حين انكشف الناس عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْمَلُونَ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} يعنـي: فجازاكم بفراركم عن نبـيكم, وفشلكم عن عدوّكم, ومعصيتكم ربكم غما بغمّ, يقول: غمّا علـى غمّ. وسمى العقوبة التـي عاقبهم بها من تسلـيط عدوّهم علـيهم حتـى نال منهم ما نال ثوابـا, إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولـم يرضه منهم, فدلّ بذلك جلّ ثناؤه أن كل عوض كالـمعوّض من شيء من العمل, خيرا كان أو شرّا, أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إلـيه, فإنه مستـحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة, ونظير ذلك قول الشاعر:
أخافُ زِيادا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُأدَاهِمَ سُودا أوْ مُـحَدْرَجةً سُمْرا
فجعل العطاء العقوبة, وذلك كقول القائل لاَخر سلف إلـيه منه مكروه: لأجازينك علـى فعلك, ولأثـيبنك ثوابك.
وأما قوله: {غَمّا بِغَمّ} فإنه قـيـل: غما بغمّ, معناه: غما علـى غم, كما قـيـل: {وَلأصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ} بـمعنى: ولأصلبنكم علـى جذوع النـخـل. وإنـما جاز ذلك, لأن معنى قول القائل: أثابك الله غما علـى غمّ: جزاك الله غما بعد غمّ تقدّمه, فكان كذلك معنى: فأثابكم غما بغمّ, لأن معناه: فجزاكم الله غما بعقب غمّ تقدّمه, وهو نظير قول القائل: نزلت ببنـي فلان, ونزلت علـى بنـي فلان, وضربته بـالسيف, وعلـى السيف.
واختلف أهل التأويـل فـي الغمّ الذي أثـيب القوم علـى الغمّ, وما كان غمهم الأوّل والثانـي, فقال بعضهم: أما الغمّ الأوّل, فكان ما تـحدّث به القوم أن نبـيهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل. وأما الغمّ الاَخر, فإنه كان ما نالهم من القتل والـجراح. ذكر من قال ذلك:
6529ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فأثابَكُمْ غَمّا بغَمّ} كانوا تـحدثوا يومئذٍ أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أصيب, وكان الغمّ الاَخر قتل أصحابهم والـجراحات التـي أصابتهم¹ قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذٍ سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون رجلاً من الأنصار, وأربعة من الـمهاجرين. وقوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} يقول: ما فـاتكم من غنـيـمة القوم, ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من القتل والـجراحات.
6530ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال: فرّة بعد فرّة, الأولـى: حين سمعوا الصوت أن مـحمدا قد قُتِل¹ والثانـية: حين رجع الكفـار فضربوهم مدبرين, حتـى قتلوا منهم سبعين رجلاً, ثم انـحازوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعلوا يصعدون فـي الـجبل, والرسول يدعوهم فـي أخراهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, نـحوه.
وقال آخرون: بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم, وجرح من جُرح منهم¹ والغمّ الثانـي: كان من سماعهم صوت القائل: قُتل مـحمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
6531ـ حدثنا الـحسين بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {غَمّا بِغَمّ} قال: الغمّ الأول: الـجراح والقتل¹ والغمّ الثانـي: حين سمعوا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنـيـمة, وذلك حين يقول: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.
6532ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمْ} قال: الغمّ الأوّل: الـجراح والقتل¹ والغمّ الاَخر: حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل, وما كانوا يرجون من الغنـيـمة, وذلك حين يقول الله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.
وقال آخرون: بل الغمّ الأوّل ما كان فـاتهم من الفتـح والغنـيـمة¹ والثانـي إشراف أبـي سفـيان علـيهم فـي الشعب. وذلك أن أبـا سفـيان فـيـما زعم بعض أهل السير لـما أصاب من الـمسلـمين ما أصاب, وهرب الـمسلـمون, جاء حتـى أشرف علـيهم وفـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي شعب أُحد الذي كانوا ولوا إلـيه عند الهزيـمة, فخافوا أن يصطلـمهم أبو سفـيان وأصحابه. ذكر الـخبر بذلك:
6533ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يدعو الناس حتـى انتهى إلـى أصحاب الصخرة, فلـما رأوه, وضع رجل سهما فـي قوسه, فأراد أن يرميه, فقال: «أنا رَسُولُ اللّهِ» ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا, وفرح رسول الله حين رأى أن فـي أصحابه من يـمتنع. فلـما اجتـمعوا وفـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الـحزن, فأقبلوا يذكرون الفتـح وما فـاتهم منه, ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. فأقبل أبو سفـيان حتـى أشرف علـيهم¹ فلـما نظروا إلـيه, نسوا ذلك الذي كانوا علـيه, وهمّهم أبو سفـيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا, اللّهُمّ إنْ تُقْتَلْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدُ» ثم ندب أصحابه فرموهم بـالـحجارة حتـى أنزلوهم, فقال أبو سفـيان يومئذٍ: اعل هبل! حنظلة بحنظلة, ويوم بـيوم بدر. وقتلوا يومئذٍ حنظلة بن الراهب وكان جنبـا فغسلته الـملائكة, وكان حنظلة بن أبـي سفـيان قُتل يوم بدر¹ قال أبو سفـيان: لنا العزّى, ولا عزّى لكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قُلِ اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلـى لَكُمْ». فقال أبو سفـيان: فـيكم مـحمد؟ قالوا: نعم, قال: أما إنها قد كانت فـيكم مثلة, ما أمرت بها, ولا نهيت عنها, ولا سرّتنـي, ولا ساءتنـي. فذكر الله إشراف أبـي سفـيان علـيهم, فقال: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} الغمّ الأوّل: ما فـاتهم من الغنـيـمة والفتـح¹ والغمّ الثانـي: إشراف العدوّ علـيهم, لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة, ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون, فشغلهم أبو سفـيان.
6534ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي ابن شهاب الزهري, ومـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ, وغيرهم من علـمائنا فـيـما ذكروا من حديث أُحد, قالوا: كان الـمسلـمون فـي ذلك الـيوم لـما أصابهم فـيه من شدّة البلاء أثلاثا: ثلث قتـيـل, وثلث جريح, وثلث منهزم, وقد بلغته الـحرب حتـى ما يدري ما يصنع, وحتـى خـلص العدو إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثّ بـالـحجارة حتـى وقع لشقه, وأصيبت ربـاعيته, وشُجّ فـي وجهه, وكلـمت شفته, وكان الذي أصابه عتبة بن أبـي وقاص. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتـى قتل, وكان الذي أصابه ابن قميئة اللـيثـي, وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرجع إلـى قريش فقال: قتلت مـحمدا.
