تفسير الطبري تفسير الصفحة 72 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 72
073
071
 الآية : 166-167
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاّتّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذي أصابكم يوم التقـى الـجمعان, وهو يوم أُحد حين التقـى جمع الـمسلـمين والـمشركين. ويعنـي بـالذي أصابهم: ما نال من القتل من قُتِل منهم, ومن الـجراح من جُرح منهم {فبإذْنِ اللّه} يقول: فهو بإذن الله كان, يعنـي: بقضائه وقدره فـيكم. وأجاب «ما» بـالفـاء, لأن «ما» حرف جزاء, وقد بـينت نظير ذلك فـيـما مضى قبل: {وَلِـيَعْلَـمَ الـمُؤمِنِـينَ ولـيعلـمَ الّذَينَ نافَقُو} بـمعنى: ولـيعلـم الله الـمؤمنـين, ولـيعلـم الذين نافقوا, أصابكم ما أصابكم يوم التقـى الـجمعان بـأُحد, لـيـميز أهل الإيـمان بـالله ورسوله الـمؤمنـين منكم من الـمنافقـين فـيعرفونهم, لا يخفـى علـيهم أمر الفريقـين. وقد بـينا تأويـل قوله: {وَلِـيَعْلَـمَ الـمُؤمِنِـينَ} فـيـما مضى, وما وجه ذلك, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال ابن إسحاق.
6643ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَما أصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ فَبإذْنِ اللّهِ وَلِـيَعْلَـمَ الـمؤمِنِـينَ}: أي ما أصابكم حين التقـيتـم أنتـم وعدوّكم فبإذنـي, كان ذلك حين فعلتـم ما فعلتـم بعد أن جاءكم نصري وصدقتـم وعدي, لـيـميز بـين الـمنافقـين والـمؤمنـين, {وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ نَافَقُو} منكم, أي لـيظهرُوا ما فـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقِـيـلَ لَهمْ تَعَالَوْا قاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أو ادْفَعوا قالوا لَوْ نَعْلَـمْ قِتالاً لاتّبَعنْاكّمْ هُمْ للْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنْهمْ للإيِـمَانِ يَقُولُونَ بأفْوَاهِهمْ ما لَـيْسَ فِـي قلُوبِهِمْ وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا يَكْتُـمُونَ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: عبد الله بن أبـيّ ابن سلول الـمنافق وأصحابَهُ الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه, حين سار نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمشركين بـأُحد لقتالهم, فقال لهم الـمسلـمون: تعالوا قاتلوا الـمشركين معنا, أو ادفعوا بتكثـيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلـم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إلـيهم, ولكنا معكم علـيهم, ولكن لا نرى أنه يكون بـينكم وبـين القوم قتال. فأبدوا من نفـاق أنفسهم ما كانوا يكتـمونه, وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكُمْ} غير ما كانوا يكتـمونه ويخفونه, من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيـمان به. كما:
6644ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن شهاب الزهري, ومـحمد بن يحيـى بن حبـان, وعاصم بن عمر بن قتادة, والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا كلهم, قد حدّث, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنـي: حين خرج إلـى أُحد ـ فـي ألف رجل من أصحابه, حتـى إذا كانوا بـالشوط بـين أُحد والـمدينة انـخزل عنهم عبد الله بن أبـيّ ابن سلول بثلث الناس, فقال أطاعهم فخرج وعصانـي, والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس¹ فرجع بـمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفـاق وأهل الريب, واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بنـي سلـمة, يقول: يا قوم أذكركم الله أن تـخذلوا نبـيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم, فقالوا: لو نعلـم أنكم تقاتلون ما أسلـمناكم, ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلـما استعصوا علـيه, وأبوا إلا الانصراف عنهم, قال: أبعدكم الله أعداء الله, فسيغنـي الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6645ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَقِـيـلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أوِ ادْفَعُو} يعنـي: عبد الله بن أبـيّ ابن سلول وأصحابه, الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حين سار إلـى عدوّه من الـمشركين بـأُحد. وقوله: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكُمْ} يقول: لو نعلـم أنكم تقاتلون لسرنا معكم, ولدفعنا عنكم, ولكن لا نظنّ أن يكون قتال, فظهر منهم ما كانوا يخفون فـي أنفسهم. يقول الله عزّ وجلّ: {هُمْ للْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْربُ مِنْهمْ للإيِـمَانِ} ولـيس فـي قلوبهم {وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا يَكْتُـمُونَ}: أي يخفون.
6646ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنـي: يوم أُحد ـ فـي ألف رجل, وقد وعدهم الفتـح إن صبروا¹ فلـما خرجوا رجع عبد الله بن أبـيّ ابن سلول فـي ثلثمائة, فتبعهم أبو جابر السلـمي يدعوهم, فلـما غلبوه وقالوا له: ما نعلـم قتالاً, ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا.. قال: فذكر الله أصحاب عبد الله بن أبـيّ ابن سلول, وقول عبد الله بن جابر بن أبـي عبد الله الأنصاري حين دعاهم, فقالوا: ما نعلـم قتالاً, ولئن أطعتـمونا لترجعنّ معنا, فقال: {الّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطَاعُوَنا ما قُتِلُوا قُلْ فـادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الـمَوْتَ}.
6647ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: {قالُوا لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكمْ} قال: نزلت فـي عبد الله بن أبـيّ ابن سلول. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتال} قال: لو نعلـم أنا واجدون معكم قتالاً, لو نعلـم مكان قتال لاتبعناكم.