6535ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: فكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيـمة, وقول الناس: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بنـي سلـمة, قال: عرفت عينـيه تزهران تـحت الـمغفر, فناديت بأعلـى صوتـي: يا معشر الـمسلـمين أبشروا, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إلـيّ رسول الله أن أنصت. فلـما عرف الـمسلـمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض نـحو الشعب معه علـيّ بن أبـي طالب وأبو بكر بن أبـي قحافة وعمر بن الـخطاب, وطلـحة بن عبـيد الله, والزبـير بن العوّام, والـحارث بن الصامت فـي رهط من الـمسلـمين. قال: فبـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه, إذ علت عالـية من قريش الـجبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللّهُمّ إنّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أن يَعْلُونا» فقاتل عمر بن الـخطاب ورهط معه من الـمهاجرين, حتـى أهبطوهم عن الـجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى صخرة من الـجبل لـيعلوها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدّن, فظاهر بـين درعين, فلـما ذهب لـينهض, فلـم يستطع, جلس تـحته طلـحة بن عبـيد الله, فنهض حتـى استوى علـيها ثم إن أبـا سفـيان حين أراد الانصراف, أشرف علـى الـجبل, ثم صرخ بأعلـى صوته أنعمت فعالِ, إن الـحرب سجال, يوم بـيوم بدر, أعل هبل! أي أظْهِرْ دينك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قُمْ فأجِبْهُ فَقُلْ: اللّهُ أعْلَـى وأجَلّ, لا سَوَاءٌ, قَتْلانا فـي الـجَنّةِ, وقَتْلاَكُمْ فِـي النّارِ» فلـما أجاب عمر رضي الله عنه أبـا سفـيان, قال له أبو سفـيان: هلـمّ إلـيّ يا عمر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائْتِهِ فـانْظُرْ ما شأْنُهُ!» فجاءه فقال له أبو سفـيان: أنشدك الله يا عمر, أقتلنا مـحمدا؟ فقال عمر: اللهمّ لا, وإنه لـيسمع كلامك الاَن. فقال: أنا أصدق عندي من ابن قميئة, وأشار لقول ابن قميئة لهم: إنـي قتلت مـحمدا. ثم نادى أبو سفـيان, فقال: إنه قد كان فـي قتلاكم مثله, والله ما رضيت, ولا سخطت, ولا نهيت, ولا أمرت.
6536ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}: أي كربا بعد كرب قتلُ من قُتل من إخوانكم, وعلوّ عدوّكم علـيكم, وما وقع فـي أنفسكم من قول من قال: قتل نبـيكم, فكان ذلك مـما تتابع علـيكم غما بغم, لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من ظهوركم علـى عدوّكم بعد أن رأيتـموه بأعينكم, ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم¹ حتـى فرّجت بذلك الكرب عنكم, والله خبـير بـما تعلـمون. وكان الذي فرّج عنهم ما كانوا فـيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم أن الله عزّ وجلّ ردّ عنهم كذبة الشيطان بقتل نبـيهم, فلـما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا بـين أظهرهم, هان علـيهم ما فـاتهم من القوم, فهان الظهور علـيهم والـمصيبة التـي أصابتهم فـي إخوانهم, حين صرف الله القتل عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم.
6537ـ حدثنا قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال ابن جريج: قال مـجاهد: أصاب الناس حزن وغمّ علـى ما أصابهم فـي أصحابهم الذين قتلوا, فلـما تولـجوا فـي الشعب يتصافون وقـف أبو سفـيان وأصحابه ببـاب الشعب, فظنّ الـمؤمنون أنهم سوف يـميـلون علـيهم فـيقتلونهم أيضا, فأصابهم حزن فـي ذلك أيضا أنساهم حزنهم فـي أصحابهم, فذلك قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} قال ابن جريج: قوله: {علـى ما فـاتَكُمْ} يقول: علـى ما فـاتكم من غنائم القوم {ولا مَا أصَابَكُمُ} فـي أنفسكم.
6538ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن عبـيد بن عمير, قال: جاء أبو سفـيان بن حرب, ومن معه, حتـى وقـف بـالشعب, ثم نادى: أفـي القوم ابن أبـي كبشة؟ فسكتوا, فقال أبو سفـيان: قتل وربّ الكعبة, ثم قال: أفـي القوم ابن أبـي قحافة؟ فسكتوا, فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال: أفـي القوم عمر بن الـخطاب؟ فسكتوا, فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال أبو سفـيان: اعل هبل, يوم بـيوم بدر, وحنظلة بحنظلة, وأنتـم واجدون فـي القوم مُثلاً لـم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا, ولـم نكرهه حين رأيناه! فقال النبـي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الـخطاب: «قُمْ فَنادِ فَقُلْ: اللّهُ أعْلَـى وأجَلّ, نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أبو بكر, وها أنا ذا¹ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الـجنة, أصحاب الـجنة هم الفـائزون, قتلانا فـي الـجنة, وقتلاكم فـي النار».
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
6539ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ} فرجعوا فقالوا: والله لنأتـينهم, ثم لنفتلنهم, قد خرجوا منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً فإنّـمَا أصَابَكُمْ الّذي أصَابَكُمْ مِنْ أجْلِ أنّكُمْ عَصَيْتُـمُونِـي». فبـينـما هم كذلك, إذ أتاهم القوم, قد أنسوا, وقد اخترطوا سيوفهم, فكان غمّ الهزيـمة وغمهم حين أتوهم¹ {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} من القتل {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الـجراحة {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُو}... الاَية, وهو يوم أُحد.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: معنى قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} أيها الـمؤمنون بحرمان الله إياكم غنـيـمة الـمشركين, والظفر بهم, والنصر علـيهم, وما أصابكم من القتل والـجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم فـي كل ذلك ما تـحبون بـمعصيتكم ربكم, وخلافكم أمر نبـيكم صلى الله عليه وسلم, غمّ ظنكم أن نبـيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل, وميـل العدوّ علـيكم بعد فلولكم منهم.
والذي يدلّ علـى أن ذلك أولـى بتأويـل الاَية مـما خالفه, قوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} والفـائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إلـيه من غيرهم, إما من ظهور علـيهم بغلبهم, وإما من غنـيـمة يحتازونها, وأن قوله: {وَلا ما أصَابَكُمْ} هو ما أصابهم إما فـي أبدانهم, وإما فـي إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الغمّ الثانـي هو معنى غير هذين, لأن الله عزّ وجلّ أخبر عبـاده الـمؤمنـين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه ثابهم غما بغمّ, لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشىء عما فـاتهم من غيرهم, ولا ما أصابهم قبل ذلك فـي أنفسهم, وهو الغمّ الأول علـى ما قد بـيناه قبل.
وأما قوله: لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} فإن تأويـله علـى ما قد بـينت من أنه لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم فلـم تدركوه مـما كنتـم ترجون إدراكه من عدوّكم بـالظفر علـيهم والظهور وحيازة غنائمهم, ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيه قبل علـى السبـيـل التـي اختلفوا فـيه, كما:
6540ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} قال: علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة التـي كنتـم ترجون, {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الهزيـمة.
وأما قوله: {وَاللّهُ خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْلَـمُونَ} فإنه يعنـي جلّ ثناؤه: والله بـالذي تعلـمون ـ أيها الـمؤمنون من إصعادكم فـي الوادي هربا من عدوكم, وانهزامكم منهم, وتنرككم نبـيكم وهو يدعوكم فـي أخراكم, وحزنكم علـى ما فـاتكم من عدوّكم, وما أصابكم فـي أنفسهم ـ ذو خبرة وعلـم, وهو مـحص ذلك كله علـيكم حتـى يجازيكم به الـمـحسن منكم بإحسانه, والـمسيء بإساءته, أو يعفو عنه
070
068
الآية : 149
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, فـي وعد الله ووعيده وأمره ونهيه {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُو}, يعنـي: الذين جحدوا نبوّة نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم من الـيهود والنصارى, فـيـما يأمرونكم به, وفـيـما ينهونكم عنه, فتقبلوا رأيهم فـي ذلك, وتنتصحوهم فـيـما تزعمون أنهم لكم فـيه ناصحون, {يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ} يقول: يحملوكم علـى الردّة بعد الإيـمان والكفر بـالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام, {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} يقول: فترجعوا عن إيـمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين, يعنـي: هالكين, قد خسرتـم أنفسكم, وضللتـم عن دينكم, وذهبت دنـياكم وآخرتكم. ينهي بذلك أهل الإيـمان بـالله أن يطيعوا أهل الكفر فـي آرائهم, وينتصحوهم فـي أديانهم. كما:
6472ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ}: أي عن دينكم: فتذهب دنـياكم وآخرتكم.
6473ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُو} قال ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا الـيهود والنصارى علـى دينكم, ولا تصدّقوهم بشيءٍ فـي دينكم.
6474ـ حدثنا مـحمد قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} يقول: إن تطيعوا أبـا سفـيان يردّكم كفـارا.
الآية : 150
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: أن الله مسدّدكم أيها الـمؤمنون, فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.
وإنـما قـيـل: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} لأن قوله: {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ} نهيٌ لهم عن طاعتهم, فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا, فـيردّوكم علـى أعقابكم, ثم ابتدأ الـخبر, فقال: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} فأطيعوه دون الذين كفروا فهو خير من نصر, ولذلك رفع اسم الله, ولو كان منصوبـا علـى معنى: بل أطيعوا الله مولاكم دون الذين كفروا, كان وجها صحيحا. ويعنـي بقوله: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ}: ولـيكم وناصركم علـى أعدائكم الذين كفروا, {وَهُوَ خَيْرُ النّاصرِين} لا من فررتـم إلـيه من الـيهود وأهل الكفر بـالله, فبـالله الذي هو ناصركم ومولاكم فـاعتصموا وإياه فـاستنصروا دون غيره مـمن يبغيكم الغوائل ويرصدكم بـالـمكاره. كما:
6475ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا فـي قلوبكم, {وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ}: أي فـاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره, ولا ترجعوا علـى أعقابكم مرتدين عن دينكم.
الآية : 151
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: سيـلقـى الله أيها الـمؤمنون فـي قلوب الذين كفروا بربهم, وجحدوا نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم مـمن حاربكم بـأُحد الرعب, وهو الـجزع والهلع بـما أشركوا بـالله, يعنـي بشركهم بـالله وعبـادتهم الأصنام, وطاعتهم الشيطان التـي لـم أجعل لهم بها حجة, وهي السلطان التـي أخبر عزّ وجلّ أنه لـم ينزله بكفرهم وشركهم, وهذا وعد من الله جلّ ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالنصر علـى أعدائهم, والفلـج علـيهم ما استقاموا علـى عهده, وتـمسكوا بطاعته, ثم أخبرهم ما هو فـاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إلـيه, فقال جلّ ثناؤه: {وَمأْوَاهُمُ النّارُ} يعنـي: ومرجعهم الذي يرجعون إلـيه يوم القـيامة النار {وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِـمِينَ} يقول: وبئس مقام الظالـمين الذين ظلـموا أنفسهم بـاكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار. كما:
6476ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق:{سَنُلْقِـي فـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّهِ ما لَـمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا وَمأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثُوَى الظّالِـمِينَ} إنـي سألقـي فـي قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم علـيهم, بـما أشركوا بـي ما لـم أجعل لهم به حجة, أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر, ولا ظهور علـيكم ما اعتصمتـم واتبعتـم أمري, للـمصيبة التـي أصابتكم منهم بذنوب قدمتـموها لأنفسكم, خالفتـم بها أمري, وعصيتـم فـيها نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم.
6477ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما ارتـحل أبو سفـيان والـمشركون يوم أُحد متوجهين نـحو مكة, انطلق أبو سفـيان حتـى بلغ بعض الطريق, ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتـم, إنكم قتلتـموهم, حتـى إذا لـم يبق إلا الشرّير تركتـموهم, ارجعوا فـاستأصلوهم, فقذف الله عزّ وجلّ فـي قلوبهم الرعب, فـانهزموا, فلقوا أعرابـيا, فجعلوا له جُعْلاً, وقالوا له: إن لقـيت مـحمدا فأخبره بـما قد جمعنا لهم! فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم, فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد, فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك, فذكر أبـا سفـيان حين أراد أن يرجع إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم وما قذف فـي قلبه من الرعب, فقال: {سَنُلْقِـي فِـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّهِ}.
الآية : 152
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: ولقد صدقكم الله أيها الـمؤمنون من أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم بـأُحد وعده الذي وعدهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم. والوعد الذي كان وعدهم علـى لسانه بـأُحد قوله للرماة: «اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ», وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلـى أمره¹ كالذي:
6478ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمشركين بـأُحد, أمر الرماة, فقاموا بأصل الـجبل فـي وجوه خيـل الـمشركين, وقال: «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ» وأمّر علـيهم عبد الله بن جبـير أخا خوّات بن جبـير, ثم إن طلـحة بن عثمان صاحب لواء الـمشركين قام فقال: يا معشر أصحاب مـحمد, إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلـى النار, ويعجلكم بسيوفنا إلـى الـجنة, فهل منكم أحد يعجله الله بسيفـي إلـى الـجنة, أو يعجلنـي بسيفه إلـى النار؟ فقام إلـيه علـيّ بن أبـي طالب, فقال: والذي نفسي بـيده, لا أفـارقك حتـى يعجلك الله بسيفـي إلـى النار, أو يعجلنـي بسيفك إلـى الـجنة! فضربه علـيّ, فقطع رجله فسقط, فـانكشفت عورته, فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم! فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال لعلـيّ أصحابه: ما منعك أن تـجهز علـيه؟ قال: إن ابن عمي ناشدنـي حين انكشفت عورته فـاستـحيـيت منه. ثم شدّ الزبـير بن العوّام والـمقداد بن الأسود علـى الـمشركين, فهزماهم, وحمل النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فهزموا أبـا سفـيان, فلـما رأى ذلك خالد بن الولـيد وهو علـى خيـل الـمشركين حمل, فرمته الرماة, فـانقمع¹ فلـما نظر الرماة إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فـي جوف عسكر الـمشركين ينتهبونه, بـادروا الغنـيـمة, فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فـانطلق عامتهم, فلـحقوا بـالعسكر¹ فلـما رأى خالد قلة الرماة, صاح فـي خيـله, ثم حمل فقتل الرماة, ثم حمل علـى أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم¹ فلـما رأى الـمشركون أن خيـلهم تقاتل, تنادوا, فشدّوا علـى الـمسلـمين, فهزموهم وقتلوهم.