واختلفوا فـي تأويـل قوله {أوِ ادْفَعُو} فقال بعضهم: معناه: أو كثّروا, فإنكم إذا كثرتـم دفعتـم القوم. ذكر من قال ذلك:
6648ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {أوِ ادْفَعُو} يقول: أو كثروا.
6649ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {أوِ ادْفَعُو} قال: بكثرتكم العدوّ وإن لـم يكن قتال.
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابطوا إن لـم تقاتلوا. ذكر من قال ذلك:
6650ـ حدثنا إسماعيـل بن حفص الاَملـي وعلـيّ بن سهل الرملـي, قالا: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: حدثنا عتبة بن ضمرة, قال: سمعت أبـا عون الأنصاريّ فـي قوله: {قاتِلوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أوِ ادْفَعُو} قال: رابطوا.
وأما قوله: {وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا يَكْتُـمونَ} فإنه يعنـي به: والله أعلـم من هؤلاء الـمنافقـين الذين يقولون من العداوة والشنآن, وأنهم لو علـموا قتالاً ما تبعوهم, ولا دافعوا عنهم, وهو تعالـى ذكره مـحيط بـما يخفونه من ذلك, مطلع علـيه, ومـحصيه علـيهم حتـى يهتك أستارهم فـي عاجل الدنـيا, فـيفضحهم به, ويصلـيهم به الدرك الأسفل من النار فـي الاَخرة.
الآية : 168
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولـيعلـم الله الذين نافقوا, الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا. فموضع «الذين» نصب علـى الإبدال من «الذين نافقوا», وقد يجوز أن يكون رفعا علـى الترجمة عما فـي قوله: {يَكْتُـمُوْنَ} من ذكر «الذين نافقوا» فمعنى الاَية: ولـيعلـم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع الـمسلـمين فـي حربهم الـمشركين بـأُحد يوم أُحد, فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم, {وقَعَدُو} يعنـي: وقعد هؤلاء الـمنافقون القائلون ما قالوا مـما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم من قـيـلهم عن الـجهاد مع إخوانهم وعشائرهم فـي سبـيـل الله: {لو أَطاعُونَ} يعنـي: لو أطاعنا من قتل بـأُحد من إخواننا وعشائرنا {ما قُتِلُو} يعنـي: ما قتلوا هنالك. قال الله عزّ وجلّ لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء القائلـين هذه الـمقالة من الـمنافقـين: فـادرءوا, يعنـي: فـادفعوا من قول القائل: درأت عن فلان القتل, بـمعنى: دفعت عنه, أدرؤه درءا, ومنه قول الشاعر:
تَقولُ وَقدْ دَرأْتُ لهَا وَضِيِنـيأهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِيِنـي
يقول تعالـى ذكره: قل لهم: فـادفعوا إن كنتـم أيها الـمنافقون صادقـين فـي قـيـلكم: لو أطاعنا إخواننا فـي ترك الـجهاد فـي سبـيـل الله مع مـحمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبـا سفـيان ومن معه من قريش, ما قتلوا هنالك بـالسيف, ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتـخـلفهم عن مـحمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه¹ الـموت, فإنكم قد قعدتـم عن حربهم, وقد تـخـلفتـم عن جهادهم, وأنتـم لا مـحالة ميتون. كما:
6651ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ} الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم: {لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُو}... الاَية: أي أنه لا بد من الـموت, فإن استطعتـم أن تدفعوه عن أنفسكم فـافعلوا, وذلك أنهم إنـما نافقوا وتركوا الـجهاد فـي سبـيـل الله, حرصا علـى البقاء فـي الدنـيا وفرارا من الـموت.
ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول هم الذين قال الله فـيهم: {وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ نافَقُو}.
6652ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُو}... الاَية, ذكر لنا أنها نزلت فـي عدوّ الله عبد الله بن أبـيّ.
6653ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدّيّ, قال: هم عبد الله بن أبـيّ وأصحابه.
6654ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: هو عبد الله بن أبـيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: {لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُو}... الاَية. قال ابن جريج عن مـجاهد, قال: قال جابر بن عبد الله: هو عبد الله بن أبـيّ ابن سلول.
6655ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُو}... الاَية, قال: نزلت فـي عدوّ الله عبد الله بن أبـيّ.
الآية : 169-170
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره {وَلا تَـحْسَبنّ}: ولا تظننّ. كما:
6656ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلا تَـحْسَبنّ}: ولا تظننّ.
وقوله: {الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} يعنـي: الذين قُتِلوا بـأُحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {أموات} يقول: ولا تـحسبنهم يا مـحمد أمواتا, لا يحسون شيئا, ولا يـلتذّون, ولا يتنعمون, فإنهم أحياء عندي, متنعمون فـي رزقـي, فرحون مسرورون بـما آتـيتهم من كرامتـي وفضلـي, وحبوتهم به من جزيـل ثوابـي وعطائي. كما:
6657ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش, عن ابن إسحاق, عن إسماعيـل بن أمية, عن أبـي الزبـير الـمكي, عن ابن عبـاس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـمّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِـأُحُدٍ, جَعَلَ اللّهُ أرْوَاحَهُمْ فِـي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ, تَرِدُ أنْهارَ الـجَنّةِ, وَتأكُلُ مِنِ ثِمَارِها, وَتأْوِي إلـى قَنادِيـلَ مِنْ ذَهَبٍ فِـي ظِلّ العَرْشِ¹ فَلَـمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمأْكَلِهِمْ وَحُسْنِ مَقِـيِـلهِمْ, قالوا: يا لَـيْتَ إخْوَانَنا يَعْلَـمونَ ما صَنَعَ اللّهُ بِنا! لِئَلاّ يَزْهَدُوا فِـي الـجِهادِ وَلا يَنْكَلوا عَنِ الـحَرْبِ, فَقالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: أنا أُبَلّغُهمْ عَنْكمْ» فأنزل الله عز وجل علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الاَيات.