6479ـ حدثنا هارون بن إسحاق, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء, قال: لـما كان يوم أُحد ولقـينا الـمشركين, أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة, وأمّر علـيهم عبد الله بن جبـير أخا خوّات بن جبـير, وقال لهم: «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ! إنْ رأيْتُـمُونا ظَهَرْنا عَلَـيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا, وَإنْ رأيْتُـمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَـيْنا فَلا تُعِينُونا» فلـما التقـى القوم, هُزم الـمشركون حتـى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن, وبدت خلاخـلهن, فجعلوا يقولون: الغنـيـمة الغنـيـمة! قال عبد الله: مهلاً, أما علـمتـم ما عهد إلـيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأبوا, فـانطلقوا, فلـما أتوهم صرف الله وجوههم, فأصيب من الـمسلـمين سبعون قتـيلاً.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن أبـي أسحاق, عن البراء, بنـحوه.
6480ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, ابن عبـاس قوله: {وَلَقَدْ صَدقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونهُمْ بإذْنِهِ} فإن أبـا سفـيان أقبل فـي ثلاث لـيال خـلون من شوّال, حتـى نزل أُحدا, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأذن فـي الناس, فـاجتـمعوا, وأمّر علـى الـخيـل الزبـير بن العوّام, ومعه يومئذ الـمقداد بن الأسود الكندي, وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير, وخرج حمزة بن عبد الـمطلب بـالـحُسّر, وبعث حمزة بـين يديه, وأقبل خالد بن الولـيد علـى خيـل الـمشركين ومعه عكرمة بن أبـي جهل, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبـير, وقال: «اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الوَلِـيدِ فَكُنْ بإزَائِهِ حَتّـى أوذِنْكَ!» وأمر بخيـل أخرى, فكانوا من جانب آخر, فقال: «لا تَبْرَحُوا حتـى أوذِنَكُمْ!» وأقبل أبو سفـيان يحمل اللات والعزّى, فأرسل النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى الزبـير أن يحمل, فحمل علـى خالد بن الولـيد, فهزمه ومن معه, كما قال: {لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وإن الله وعد الـمؤمنـين أن ينصرهم, وأنه معهم.
6481ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن عبـيد الله الزهري, أن مـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا فـي قصة ذكرها عن أُحد, ذكر أن كلهم قد حدّث ببعضها, وأن حديثهم اجتـمع فـيـما ساق من الـحديث, فكان فـيـما ذكر فـي ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد فـي عُدْوة الوادي إلـى الـجبل, فجعل ظهره وعسكره إلـى أحد, وقال: «لا تُقَاتِلُوا حَتّـى نَأْمُرَ بـالِقَتال», وقد سرحت قريش الظهر والكُراع فـي زروع كانت بـالصّمْغة من قناة للـمسلـمين, فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أتُرْعى زروع بنـي قـيـلة ولـما نُضارب! وصفّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال, وهو فـي سبعمائة رجل, وتصافّ قريش وهم ثلاثة آلاف, ومعهم مائتا فرس قد جَنَبُوها, فجعلوا علـى ميـمنة الـخيـل خالد بن الولـيد, وعلـى ميسرتها عكرمة بن أبـي جهل. وأمّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علـى الرماة عبد الله بن جبـير أخا بنـي عمرو بن عوف, وهو يومئذ معلـم بثـياب بـيض, والرماة خمسون رجلاً, وقال: «انْضَحْ عَنّا الـخَيْـلَ بـالّنْبِل لا يَأْتُونَا مِنْ خَـلْفِنَا! إنْ كَانَتْ لنا أو عَلَـيْنَا فـاثْبُتْ مَكَانَكَ, لا نُؤْتَـيَنّ مِنْ قَبِلِكَ!» فلـما التقـى الناس, ودنا بعضهم من بعض, واقتتلوا حتـى حميت الـحرب, وقاتل أبو دجانة حتـى أمعن فـي الناس, وحمزة بن عبد الـمطلب, وعلـيّ بن أبـي طالب فـي رجال من الـمسلـمين, فأنزل الله عزّ وجلّ نصره, وصدقهم وعده, فحسّوهم بـالسيوف حتـى كشفوهم, وكانت الهزيـمة لا شك فـيها.
6482ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن يحيـى بن عبـاد بن عبد الله بن الزبـير, عن أبـيه, عن جده, قال: قال الزبـير: والله لقد رأيتنـي أنظر إلـى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوازم, ما دون إحداهن قلـيـل ولا كثـير, إذ مالت الرماة إلـى العسكر حين كشفنا القوم عنه, يريدون النهب, وخـلوا ظهورنا للـخيـل, فـأُتـينا من أدبـارنا, وصرخ صارخ: ألا إن مـحمدا قد قُتل! فـانكفأنا وأنكفأ علـينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء, حتـى ما يدنو منه أحد من القوم.
6483ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ}: أي لقد وفـيت لكم بـما وعدتكم من النصر علـى عدوّكم.
6484ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللّهُ وَعْدَهُ}, وذلك يوم أُحد, قال لهم: «إنّكُمْ سَتَظْهَرُونَ فَلاَ تَأْخُذُوا ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنائمهِمْ شَيْئا حتـى تَفْرُغُوا» فتركوا أمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وعصوا, ووقعوا فـي الغنائم, ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم, وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولقد وفـى الله لكم أيها الـمؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما وعدكم من النصر علـى عدوّكم بأحُد, حين تـحسّونهم, يعنـي: حين تقتلونهم. يقال منه: حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا: إذا قتله. كما:
6485ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي, قال: حدثنا يعقوب بن عيسى, قال: ثنـي عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف, عن مـحمد بن عبد العزيز, عن الزهري, عن عبد الرحمن بن الـمسور بن مخرمة, عن أبـيه, عن عبد الرحمن بن عوف فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: الـحَسّ: القتل.
6486ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا ابن أبـي الزناد, عن أبـيه, قال: سمعت عبـيد الله بن عبد الله يقول فـي قول الله عزّ وجلّ: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} قال: القتل.
6487ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: تقتلونهم.
6488ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنهُمْ} أي قتلاً بإذنه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} يقول: إذ تقتلونهم.
6489ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} والـحَسّ القتل.
6490ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} يقول: تقتلونهم.
6491ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بـالسيوف: أي بـالقتل.
6492ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن: {إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ} يعنـي: القتل.
6493ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} يقول: تقتلونهم.
وأما قوله: {بإذْنِهِ} فإنه يعنـي: بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسلـيطي إياكم علـيهم. كما:
6494ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بإذنـي وتسلـيطي أيديكم علـيهم, وكفـي أيديهم عنكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُـحِبّونَ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: حتـى إذا جبنتـم وضعفتـم, {وتَنازَعتـمْ فـي الأمْرِ} بقول: واختلفتـم فـي أمر الله¹ يقول: وعصيتـم وخالفتـم بنـيكم, فتركتـم أمره, وما عهد إلـيكم. وإنـما يعنـي بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بـأُحد, بإزاء خالد بن الولـيد ومن كان معه من فرسان الـمشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم.
وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} فإنه يعنـي بذلك: من بعد الذي أراكم الله أيها الـمؤمنون بـمـحمد من النصر والظفر بـالـمشركين, وذلك هو الهزيـمة التـي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التـي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فـيها, وقبل خروج خيـل الـمشركين علـى الـمؤمنـين من ورائهم.
وبنـحو الذي قلنا تظاهرت الأخبـار عن أهل التأويـل, وقد مضى ذكر بعض من قال, وسنذكر قول بعض من لـم يذكر قوله فـيـما مضى. ذكر من قال ذلك:
6495ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي الأمر, {وعصيتـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذاكم يوم أُحد, عهد إلـيهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر, فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم بنـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فـانصرف علـيهم عدوّهم بعد ما أراهم من عدوّهم ما يحبون.
6496ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس ـ يعنـي: يوم أُحد ـ فكانوا من ورائهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُونُوا هَهُنا فَرُدّوا وَجْهَ مَنْ قَدِمَنا, وكُونُوا حَرَسا لَنا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنا» وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هزم القوم هو وأصحابه, اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم, فقال بعضهم لبعض لـما رأوا النساء مصعدات فـي الـجبل, ورأوا الغنائم, قالوا: انطلقوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنـيـمة قبل أن تسبقوا إلـيها! وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا. فذلك قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي} للذين أرادوا الغنـيـمة, {وِمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الاَخِرَةَ} للذين قالوا: نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا. فأتوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فكان فشلاً حين تنازعوا بـينهم¹ يقول: {وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد مَا أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} كانوا قد رأوا الفتـح والغنـيـمة.
6497ـ حُدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ} يقول: جبنتـم عن عدوّكم, {وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} يقول: اختلفتـم وعصيتـم, {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذلك يوم أُحد, قال لهم: «إنّكَم سَتَظْهَرُونَ فلا أعَرِفنّ ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنَائمهم شَيْئا حتـى تفَرغُوا», فتركوا أمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وعصوا, ووقعوا فـي الغنائم, ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم, وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به, فـانصرف علـيهم عدوّهم من بعد ما أراهم فـيهم ما يحبون.
6498ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ} قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: الفشل: الـجبن.
6499ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} من الفتـح.
6500ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: أي تـخاذلتـم, {وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي أمري, {وَعَصَيْتُـمْ}: أي تركتـم أمر نبـيكم صلى الله عليه وسلم وما عهد إلـيكم, يعنـي: الرماة. {مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} أي الفتـح لا شكّ فـيه, وهزيـمة القوم عن نسائهم وأموالهم.
6501ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن الـمبـارك, عن الـحسن: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ مَا تُـحِبّونَ} يعنـي: من الفتـح.
وقـيـل: معنى قوله: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} حتـى إذا تنازعتـم فـي الأمر فشلتـم وعصيتـم من بعد ما أراكم ما تـحبون أنه من الـمقدّم الذي معناه التأخير, وإن الواو دخـلت فـي ذلك, ومعناها: السقوط كما قلنا فـي: {فَلَـمّا أسْلَـما وَتَلّهُ للْـجَبِـينِ وَنادَيْناهُ} معناه: ناديناه, وهذا مقول فـي «حتـى إذا» وفـي «فلـما أنْ», ومنه قول الله عزّ وجلّ: {حتـى إذَا فُتِـحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ} ثم قال: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقّ} ومعناه: اقترب, وكما قال الشاعر:
حتـى إذَا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُوَرأيْتُـمُ أبْناءَكُمْ شَبّوا
وَقلبْتُـمْ ظَهْرَ الـمِـجَنّ لنَاإنّ اللّئِيـمَ العاجِزُ الـخَبّ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي}: الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الشعب من أحد لـخيـل الـمشركين, ولـحقوا بـمعسكر الـمسلـمين طلب النهب إذ رأوا هزيـمة الـمشركين {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} يعنـي بذلك: الذين ثبتوا من الرماة فـي مقاعدهم التـي أقعدهم فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, واتبعوا أمره, مـحافظة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم, والدار الاَخرة. كما:
6502ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فـالذين انطلقوا يريدون الغنـيـمة, هم أصحاب الدنـيا والذين بقوا, وقالوا: لا نـخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا الاَخرة.
6503ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس مثله.
6504ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فإن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد طائفة من الـمسلـمين, فقال: «كُونُوا مَسْلَـحَةً للنّاسِ» بـمنزلة أمرهم أن يثبوا بها, وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتـى يأذن لهم, فلـما لقـي بنـيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبـا سفـيان ومن معه من الـمشركين, هزمهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: فلـما رأى الـمسلـحةُ أن الله عزّ وجلّ هزم الـمشركين, انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنـيـمة الغنـيـمة لا تفتكم! وثبت بعضهم مكانهم, وقالوا: لا نريـم موضعنا حتـى يأذن لنا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم. ففـي ذلك نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعَرَضها حتـى كان يوم أحد.
6505ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: لـما هزم الله الـمشركين يوم أُحد, قال الرماة: أدركوا الناس ونبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلـى الغنائم فتكون لهم دونكم! وقال بعضهم: لا نريـم حتـى يأذن لنا النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فنزلت: {مِنكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} قال ابن جريج: قال ابن مسعود: ما علـمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعرضها حتـى كان يومئذٍ.
6506ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن الـمبـارك, عن الـحسن: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـي} هؤلاء الذين يحوزون الغنائم, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} الذين يتبعونهم يقتلونهم.
6507ـ حدثنا الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزيّ, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ عن عبد خير, قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنـيا, حتـى نزل فـينا يوم أُحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.
حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, عن عبد خير, قال: قال ابن مسعود: ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحدا يريد الدنـيا حتـى قال الله ما قال.
6508ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال عبد الله بن مسعود لـما رآهم وقعوا فـي الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنـيا حتـى كان الـيوم.
6509ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنـيا وَعَرَضها حتـى كان يومئذٍ.
6510ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنـيْ} أي الذين أرادوا النهب رغبة فـي الدنـيا وترك ما أمروا به من الطاعة التـي علـيها ثواب الاَخرة, {وَمِنْكُمْ مَنْ يَرِيدُ الاَخرَةَ}: أي الذين جاهدوا فـي الله لـم يخالفوا إلـى ما نهوا عنه لعرض من الدنـيا رغبة فـي رجاء ما عند الله من حسن ثوابه فـي الاَخرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلِـيَكُمْ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ثم صرفكم أيها الـمؤمنون عن الـمشركين بعد ما أراكم ما تـحبون فـيهم, وفـي أنفسكم من هزيـمتكم إياهم, وظهوركم علـيهم, فردّ وجوهكم عنهم لـمعصيتكم أمر رسولـي, ومخالفتكم طاعته, وإيثاركم الدنـيا علـى الاَخرة, عقوبة لكم علـى ما فعلتـم, لـيبتلـيكم, يقول: لـيختبركم, فـيتـميز الـمنافق منكم من الـمخـلص, الصادق فـي إيـمانه منكم. كما:
6511ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ثم ذكر حين مال علـيهم خالد بن الولـيد: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلـيكُمْ}.
6512ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن فـي قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} قال: صرف القوم عنهم, فقتل من الـمسلـمين بعدّة من أسروا يوم بدر, وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكسرت ربـاعيته, وشجّ فـي وجهه, وكان يـمسح الدم عن وجهه, ويقول: «كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى رَبّهِمْ؟»¹ فنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}... الاَية, فقالوا: ألـيس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} إلـى قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ وَلَقَدْ عَفَـا عَنْكُمْ}.
6513ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ}: أي صرفكم عنهم لـيختبركم, وذلك ببعض ذنوبكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـين}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا الله أيها الـمخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتاركون طاعته, فـيـما تقدم إلـيكم من لزوم الـموضع الذي أمركم بلزومه عنكم, فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتـيتـموه عما هو أعظم مـما عاقبكم به من هزيـمة أعدائكم إياكم, وصرف وجوهكم عنهم إذ لـم يستأصل جمعكم. كما:
6514ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن, فـي قوله: {وَلَقَد عَفـا عَنْكُمْ} قال: قال الـحسن وصفق بـيديه: وكيف عفـا عنهم وقد قتل منهم سبعون, وقتل عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكسرت ربـاعيته, وشجّ فـي وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عزّ وجلّ: قد عفوت عنكم إذ عصيتـمونـي أن لا أكون استأصلتكم. قال: ثم يقول الـحسن: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفـي سبـيـل الله غضاب لله, يقاتلون أعداء الله, نهوا عن شيء فصنعوه, فوالله ما تركوا حتـى غموا بهذا الغمّ, فأفسق الفـاسقـين الـيوم يتـجرأ علـى كل كبـيرة, ويركب كل داهية, ويسحب علـيها ثـيابه, ويزعم أن لا بأس علـيه, فسوف يعلـم.
6515ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ} قال: لـم يستأصلكم.
6516ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا الله عن عظيـم ذلك لـم يهلككم بـما أتـيتـم من معصية نبـيكم, ولكن عُدْت بفضلـي علـيكم.
وأما قوله: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ} فإنه يعنـي: والله ذو طول علـى أهل الإيـمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثـير ما يستوجبون به العقوبة علـيه من ذنوبهم, فإن عاقبهم علـى بعض ذلك, فذو إحسان إلـيهم بجميـل أياديه عندهم. كما:
6517ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ} يقول: وكذلك منّ الله علـى الـمؤمنـين أن عاقبهم ببعض الذنوب فـي عاجل الدنـيا أدبـا وموعظة, فإنه غير مستأصل لكل ما فـيهم من الـحقّ له علـيهم, لـما أصابوا من معصيته, رحمة لهم, وعائدة علـيهم لـما فـيهم من الإيـمان.
الآية : 153
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولقد عفـا عنكم أيها الـمؤمنون إذ لـم يستأصلكم, إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم, وهربكم¹ {إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَـى أَحَدٍ}.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه عامة قراء الـحجاز والعراق والشام سوى الـحسن البصري: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضمّ التاء وكسر العين, وبه القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القراء علـى القراءة به, واستنكارهم ما خالفه. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: «إذْ تَصْعَدُونَ» بفتـح التاء والعين.
6518ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن يونس بن عبـيد, عن الـحسن.
فأما الذين قرءوا: {تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين, فإنهم وجهوا معنى ذلك إلـى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا فـي الوادي هاربـين. وذكروا أن ذلك فـي قراءة أبـيّ: «إذْ تُصْعِدون فـي الوادي».
6519ـ حدثنا أحمد بن يوسف, قال: حدثنا أبو عبـيد, قال: حدثنا حجاج, عن هارون.
قالوا: الهرب فـي مستوى الأرض, وبطون الأودية والشعاب, إصعاد لا صعود, قالوا وإنـما يكون الصعود علـى الـجبـال والسلالـيـم والدّرَج, لأن معنى الصعود: الارتقاء والارتفـاع علـى الشيء علوّا. قالوا: فأما الأخذ فـي مستوى الأرض الهبوط, فإنـما هو إصعاد, كما يقال: أصعدنا من مكة, إذا ابتدأت فـي السفر منها والـخروج, وأصعدنا من الكوفة إلـى خراسان, بـمعنى خرجنا منها سفرا إلـيها, وابتدأنا منها الـخروج إلـيها. قالوا: وإنـما جاء تأويـل أكثر أهل التأويـل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم فـي بطن الوادي. ذكر من قال ذلك:
6520ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ} ذاكم يوم أُحد أصعدوا فـي الوادي فرارا, ونبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم فـي أخراهم, قال: «إلـيّ عِبـادَ اللّهِ, إلـيّ عبـادَ اللّهِ».
وأما الـحسن فإنـي أراه ذهب فـي قراءته: «إذْ تَصْعَدُونَ» بفتـح التاء والعين إلـى أن القوم حين انهزموا عن الـمشركين صَعِدوا الـجبل. وقد قال ذلك عدد من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6521ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما شدّ الـمشركون علـى الـمسلـمين بـأُحد فهزموهم, دخـل بعضهم الـمدينة, وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة, فقاموا علـيها, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إلـيّ عِبَـادَ اللّهِ, إلـيّ عِبـادَ اللّهِ!» فذكر الله صعودهم علـى الـجبل, ثم ذكر دعاء نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم, فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ والرّسُولُ يَدْعُوكُم فِـي أُخْرَاكُمْ}.
6522ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: انـحازوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعلوا يصعدون فـي الـجبل, والرسول يدعوهم فـي أخراهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6523ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, قوله: {إذْ تُصْعدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَد} قال: صعدوا فـي أُحد فرارا.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين, بـمعنى السبق والهرب فـي مستوى الأرض, أو فـي الـمهابط, لإجماع الـحجة علـى أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففـي إجماعها علـى ذلك الدلـيـل الواضح علـى أن أولـى التأويـلـين بـالاَية تأويـل من قال: أصعدوا فـي الوادي, ومضوا فـيه, دون قول من قال: صعدوا علـى الـجبل.
وأما قوله: {وَلا تَلْوْونَ علـى أحَدٍ} فإنه يعنـي: ولا تعطفون علـى أحد منكم, ولا يـلتفت بعضكم إلـى بعض هربـا من عدوّكم مصعدين فـي الوادي. ويعنـي بقوله: {وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها الـمؤمنون به من أصحابه فـي أخراكم, يعنـي أنه يناديكم من خـلفكم: «إلـيّ عِبـادَ اللّهِ, إلـيّ عِبـادَ اللّه!». كما:
6524ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: إلـيّ عبـاد الله ارْجِعُوا, إلـيّ عِبَـاد اللّهِ ارْجِعُوا!.
6525ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: رأوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم: إلـيّ عبـاد الله!
6526ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, مثله.
6527ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أنّبهم الله بـالفرار عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم, وهو يدعوهم لا يعطفون علـيه لدعائه إياهم, فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـيِ أُخْرَاكُمْ}.