6658ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير بن عبد الـحميد, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن الأعمش, عن أبـي الضحى, عن مسروق بن الأجدع, قال: سألنا عبد الله بن مسعود, عن هذه الاَيات: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ}... الاَية, قال: أما إنا قد سألنا عنها, فقـيـل لنا: «إنّه لـما أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بـأُحُدٍ, جَعَلَ الله أرْوَاحَهُمْ فـي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنْهارَ الـجَنّةِ وَتأْكُلُ مِنْ ثمارِهَا وتأوي إلـى قَنَادِيـلَ مِنْ ذَهَبٍ فـي ظِلّ العَرْشِ, فـيطّلع الله إلـيهم اطّلاعَةً, فـيقول: يا عبـادي ما تَشْتَهُونَ فَـأَزِيُدكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الـجَنّةَ, نَأْكُلُ منها حيث شِئْنَا ـ ثلاث مرات ـ ثم يَطّلِعُ فَـيَقُولُ: يا عِبَـادي ما تَشْتَهُونَ فأزيدكم؟ فـيقولون: رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الـجَنّةَ, نَأْكُلُ منها حَيْثُ شِئْنا, إلا أنا نَـخْتَارُ أن تَرُدّ أرْوَاحَنا فـي أجْسَادِنا, ثم تَرُدّنا إلـى الدّنْـيا, فنُقَاتل فـيك حتـى نُقْتَلَ فـيك مرّة أخْرَى».
حدثنا الـحسن بن يحيـى العبدي, قال: حدثنا وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن أبـي الضحى, عن مسروق, قال: سألنا عبد الله, عن هذه الاَية, ثم ذكر نـحوه, وزاد فـيه: «أنّـي قَدْ قَضَيْتُ أنْ لا تُرْجَعُوا».
6659ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن سلـيـمان, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, قال: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء ـ ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحد ـ قال: أرواح الشهداء عند الله فـي أجواف طير خضر, فـي قناديـل تـحت العرش, تسرح فـي الـجنة حيث شاءت, ثم ترجع إلـى قناديـلها, فـيطلع إلـيها ربها, فـيقول: ماذا تريدون؟ فـيقولون: نريد أن نرجع إلـى الدنـيا فنقتل مرة أخرى.
6660ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, وعبدة بن سلـيـمان, عن مـحمد بن إسحاق, عن الـحرث بن فضيـل, عن مـحمود بن لبـيد, عن ابن عبـاس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشّهَداءُ علـى بـاِرقٍ: نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ» وقال عبدة: «فِـي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ, يخْرُجُ عَلَـيْهِمْ رِزْقَهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا».
حدثنا أبو كريب, وأنبأنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي الـحرث بن فضيـل, عن مـحمود بن لبـيد, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله, إلا أنه قال: «فـي قُبّةٍ خَضْرَاء» وقال: «يَخْرُجُ عَلَـيهِم فِـيها».
حدثنا ابن وكيع, وأنبأنا ابن إدريس, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي الـحرث بن فضيـل, عن مـحمود بن لبـيد, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال مـحمد بن إسحاق: حدثنـي الـحرث بن الفضيـل الأنصاريّ عن مـحمود بن لبـيد الأنصاريّ, عن ابن عبـاس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشّهَداءُ علـى بـارِقٍ نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُج عَلَـيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعشِيّا».
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي أيضا, يعنـي: إسماعيـل بن عياش, عن ابن إسحاق, عن الـحرث بن الفضيـل, عن مـحمود بن لبـيد, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
6661ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال مـحمد بن إسحاق: وحدثنـي بعض أصحابـي, عن عبد الله بن مـحمد بن عقـيـل بن أبـي طالب, قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُبَشّرُكَ يا جابِرُ؟» قال: قلت: بلـى يا رسول الله! قال: «إنّ أبـاكَ حَيْثُ أُصيب بـأُحُدٍ أحيْاهُ اللّهُ, ثُمّ قالَ لَهُ: ما تُـحِبّ يا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو أنْ أفْعَلَ بِكَ؟ قالَ: يا رَبّ أُحِبّ أنْ تَرُدّنـي إلـى الدّنْـيا فَـأُقاتِلَ فِـيكَ فـأُقْتَلُ مَرّةً أُخْرَى».
6662ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: يا لـيتنا نعلـم ما فعل إخواننا الذين قُتِلوا يوم أُحد! فأنزل الله تبـارك وتعالـى فـي ذلك القرآن: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُونَ}. كنا نـحدّث أن أرواح الشهداء تعارف فـي طير بـيض تأكل من ثمار الـجنة, وأن مساكنهم السدرة.
6663ـ حُدثت عن عمار, وأنبأنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بنـحوه, إلا أنه قال: تعارف فـي طير خضر وبـيض وزاد فـيه أيضا: وذكر لنا عن بعضهم فـي قوله: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ} قال: هم قتلـى بدر وأُحد.