6528ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـي أُخْرَاكُمْ} هذا يوم أُحد حين انكشف الناس عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْمَلُونَ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} يعنـي: فجازاكم بفراركم عن نبـيكم, وفشلكم عن عدوّكم, ومعصيتكم ربكم غما بغمّ, يقول: غمّا علـى غمّ. وسمى العقوبة التـي عاقبهم بها من تسلـيط عدوّهم علـيهم حتـى نال منهم ما نال ثوابـا, إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولـم يرضه منهم, فدلّ بذلك جلّ ثناؤه أن كل عوض كالـمعوّض من شيء من العمل, خيرا كان أو شرّا, أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إلـيه, فإنه مستـحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة, ونظير ذلك قول الشاعر:
أخافُ زِيادا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُأدَاهِمَ سُودا أوْ مُـحَدْرَجةً سُمْرا
فجعل العطاء العقوبة, وذلك كقول القائل لاَخر سلف إلـيه منه مكروه: لأجازينك علـى فعلك, ولأثـيبنك ثوابك.
وأما قوله: {غَمّا بِغَمّ} فإنه قـيـل: غما بغمّ, معناه: غما علـى غم, كما قـيـل: {وَلأصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ} بـمعنى: ولأصلبنكم علـى جذوع النـخـل. وإنـما جاز ذلك, لأن معنى قول القائل: أثابك الله غما علـى غمّ: جزاك الله غما بعد غمّ تقدّمه, فكان كذلك معنى: فأثابكم غما بغمّ, لأن معناه: فجزاكم الله غما بعقب غمّ تقدّمه, وهو نظير قول القائل: نزلت ببنـي فلان, ونزلت علـى بنـي فلان, وضربته بـالسيف, وعلـى السيف.
واختلف أهل التأويـل فـي الغمّ الذي أثـيب القوم علـى الغمّ, وما كان غمهم الأوّل والثانـي, فقال بعضهم: أما الغمّ الأوّل, فكان ما تـحدّث به القوم أن نبـيهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل. وأما الغمّ الاَخر, فإنه كان ما نالهم من القتل والـجراح. ذكر من قال ذلك:
6529ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فأثابَكُمْ غَمّا بغَمّ} كانوا تـحدثوا يومئذٍ أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أصيب, وكان الغمّ الاَخر قتل أصحابهم والـجراحات التـي أصابتهم¹ قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذٍ سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون رجلاً من الأنصار, وأربعة من الـمهاجرين. وقوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} يقول: ما فـاتكم من غنـيـمة القوم, ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من القتل والـجراحات.
6530ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال: فرّة بعد فرّة, الأولـى: حين سمعوا الصوت أن مـحمدا قد قُتِل¹ والثانـية: حين رجع الكفـار فضربوهم مدبرين, حتـى قتلوا منهم سبعين رجلاً, ثم انـحازوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فجعلوا يصعدون فـي الـجبل, والرسول يدعوهم فـي أخراهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, نـحوه.
وقال آخرون: بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم, وجرح من جُرح منهم¹ والغمّ الثانـي: كان من سماعهم صوت القائل: قُتل مـحمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
6531ـ حدثنا الـحسين بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {غَمّا بِغَمّ} قال: الغمّ الأول: الـجراح والقتل¹ والغمّ الثانـي: حين سمعوا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنـيـمة, وذلك حين يقول: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.
6532ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمْ} قال: الغمّ الأوّل: الـجراح والقتل¹ والغمّ الاَخر: حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل, وما كانوا يرجون من الغنـيـمة, وذلك حين يقول الله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.
وقال آخرون: بل الغمّ الأوّل ما كان فـاتهم من الفتـح والغنـيـمة¹ والثانـي إشراف أبـي سفـيان علـيهم فـي الشعب. وذلك أن أبـا سفـيان فـيـما زعم بعض أهل السير لـما أصاب من الـمسلـمين ما أصاب, وهرب الـمسلـمون, جاء حتـى أشرف علـيهم وفـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي شعب أُحد الذي كانوا ولوا إلـيه عند الهزيـمة, فخافوا أن يصطلـمهم أبو سفـيان وأصحابه. ذكر الـخبر بذلك:
6533ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يدعو الناس حتـى انتهى إلـى أصحاب الصخرة, فلـما رأوه, وضع رجل سهما فـي قوسه, فأراد أن يرميه, فقال: «أنا رَسُولُ اللّهِ» ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا, وفرح رسول الله حين رأى أن فـي أصحابه من يـمتنع. فلـما اجتـمعوا وفـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الـحزن, فأقبلوا يذكرون الفتـح وما فـاتهم منه, ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. فأقبل أبو سفـيان حتـى أشرف علـيهم¹ فلـما نظروا إلـيه, نسوا ذلك الذي كانوا علـيه, وهمّهم أبو سفـيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا, اللّهُمّ إنْ تُقْتَلْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدُ» ثم ندب أصحابه فرموهم بـالـحجارة حتـى أنزلوهم, فقال أبو سفـيان يومئذٍ: اعل هبل! حنظلة بحنظلة, ويوم بـيوم بدر. وقتلوا يومئذٍ حنظلة بن الراهب وكان جنبـا فغسلته الـملائكة, وكان حنظلة بن أبـي سفـيان قُتل يوم بدر¹ قال أبو سفـيان: لنا العزّى, ولا عزّى لكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قُلِ اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلـى لَكُمْ». فقال أبو سفـيان: فـيكم مـحمد؟ قالوا: نعم, قال: أما إنها قد كانت فـيكم مثلة, ما أمرت بها, ولا نهيت عنها, ولا سرّتنـي, ولا ساءتنـي. فذكر الله إشراف أبـي سفـيان علـيهم, فقال: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} الغمّ الأوّل: ما فـاتهم من الغنـيـمة والفتـح¹ والغمّ الثانـي: إشراف العدوّ علـيهم, لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة, ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون, فشغلهم أبو سفـيان.
6534ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي ابن شهاب الزهري, ومـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ, وغيرهم من علـمائنا فـيـما ذكروا من حديث أُحد, قالوا: كان الـمسلـمون فـي ذلك الـيوم لـما أصابهم فـيه من شدّة البلاء أثلاثا: ثلث قتـيـل, وثلث جريح, وثلث منهزم, وقد بلغته الـحرب حتـى ما يدري ما يصنع, وحتـى خـلص العدو إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثّ بـالـحجارة حتـى وقع لشقه, وأصيبت ربـاعيته, وشُجّ فـي وجهه, وكلـمت شفته, وكان الذي أصابه عتبة بن أبـي وقاص. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتـى قتل, وكان الذي أصابه ابن قميئة اللـيثـي, وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرجع إلـى قريش فقال: قتلت مـحمدا.