6664ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـحمد بن قـيس بن مخرمة قال: قالوا: يا ربّ! ألا رسول لنا يخبر النبـيّ صلى الله عليه وسلم عنا بـما أعطيتنا؟ فقال الله تبـارك وتعالـى: أنا رسولكم, فأمر جبريـل علـيه السلام أن يأتـي بهذه الاَية: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ}... الاَيتـين.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, قال: سألنا عبد الله عن هذه الاَيات: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون} قال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر, لها قناديـل معلقة بـالعرش, تسرح فـي الـجنة حيث شاءت, قال: فـاطّلع إلـيهم ربك أطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا ألسنا نسرح فـي الـجنة فـي أيها شئنا ثم اطّلع علـيهم الثالثة, فقال: هل تستهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تعيد أرواحنا فـي أجسادنا, فنقاتل فـي سبـيـلك مرّة أخرى! فسكت عنهم.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عطاء بن السائب, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله: أنهم قالوا فـي الثالثة حين قال لهم: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تقرىء نبـينا عنا السلام, وتـخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا!
6665ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: قال الله تبـارك وتعالـى لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم يرغّب الـمؤمنـين فـي ثواب الـجنة ويهوّن علـيهم القتل: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُون}: أي قد أحيـيتهم, فهم عندي يرزقون فـي روح الـجنة وفضلها, مسرورين بـما آتاهم الله من ثوابه علـى جهادهم عنه.
4456ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك, قال: كان الـمسلـمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر, يبلون فـيه خيرا, ويرزقون فـيه الشهادة, ويرزقون فـيه الـجنة, والـحياة فـي الرزق. فلقوا الـمشركين يوم أُحد, فـاتـخذ الله منهم شهداء, وهم الذين ذكرهم الله فقال: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوات}... الاَية.
6666ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: ذكر الشهداء, فقال: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ} إلـى قوله: {ولا هُمْ يْحزنُون}. زعم أن أرواح الشهداء فـي أجواف طير خضر فـي قناديـل من ذهب معلقة بـالعرش, فهي ترعى بكرة وعشية فـي الـجنة, تبـيت فـي القناديـل, فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فـيقولون: ربنا نـحن فـيـما اشتهت أنفسنا! فـيسألهم ربهم أيضا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فـيقولون: نـحن فـيـما اشتهت أنفسنا! فـيسألون الثالثة فـيقولون ما قالوا: ولكنا نـحبّ أن تردّ أرواحنا فـي أجسادنا! لـما يرون من فضل الثواب.
6667ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا عبـاد, قال: حدثنا إبراهيـم بن معمر, عن الـحسن, قال: ما زال ابن آدم يتـحمّد حتـى صار حيّا ما يـموت ثم تلا هذه الاَية: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون}.
6668ـ حدثنا مـحمد بن مرزوق, قال: حدثنا عمر بن يونس, قال: حدثنا إسحاق بن أبـي طلـحة, قال: ثنـي أنس بن مالك فـي أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم إلـى أهل بئر معونة, قال: لا أدري أربعين, أو سبعين, قال: وعلـى ذلك الـماء عامر بن الطفـيـل الـجعفري, فخرج أولئك النفر من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم حتـى أتوا غارا مشرفـا علـى الـماء قعدوا فـيه, ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الـماء؟ فقال ـ أراه أبو ملـحان الأنصاري ـ: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فخرج حتـى أتـى حيا منهم, فـاحتبى أمام البـيوت, ثم قال: يا أهل بئر معونة, إنـي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـيكم, إنـي أشهد أن لا إله إلا الله, وأن مـحمدا عبده ورسوله, فآمنوا بـالله ورسوله! فخرج إلـيه رجل من كِسْر البـيت برمـح, فضرب به فـي جنبه حتـى خرج من الشقّ الاَخر, فقال: الله أكبر, فزت وربّ الكعبة! فـاتبعوا أثره حتـى أتوا أصحابه, فقتلهم أجمعين عامر بن الطفـيـل. قال: قال إسحاق: حدثنـي أنس بن مالك: أن الله تعالـى أنزل فـيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا, وأنزل الله: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون}.
6669ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: لـما أصيب الذين أصيبوا يوم أُحد من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, لقوا ربهم, فأكرمهم, فأصابوا الـحياة والشهادة والرزق الطيب, قالوا: يا لـيت بـيننا وبـين إخواننا من يبلغهم أنا لقـينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! فقال الله تبـارك وتعالـى: أنا رسولكم إلـى نبـيكم وإخوانكم. فأنزل الله تبـارك وتعالـى علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون} إلـى قوله: {ولا هُمْ يحْزنُون}, فهذا النبأ الذي بلغ الله ورسوله والـمؤمنـين ما قال الشهداء.
وفـي نصب قوله: {فَرِحِين} وجهان: أحدهما: أن يكون منصوبـا علـى الـخروج من قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} والاَخر من قوله: {يُرْزَقُون}. ولو كان رفعا بـالردّ علـى قوله: «بل أحياء فرحون» كان جائزا.
القول فـي تأويـل قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ أنْ لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ويفرحون بـمن لـم يـلـحق بهم من إخوانهم الذين فـارقوهم وهم أحياء فـي الدنـيا علـى مناهجهمّ, من جهاد أعداء الله مع رسوله, لعلـمهم بأنهم إن استشهدوا فلـحقوا بهم, صاروا من كرامة الله إلـى مثل الذي صاروا هم إلـيه, فهم لذلك مستبشرون بهم, فرحون أنهم إذا صاروا كذلك, {لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعنـي بذلك: لا خوف علـيهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله, وأيقنوا برضاه عنهم, فقد أمنوا الـخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك فـي الدنـيا, ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم من أسبـاب الدنـيا, ونكد عيشها, للـخَفْض الذي صاروا إلـيه والدعة والزّلفة, ونصب أن لا بـمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف علـيهم ولا هم يحزنون.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6670ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}... الاَية, يقول: لإخوانهم الذين فـارقوهم علـى دينهم وأمرهم لـما قدموا علـيه من الكرامة والفضل والنعيـم الذي أعطاهم.
6671ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}... الاَية, قال يقول: إخواننا يقتلون كما قتلنا, يـلـحقون فـيصيبون من كرامة الله تعالـى ما أصبنا.
6672ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: ذكر لنا عن بعضهم فـي قوله: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: هم قتلـى بدر وأُحد, زعموا أن الله تبـارك وتعالـى لـما قبض أرواحهم, وأدخـلهم الـجنة, جعلت أرواحهم فـي طير خضر ترعى فـي الـجنة, وتأوي إلـى قناديـل من ذهب تـحت العرش. فلـما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة, قالوا: لـيت إخواننا الذين بعدنا يعلـمون ما نـحن فـيه! فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلـى ما نـحن فـيه! فقال الله تعالـى: إنـي منزل علـى نبـيكم ومخبر إخوانكم بـالذي أنتـم فـيه! ففرحوا به واستبشروا, وقالوا: يخبر الله نبـيكم وإخوانكم بـالذي أنتـم فـيه, فإذا شهدوا قتالاً أتوكم. قال: فذلك قوله: {فَرِحِينَ بـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ}... إلـى قول: {أجْرَ الـمُؤْمِنِـينَ}.
6673ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}: أي ويُسَرّون بلـحوق من لـحق بهم من إخوانهم علـى ما مضوا علـيه من جهادهم, لـيشركوهم فـيـما هم فـيه من ثواب الله الذي أعطاهم, وأذهب الله عنهم الـخوف والـحزن.
6674ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ} قال: هم إخوانهم من الشهداء مـمن يستشهد من بعدهم, {لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حتـى بلغ: {وأنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ الـمُؤْمِنِـينَ}.
6675ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أما {يَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}, فإن الشهيد يؤتـى بكتاب فـيه من يقدم علـيه من إخوانه وأهله, فـيقال: يقدم علـيك فلان يوم كذا وكذا, ويقدم علـيك فلان يوم كذا وكذا! فـيستبشر حين يقدم علـيه, كما يستبشر أهل الغائب بقدومه فـي ما الدنـيا.
الآية : 171
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
يقول جل ثناؤه: {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون, {بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ} يعنـي بـما حبـاهم به تعالـى ذكره من عظيـم كرامته عند ورودهم علـيه, {وفَضْلٍ} يقول: وبـما أسبغ علـيهم من الفضل وجزيـل الثواب علـى ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه. {وأنّ الله لا يُضِيع أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}. كما:
6676ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن أبـي إسحاق: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ وفَضْلٍ}... الاَية, لـما عاينوا من وفـاء الـموعود وعظيْـم الثواب.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: {وأنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}, فقرأ ذلك بعضهم بفتـح الألف من «أنّ» بـمعنى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل, وبأن الله لا يضيع أجر الـمؤمنـين. وبكسر الألف علـى الاستئناف¹ واحتـج من قرأ ذلك كذلك بأنها فـي قراءة عبد الله: «وفَضْلٍ واللّهُ لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ» قالوا: فذلك دلـيـل علـى أن قوله: «وإِنّ الله» مستأنف غير متصل بـالأول.
ومعنى قوله: {لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}: لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بـما جاءه من عند الله.
وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ ذلك: {وأنّ الله} بفتـح الألف, لإجماع الـحجة من القراء علـى ذلك.
الآية : 172
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر الـمؤمنـين, الـمستـجيبـين لله والرسول, من بعد ما أصابهم الـجراح والكلوم¹ وإنـما عنى الله تعالـى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى حمراء الأسد فـي طلب العدو أبـي سفـيان, ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد¹ وذلك أن أبـا سفـيان لـما انصرف عن أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي أثره حتـى بلغ حمراء الأسد وهي علـى ثمانـية أميال من الـمدينة, لـيري الناس أن به وأصحابه قوة علـى عدوهم. كالذي:
6677ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي حسان بن عبد الله, عن عكرمة, قال: كان يوم أُحُد السبت للنصف من شوال¹ فلـما كان الغد من يوم أُحد, يوم الأحد لست عشرة لـيـلة مضت من شوال أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الناس بطلب العدو, وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بـالأمس, فكلـمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام, فقال: يا رسول الله إن أبـي كان خـلفنـي علـى أخوات لـي سبع وقال لـي يا بنـي إنه لا ينبغي لـي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فـيهن, ولست بـالذي أوثرك بـالـجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى نفسي, فتـخـلف علـى أخواتك! فتـخـلفت علـيهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج معه. وإنـما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبـا للعدو, لـيبلغهم أنه خرج فـي طلبهم لـيظنوا به قوة, وأن الذي أصابهم لـم يوههم عن عدوهم.