6535ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: فكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيـمة, وقول الناس: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بنـي سلـمة, قال: عرفت عينـيه تزهران تـحت الـمغفر, فناديت بأعلـى صوتـي: يا معشر الـمسلـمين أبشروا, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إلـيّ رسول الله أن أنصت. فلـما عرف الـمسلـمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض نـحو الشعب معه علـيّ بن أبـي طالب وأبو بكر بن أبـي قحافة وعمر بن الـخطاب, وطلـحة بن عبـيد الله, والزبـير بن العوّام, والـحارث بن الصامت فـي رهط من الـمسلـمين. قال: فبـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه, إذ علت عالـية من قريش الـجبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللّهُمّ إنّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أن يَعْلُونا» فقاتل عمر بن الـخطاب ورهط معه من الـمهاجرين, حتـى أهبطوهم عن الـجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى صخرة من الـجبل لـيعلوها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدّن, فظاهر بـين درعين, فلـما ذهب لـينهض, فلـم يستطع, جلس تـحته طلـحة بن عبـيد الله, فنهض حتـى استوى علـيها ثم إن أبـا سفـيان حين أراد الانصراف, أشرف علـى الـجبل, ثم صرخ بأعلـى صوته أنعمت فعالِ, إن الـحرب سجال, يوم بـيوم بدر, أعل هبل! أي أظْهِرْ دينك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قُمْ فأجِبْهُ فَقُلْ: اللّهُ أعْلَـى وأجَلّ, لا سَوَاءٌ, قَتْلانا فـي الـجَنّةِ, وقَتْلاَكُمْ فِـي النّارِ» فلـما أجاب عمر رضي الله عنه أبـا سفـيان, قال له أبو سفـيان: هلـمّ إلـيّ يا عمر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائْتِهِ فـانْظُرْ ما شأْنُهُ!» فجاءه فقال له أبو سفـيان: أنشدك الله يا عمر, أقتلنا مـحمدا؟ فقال عمر: اللهمّ لا, وإنه لـيسمع كلامك الاَن. فقال: أنا أصدق عندي من ابن قميئة, وأشار لقول ابن قميئة لهم: إنـي قتلت مـحمدا. ثم نادى أبو سفـيان, فقال: إنه قد كان فـي قتلاكم مثله, والله ما رضيت, ولا سخطت, ولا نهيت, ولا أمرت.
6536ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}: أي كربا بعد كرب قتلُ من قُتل من إخوانكم, وعلوّ عدوّكم علـيكم, وما وقع فـي أنفسكم من قول من قال: قتل نبـيكم, فكان ذلك مـما تتابع علـيكم غما بغم, لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من ظهوركم علـى عدوّكم بعد أن رأيتـموه بأعينكم, ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم¹ حتـى فرّجت بذلك الكرب عنكم, والله خبـير بـما تعلـمون. وكان الذي فرّج عنهم ما كانوا فـيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم أن الله عزّ وجلّ ردّ عنهم كذبة الشيطان بقتل نبـيهم, فلـما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا بـين أظهرهم, هان علـيهم ما فـاتهم من القوم, فهان الظهور علـيهم والـمصيبة التـي أصابتهم فـي إخوانهم, حين صرف الله القتل عن نبـيهم صلى الله عليه وسلم.
6537ـ حدثنا قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال ابن جريج: قال مـجاهد: أصاب الناس حزن وغمّ علـى ما أصابهم فـي أصحابهم الذين قتلوا, فلـما تولـجوا فـي الشعب يتصافون وقـف أبو سفـيان وأصحابه ببـاب الشعب, فظنّ الـمؤمنون أنهم سوف يـميـلون علـيهم فـيقتلونهم أيضا, فأصابهم حزن فـي ذلك أيضا أنساهم حزنهم فـي أصحابهم, فذلك قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} قال ابن جريج: قوله: {علـى ما فـاتَكُمْ} يقول: علـى ما فـاتكم من غنائم القوم {ولا مَا أصَابَكُمُ} فـي أنفسكم.
6538ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن عبـيد بن عمير, قال: جاء أبو سفـيان بن حرب, ومن معه, حتـى وقـف بـالشعب, ثم نادى: أفـي القوم ابن أبـي كبشة؟ فسكتوا, فقال أبو سفـيان: قتل وربّ الكعبة, ثم قال: أفـي القوم ابن أبـي قحافة؟ فسكتوا, فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال: أفـي القوم عمر بن الـخطاب؟ فسكتوا, فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال أبو سفـيان: اعل هبل, يوم بـيوم بدر, وحنظلة بحنظلة, وأنتـم واجدون فـي القوم مُثلاً لـم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا, ولـم نكرهه حين رأيناه! فقال النبـي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الـخطاب: «قُمْ فَنادِ فَقُلْ: اللّهُ أعْلَـى وأجَلّ, نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أبو بكر, وها أنا ذا¹ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الـجنة, أصحاب الـجنة هم الفـائزون, قتلانا فـي الـجنة, وقتلاكم فـي النار».
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
6539ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ} فرجعوا فقالوا: والله لنأتـينهم, ثم لنفتلنهم, قد خرجوا منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً فإنّـمَا أصَابَكُمْ الّذي أصَابَكُمْ مِنْ أجْلِ أنّكُمْ عَصَيْتُـمُونِـي». فبـينـما هم كذلك, إذ أتاهم القوم, قد أنسوا, وقد اخترطوا سيوفهم, فكان غمّ الهزيـمة وغمهم حين أتوهم¹ {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} من القتل {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الـجراحة {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُو}... الاَية, وهو يوم أُحد.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: معنى قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} أيها الـمؤمنون بحرمان الله إياكم غنـيـمة الـمشركين, والظفر بهم, والنصر علـيهم, وما أصابكم من القتل والـجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم فـي كل ذلك ما تـحبون بـمعصيتكم ربكم, وخلافكم أمر نبـيكم صلى الله عليه وسلم, غمّ ظنكم أن نبـيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل, وميـل العدوّ علـيكم بعد فلولكم منهم.
والذي يدلّ علـى أن ذلك أولـى بتأويـل الاَية مـما خالفه, قوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} والفـائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إلـيه من غيرهم, إما من ظهور علـيهم بغلبهم, وإما من غنـيـمة يحتازونها, وأن قوله: {وَلا ما أصَابَكُمْ} هو ما أصابهم إما فـي أبدانهم, وإما فـي إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الغمّ الثانـي هو معنى غير هذين, لأن الله عزّ وجلّ أخبر عبـاده الـمؤمنـين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه ثابهم غما بغمّ, لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشىء عما فـاتهم من غيرهم, ولا ما أصابهم قبل ذلك فـي أنفسهم, وهو الغمّ الأول علـى ما قد بـيناه قبل.
وأما قوله: لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} فإن تأويـله علـى ما قد بـينت من أنه لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم فلـم تدركوه مـما كنتـم ترجون إدراكه من عدوّكم بـالظفر علـيهم والظهور وحيازة غنائمهم, ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيه قبل علـى السبـيـل التـي اختلفوا فـيه, كما:
6540ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} قال: علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة التـي كنتـم ترجون, {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الهزيـمة.
وأما قوله: {وَاللّهُ خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْلَـمُونَ} فإنه يعنـي جلّ ثناؤه: والله بـالذي تعلـمون ـ أيها الـمؤمنون من إصعادكم فـي الوادي هربا من عدوكم, وانهزامكم منهم, وتنرككم نبـيكم وهو يدعوكم فـي أخراكم, وحزنكم علـى ما فـاتكم من عدوّكم, وما أصابكم فـي أنفسهم ـ ذو خبرة وعلـم, وهو مـحص ذلك كله علـيكم حتـى يجازيكم به الـمـحسن منكم بإحسانه, والـمسيء بإساءته, أو يعفو عنه
الصفحة رقم 69 من المصحف تحميل و استماع mp3