6678ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: فحدثنـي عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبـي السائب مولـى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنـي عبد الأشهل كان شهد أُحُدا, قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحدا أنا وأخ لـي, فرجعنا جريحين¹ فلـما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـخروج فـي طلب العدوّ, قلت لأخي, أو قال لـي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقـيـل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنت أيسر جرحا منه, فكنت إذا غلب حملته عُقْبة ومشى عقبة, حتـى انتهينا إلـى ما انتهى إلـيه الـمسلـمون, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى انتهى إلـى حمراء الأسد, وهي من الـمدينة علـى ثمانـية أميال, فأقام بها ثلاثا: الاثنـين والثلاثاء والأربعاء, ثم رجع إلـى الـمدينة.
6679ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: فقال الله تبـارك وتعالـى: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}: أي الـجراح, وهم الذين ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم أُحد إلـى حمراء الأسد علـى ما بهم من ألـم الـجراح. {للّذِينَ أحْسَنُوا مِنْهُمْ واتّقَوْا أجْرٌ عَظِيـمٌ}.
6680ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}... الاَية, وذلك يوم أُحد بعد القتل والـجراح, وبعد ما انصرف الـمشركون أبو سفـيان وأصحابه, فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا عِصَابةٌ تَشدّ لأمْرِ الله تَطْلُبُ عَدُوّها؟ فإنه أنْكَى للعَدُوّ, وأبْعَدُ للسّمعِ» فـانطلق عصابة منهم علـى ما يعلـم الله تعالـى من الـجهد.
6681ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: انطلق أبو سفـيان منصرفـا من أُحد حتـى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا, وقالوا: بئسما صنعتـم إنكم قتلتـموهم, حتـى إذا لـم يبق إلا الشريد تركتـموهم, ارجعوا واستأصلوهم! فقذف الله فـي قلوبهم الرعب, فهزموا. فأخبر الله رسوله, فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد, ثم رجعوا من حمراء الأسد, فأنزل الله جلّ ثناؤه فـيهم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.
6682ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: إن الله جلّ وعزّ قذف فـي قلب أبـي سفـيان الرعب ـ يعنـي: يوم أُحد ـ بعد ما كان منه ما كان, فرجع إلـى مكة, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبـا سُفْـيان قَدْ أصاب مِنْكُمْ طَرفـا وقَدْ رجَع وقَذف اللّهُ فـي قَلْبِهِ الرّعْب». وكانت وقعة أُحد فـي شوّال, وكان التـجار يقدمون الـمدينة فـي ذي القعدة, فـينزلون ببدر الصغرى فـي كل سنة مرة. وإنهم قدموا بعد وقعة أُحد, وكان أصاب الـمؤمنـين القرح, واشتكوا ذلك إلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, واشتدّ علـيهم الذي أصابهم. وإن رسول الله ندب الناس لـينطلقوا معه, ويتبعوا ما كانوا متبعين, وقال: «إنّـما يَرْتَـجِلُونَ الاَنَ فَـيَأْتُونَ الـحَجّ ولا يَقْدِرُونَ علـى مِثْلِها حَتّـى عام مُقْبل» فجاء الشيطان فخوّف أولـياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم. فأبى علـيه الناس أن يتبعوه, فقال: «إنـي ذَاهِبٌ وإنْ لـم يَتْبَعْنـي أحَدٌ لأُحَضّضَ النّاسَ» فـانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلـيّ والزبـير وسعد وطلـحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن الـيـمان وأبو عبـيدة بن الـجرّاح فـي سبعين رجلاً. فساروا فـي طلب أبـي سفـيان, فطلبوه حتـى بلغوا الصفراء, فأنزل الله تعالـى: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ للّذِين أحْسَنُوا مِنْهُمْ واتّقَوْا أجْرٌ عَظِيـمٌ}.
6683ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا أبو سعيد, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبـير: يا ابن أختـي, أما والله إن أبـاك وجّدك ـ تعنـي: أبـا بكر والزبـير ـ مـمن قال الله تعالـى فـيهم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.
6684ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرت أن أبـا سفـيان بن حرب لـما راح هو وأصحابه يوم أُحد قال الـمسلـمون للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنهم عامدون إلـى الـمدينة, فقال: «إنْ ركِبُوا الـخَيْـل وتَركُوا الأثْقال فإنّهُمْ عامِدُون إلـى الـمَدِينَةِ, وإنْ جَلَسُوا علـى الأثْقالِ وتَركُوا الـخَيْـل فَقَدْ أرْعَبَهُمُ اللّهُ ولَـيْسُوا بِعامِدِيها», فركبوا الأثقال, فرعبهم الله. ثم ندب ناسا يتبعونهم لـيُروا أن بهم قوّة, فـاتبعوهم لـيـلتـين أو ثلاثا, فنزلت: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.
حدثنـي سعيد بن الربـيع, قال: حدثنا سفـيان, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, قال: قالت لـي عائشة: إن كان أبواك لـمن الذين استـجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. تعنـي: أبـا بكر والزبـير.
6685ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: كان عبد الله من الذين استـجابوا لله والرسول.
فوعد تعالـى ذكره مـحسن من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ} إذا اتقـى الله فخافه, فأدّى فرائضه وأطاعه فـي أمره ونهيه فـيـما يستقبل من عمره أجرا عظيـما, وذلك الثواب الـجزيـل, والـجزاء العظيـم, علـى ما قدّم من صالـح أعماله فـي الدنـيا.
الآية : 173
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
يعنـي تعالـى ذكره: وأن الله لا يضيع أجر الـمؤمنـين الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم, والذين فـي موضع خفض مردود علـى الـمؤمنـين, وهذه الصفة من صفة الذين استـجابوا لله والرسول والناس الأول هم قوم فـيـما ذكر لنا, كان أبو سفـيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا فـي طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلـى حمراء الأسد¹ والناس الثانـي: هم أبو سفـيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بـأُحد, يعنـي بقوله: {قَدْ جَمعُوا لَكُمْ}: قد جمعوا الرجال للقائكم, والكرّة إلـيكم لـحربكم {فـاخْشَوْهُمْ} يقول: فـاحذروهم, واتقوا لقاءهم, فإنه لا طاقة لكم بهم, {فَزادهُمْ إيـمَان} يقول: فزادهم ذلك من تـخويف من خوّفهم أمر أبـي سفـيان وأصحابه من الـمشركين يقـينا إلـى يقـينهم, وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلـى تصديقهم, ولـم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالسير فـيه, ولكن ساروا حتـى بلغوا رضوان الله منه, وقالوا ثقة بـالله, وتوكلاً علـيه, إذ خوفهم من خوفهم أبـا سفـيان وأصحابه من الـمشركين {حَسْبُنا اللّهُ ونِعْم الوكِيـل} يعنـي بقوله: حسبنا الله: كفـانا الله, يعنـي: يكفـينا الله¹ ونعم الوكيـل, يقول: ونعم الـمولـى لـمن ولـيه وكفله¹ وإنـما وصف تعالـى نفسه بذلك لأن الوكيـل فـي كلام العرب: هو الـمسند إلـيه القـيام بأمر من أسند إلـيه القـيام بأمره¹ فلـما كان القوم الذين وصفهم الله بـما وصفهم به فـي هذه الاَيات قد كانوا فوّضوا أمرهم إلـى الله, ووثقوا به, وأسندوا ذلك إلـيه وصف نفسه بقـيامه لهم بذلك, وتفويضهم أمرهم إلـيه بـالوكالة, فقال: ونعم الوكيـل الله تعالـى لهم.
واختلف أهل التأويـل فـي الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنّ النّاس قَدْ جَمعُوا لَكُمْ} فقال بعضهم: قـيـل ذلك لهم فـي وجههم الذي خرجوا فـيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُحد إلـى حمراء الأسد فـي طلب أبـي سفـيان ومن معه من الـمشركين.
ذكر من قال ذلك, وذكر السبب الذي من أجله قـيـل ذلك, ومَن قائله:
6686ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم, قال: مرّ به, يعنـي برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الـخزاعي بحمراء الأسد, وكانت خزاعة مسلـمهم ومشركهم عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه, لا يخفون علـيه شيئا كان بها, ومعبد يومئذ مشرك, فقال: والله يا مـحمد, أما والله لقد عزّ علـينا ما أصابك فـي أصحابك, ولوددنا أن الله كان أعفـاك فـيهم! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد, حتـى لقـي أبـا سفـيان بن حرب ومن معه بـالروحاء, قد أجمعوا الرجعة إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقالوا: أصبنا فـي أُحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم, ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرنّ علـى بقـيتهم فلنفرغنّ منهم. فلـما رأى أبـا سفـيان معبدا, قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: مـحمد قد خرج فـي أصحابه يطلبكم فـي جمع لـم أر مثله قط, يتـحرّقون علـيكم تـحرّقا, قد اجتـمع معه من كان تـخـلف عنه فـي يومكم, وندموا علـى ما صنعوا, فهم من الـحنق علـيكم بشيء لـم أر مثله قط. قال: ويـلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتـحل حتـى ترى نواصي الـخيـل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرّة علـيهم لنستأصل بقـيتهم. قال: فإنـي أنهاك عن ذلك! فوالله لقد حملنـي ما رأيت علـى أن قلت فـيه أبـياتا من شعر, قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادَتْ تُهَدّ مِنَ الأصْوَات رَاحِلَتِـيإذْ سالَتِ الأرْضُ بـالـجُرْدِ الإبـابِـيـلِ
تَرْدِي بِـأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَناِبَلةٍعِنْدَ اللّقاءِ وَلا مِيـلٍ مَعازِيـلِ
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنّ الأرْضَ مائِلَةًلَـمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْـلُ ابنِ حَرْبٍ منْ لِقائِكُمُإذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحاءُ بـالـجِيـلِ
إنـي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةًلكُلّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أحمَدَ لا وَخْشٍ تَنابِلَةٍوَلَـيْسَ يُوصَفُ ما أنْذَرْتُ بـالقِـيـلِ
قال: فثنى ذلك أبـا سفـيان ومن معه¹ ومرّ به ركب من عبد القـيس, فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد الـمدينة. قال: ولـم؟ قالوا: نريد الـمِيرة. قال: فهل أنتـم مبلغون عنـي مـحمدا رسالة أرسلكم بها, وأُحَمّلُ لكم إبلكم هذه غدا زبـيبـا بعكاظ إذا وافـيتـموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتـموه, فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إلـيه وإلـى أصحابه لنستأصل بَقِـيتهم! فمرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد, فأخبروه بـالذي قال أبو سفـيان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ».
6687ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: فقال الله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهَ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}. والناس الذين قال لهم ما قالوا: النفر من عبد القـيس, الذين قال لهم أبو سفـيان ما قال, إن أبـا سفـيان ومن معه راجعون إلـيكم, يقول الله تبـارك وتعالـى: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ}... الاَية.
6688ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما ندموا ـ يعنـي: أبـا سفـيان وأصحابه ـ علـى الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: ارجعوا فـاستأصلوهم! فقذف الله فـي قلوبهم الرعب, فهزموا, فلقوا أعرابـيا, فجعلوا له جعلاً: إن لقـيت مـحمدا وأصحابه, فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم. فأخبر الله جلّ ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد, فلقوا الأعرابـي فـي الطريق, فأخبرهم الـخبر, فقالوا: «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ» ثم رجعوا من حمراء الأسد, فأنزل الله تعالـى فـيهم وفـي الأعرابـي الذي لقـيهم: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}.
6689ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: استقبل أبو سفـيان فـي منصرفه من أُحد عيرا واردة الـمدينة ببضاعة لهم وبـينهم وبـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم حبـال, فقال: إن لكم علـيّ رضاكم إن أنتـم رددتـم عنـي مـحمدا ومن معه إن أنتـم وجدتـموه فـي طلبـي وأخبرتـموه أنـي قد جمعت له جموعا كثـيرة! فـاستقبلت العيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا له: يا مـحمد إنا نـخبرك أن أبـا سفـيان قد جمع لك جموعا كثـيرة, وأنه مقبل إلـى الـمدينة, وإن شئت أن ترجع فـافعل. ولـم يزده ذلك ومن معه إلا يقـينا, {وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـل}, فأنزل الله تبـارك وتعالـى: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}... الاَية.
6690ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفـيان وأصحابه من أُحد خـلفهم, حتـى كانوا بذي الـحلـيفة, فجعل الأعراب والناس يأتون علـيهم, فـيقولون لهم: هذا أبو سفـيان مائل علـيكم بـالناس, فقالوا: {حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}, فأنزل الله تعالـى فـيهم: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}.
وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له فـي غزوة بدر الصغرى وذلك فـي مسير النبـيّ صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أُحد للقاء عدوّه أبـي سفـيان وأصحابه للـموعد الذي كان واعده الالتقاء بها. ذكر من قال ذلك:
6691ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} قال: هذا أبو سفـيان, قال لـمـحمد: موعدكم بدر حيث قتلتـم أصحابنا! فقال مـحمد صلى الله عليه وسلم: «عَسَى!» فـانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لـموعده حتـى نزل بدرا, فوافقوا السوق فـيها, وابتاعوا¹ فذلك قوله تبـارك وتعالـى: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} وهي غزوة بدر الصغرى.
6692ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد بنـحوه, وزاد فـيه: وهي بدر الصغرى. قال ابن جريح: لـما عمد النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـموعد أبـي سفـيان, فجعلوا يـلقون الـمشركين, ويسألونهم عن قريش, فـيقولون: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يكيدونهم بذلك, يريدون أن يرعبوهم, فـيقول الـمؤمنون: {حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيـلُ} حتـى قدموا بدرا, فوجدوا أسواقها عافـية لـم ينازعهم فـيها أحد. قال: وقدم رجل من الـمشركين وأخبر أهل مكة بخيـل مـحمد علـيه الصلاة والسلام وقال فـي ذلك:
نَفَرَتْ قَلُوصِي عَنْ خُيولِ مُـحَمّدِوَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كالعُنْـجُدِ
(واتـخذتْ ماءَ قُدَيدٍ مَوْعِدِي )
قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم, وهو خطأ, وإنـما هو:
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتـيْ مُـحَمّدِوَعَجْوَةٍ مِنْ يَثرِبٍ كالعُنْـجُدِ
تَهْوِى علـى دِينِ إبـيِها الأتْلَدِقدْ جَعَلَتْ ماءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
(وَماءَ ضَجْنانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ )
6693ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عمرو, عن عكرمة, قال: كانت بدر متـجرا فـي الـجاهلـية, فخرج ناس من الـمسلـمين يريدون, ولقـيهم ناس من الـمشركين فقالوا لهم: {إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ}, فأما الـجبـان فرجع, وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التـجارة, {وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}, فأتوهم فلـم يـلقوا أحدا, فأنزل الله عزّ وجلّ فـيهم: {إنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ}. قال ابن يحيـى, قال عبد الرزاق, قال ابن عيـينة: وأخبرنـي زكريا عن الشعبـي, عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلـمة إبراهيـم صلى الله عليه وسلم حين ألقـي فـي النار, فقال: {حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيـلُ}.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن الذي قـيـل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فـاخشوهم, كان فـي حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخروج من خرج معه فـي أثر أبـي سفـيان, ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أُحد إلـى حمراء الأسد¹ لأن الله تعالـى ذكره إنـما مدح الذين وصفهم بقـيـلهم: {حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ} لـما قـيـل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فـاخشوهم, بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم, بقوله: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ وَالرّسولِ مِنْ بَعْدِ ما أصَابَهُمُ القَرْحُ} ولـم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلـى حمراء الأسد. وأما قول الذين خرجوا معه إلـى غزوة بدر الصغرى, فإنه لـم يكن فـيهم جريج, إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه, وبرأ كلـمه, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما خرج إلـى بدر الـخرجة الثانـية إلـيها لـموعد أبـي سفـيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أُحد فـي شعبـان سنة أربع من الهجرة, وذلك أن وقعة أُحد كانت فـي النصف من شوّال من سنة ثلاث, وخروج النبـيّ صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إلـيها فـي شعبـان من سنة أربع, ولـم يكن للنبـيّ صلى الله عليه وسلم بـين ذلك وقعة مع الـمشركين كانت بـينهم فـيها حرب جرح فـيها أصحابه, ولكن قد كان قتل فـي وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لـم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى, وكانت وقعة الرجيع فـيـما بـين وقعة أُحد وغزوة النبـيّ صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى