تفسير الطبري تفسير الصفحة 73 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 73
074
072
 الآية : 174
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوَءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ} فـانصرف الذين استـجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح من وجههم الذي توجهوا فـيه, وهو سيرهم فـي أثر عدوّهم إلـى حمراء الأسد. {بنعمةٍ من اللّهِ} يعنـي: بعافـية من ربهم لـم يـلقوا بها عدوّا. {وفضل} يعنـي: أصابوا فـيها من الأربـاح بتـجارتهم التـي اتـجروا بها, والأجر الذي اكتسبوه. {لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يعنـي: لـم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى. {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ} يعنـي بذلك أنهم أرضَوا الله بفعلهم ذلك واتبـاعهم رسوله إلـى ما دعاهم إلـيه من اتبـاع أثر العدوّ وطاعتهم. {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ} يعنـي: والله ذو إحسان وطول علـيهم بصرف عدوّهم الذي كانوا قد هموا بـالكرّة إلـيهم, وغير ذلك من أياديه عندهم, وعلـى غيرهم بنعمه, عظيـم عند من أنعم به علـيه من خـلقه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6694ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ} قال: والفضل: ما أصابوا من التـجارة والأجر.
6695ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: وافقوا السوق فـابتاعوا, وذلك قوله: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ} قال: الفضل ما أصابوا من التـجارة والأجر. قال ابن جريج: ما أصابوا من البـيع نعمة من الله وفضل, أصابوا عفوه وعزّته, لا ينازعهم فـيه أحد. قال: وقوله: {لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} قال: قتل, {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ} قال: طاعة النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
6696ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ} لـما صرف عنهم من لقاء عدوّهم.
6697ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: أطاعوا الله, وابتغوا حاجتهم, ولـم يؤذهم أحد. {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ}.
6698ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنـي: حين خرج إلـى غزوة بدر الصغرى ـ ببدر دراهم ابتاعوا بها من موسم بدر, فأصابوا تـجارة¹ فذلك قول الله: {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ}. أما النعمة: فهي العافـية, وأما الفضل: فـالتـجارة, والسوء: القتل.
الآية : 175
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إنـما الذي قال لكم أيها الـمؤمنون: إن الناس قد جمعوا لكم, فخوفوكم بجموع عدوكم, ومسيرهم إلـيكم, من فعل الشيطان, ألقاه علـى أفواه من قال ذلك لكم, يخوفكم بأولـيائه من الـمشركين أبـي سفـيان وأصحابه من قريش, لترهبوهم, وتـجبنوا عنهم. كما:
6699ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} يخوف والله الـمؤمن بـالكافر, ويرهب الـمؤمن بـالكافر.
6700ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} قال: يخوف الـمؤمنـين بـالكفـار.
6701ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} يقول: الشيطان يخوف الـمؤمنـين بأولـيائه.
6702ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ}: أي أولئك الرهط, يعنـي: النفر من عبد القـيس الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا, وما ألقـى الشيطان علـى أفواههم, {يُخَوّفُ أوْلـياءَهُ} أي يرهبكم بأولـيائه.
6703ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا علـي بن معبد, عن عتاب بن بشير, مولـى قريش, عن سالـم الأفطس, فـي قوله: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} قال: يخوفكم بأولـيائه.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنـما ذلكم الشيطان يعظم أمر الـمشركين أيها الـمنافقون فـي أنفسكم فتـخافونه. ذكر من قال ذلك:
6704ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: ذكر أمر الـمشركين وعظمهم فـي أعين الـمنافقـين فقال: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ}: يعظم أولـياءه فـي صدوركم فتـخافونهم.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} وهل يخوف الشيطان أولـياءه؟ قـيـل: إن كان معناه يخوفكم بأولـيائه يخوف أولـياءه. قـيـل ذلك نظير قوله: {لِـيُنذِرَ بَـأْسا شَدِيد} بـمعنى: لـينذركم بأسه الشديد, وذلك أن البأس لا ينذر, وإنـما ينذر به. وقد كان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوّف الناس أولـياءه, كقول القائل: هو يعطي الدراهم, ويكسو الثـياب, بـمعنى: هو يعطي الناس الدراهم, ويكسوهم الثـياب, فحذف ذلك للاستغناء عنه. ولـيس الذي شبه ذلك بـمشبه, لأن الدراهم فـي قول القائل: هو يعطي الدراهم معلوم أن الـمُعْطَى هي الدراهم, ولـيس كذلك الأولـياء فـي قوله: {يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} مخوفـين, بل التـخويف من الأولـياء لغيرهم, فلذلك افترقا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلا تَـخافُوهُمْ وَخافُونِ إنْ كُنُتـمْ مُؤْمِنِـينَ}.
يقول: فلا تـخافوا أيها الـمؤمنون الـمشركين, ولا يعظمنّ علـيكم أمرهم, ولا ترهبوا جمعهم مع طاعتكم إياي, ما أطعتـمونـي, واتبعتـم أمري, وإنـي متكفل لكم بـالنصر والظفر, ولكن خافون, واتقوا أن تعصونـي وتـخالفوا أمري, فتهلكوا إن كنتـم مؤمنـين. يقول: ولكن خافونـي دون الـمشركين, ودون جميع خـلقـي أن تـخالفوا أمري إن كنتـم مصدّقـي رسولـي وما جاءكم به من عندي.
الآية : 176
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
يقول جلّ ثناؤه: ولا يحزنك يا مـحمد كفر الذين يسارعون فـي الكفر مرتدّين علـى أعقابهم من أهل النفـاق, فإنهم لن يضرّوا الله بـمسارعتهم فـي الكفر شيئا, كما أن مسارعتهم لو سارعوا إلـى الإيـمان لـم تكن بنافعته, كذلك مسارعتهم إلـى الكفر غير ضارّته. كما:
6705ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: {وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِـي الكُفرِ} يعنـي: هم الـمنافقون.
6706ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِـي الكُفرِ} أي الـمنافقون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُرِيدُ اللّهُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِـي الاَخِرَةِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون فـي الكفر نصيبـا فـي ثواب الاَخرة, فلذلك خذلهم, فسارعوا فـيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الاَخرة, لهم عذاب عظيـم فـي الاَخرة, وذلك عذاب النار. وقال ابن إسحاق فـي ذلك بـما:
6707ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {يُرِيدُ اللّهُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِـي الاَخِرَةِ}: أن يحبط أعمالهم.
الآية : 177
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: الـمنافقـين الذين تقدم إلـى نبـيه صلى الله عليه وسلم فـيهم, أن لا يحزنه مسارعتهم إلـى الكفر, فقال لنبـيه صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيـمانهم, فـارتدّوا عن إيـمانهم بعد دخولهم فـيه, ورضوا بـالكفر بـالله وبرسوله, عوضا من الإيـمان, لن يضرّوا الله بكفرهم وارتدادهم, عن إيـمانهم شيئا, بل إنـما يضرّون بذلك أنفسهم بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قبل لها به.
وإنـما حثّ الله جلّ ثناؤه بهذه الاَيات من قوله: {وَما أصَابَكُمْ يَوْمَ الَتْقَـى الـجَمْعانِ فَبإذْنِ اللّهِ} إلـى هذه الاَية عبـاده الـمؤمنـين علـى إخلاص الـيقـين, والانقطاع إلـيه فـي أمورهم, والرضا به ناصرا وحده دون غيره من سائر خـلقه, ورغب بها فـي جهاد أعدائه وأعداء دينه, وشجع بها قلوبهم, وأعلـمهم أن من ولـيه بنصره فلن يخذل ولو اجتـمع علـيه جميع من خالفه وحاده, وأن من خذله فلن ينصره ناصر ينفعه نصره ولو كثرت أعوانه أو نصراؤه. كما:
6708ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إنّ الّذِينَ اشَترَوُا الكُفرَ بـالإيِـمَانِ}: أي الـمنافقـين {لَنْ يَضُرّوا اللّهَ شَيْئا وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ}: أي موجع.
6709ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: هم الـمنافقون.
الآية : 178
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بـالله ورسوله, وما جاء به من عند الله, أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ويعنـي بـالإملاء: الإطالة فـي العمر والإنساء فـي الأجل¹ ومنه قوله جل ثناؤه: {وَاهجُرْنِـي مَلِـيّ}: أي حينا طويلاً¹ ومنه قـيـل: عشت طويلاً وتـملـيت حينا والـملا نفسه: الدهر, والـملوان: اللـيـل والنهار, ومنه قول تـميـم بن مقبل:
ألا يا دِيارَ الـحَيّ بـالسّبُعانِأمَلّ عَلَـيها بـالبِلَـى الـمَلَوَانِ
يعنـي بـالـملوان: اللـيـل والنهار.
وقد اختلفت القراء فـي قراءة قوله: «وَلا تَـحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـملِـيَ لهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ» فقرأ ذلك جماعة منهم: {وَلا يَحسَبنّ} بـالـياء وفتـح الألف من قوله {أنّـمَ} علـى الـمعنى الذي وصفت من تأويـله. وقرأه آخرون: «وَلا تَـحسَبنّ» بـالتاء و{أنّـمَ} أيضا بفتـح الألف من «أنـما», بـمعنى: ولا تـحسبن يا مـحمد الذين كفروا أنـما نـملـي لهم خير لأنفسهم.
فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتـحت الألف من قوله: {أنّـمَ} فـي قراءة من قرأ بـالتاء, وقد علـمت أن ذلك إذا قرىء بـالتاء فقد أعلـمت تـحسبنّ فـي الذين كفروا, وإذا أعملتها فـي ذلك لـم يجز لها أن تقع علـى «أنـما» لأن «أنّـما» إنـما يعمل فـيها عامل يعمل فـي شيئين نصبـا؟ قـيـل: أما الصواب فـي العربـية ووجه الكلام الـمعروف من كلام العرب كسر إن قرئت تـحسبن بـالتاء, لأن تـحسبن إذا إذا قرئت بـالتاء, فإنها قد نصبت الذين كفروا, فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما فـي أن, ولكنى أظن أن من قرأ ذلك بـالتاء فـي تـحسبن وفتـح الألف من أنـما, إنـما أراد تكرير تـحسبن علـى أنـما, كأنه قصد إلـى أن معنى الكلام: ولا تـحسبن يا مـحمد أنت الذين كفروا, لا تـحسبن أنـما نـملـي لهم خير لأنفسهم, كما قال جل ثناؤه: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِـيَهُمْ بَغتَةً} بتأويـل: هل ينظرون إلا الساعة, هل ينظرون إلا أن تأتـيهم بغتة؟ وذلك وإن كان وجها جائزا فـي العربـية, فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا قراءة من قرأ: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُو} بـالـياء من «يحسبن», وبفتـح الألف من «أنـما», علـى معنى الـحسبـان للذين كفروا دون غيرهم, ثم يعمل فـي «أنـما» نصبـا¹ لأن «يحسبن» حينئذ لـم يشغل بشيء عمل فـيه, وهي تطلب منصوبـين. وإنـما اخترنا ذلك لإجماع القراء علـى فتـح الألف من «أنـما» الأولـى, فدل ذلك علـى أن القراءة الصحيحة فـي «يحسبن» بـالـياء لـما وصفنا¹ وأما ألف «إنـما» الثانـية فـالكسر علـى الابتداء بـالإجماع من القراء علـيه.
وتأويـل قوله: {إنّـمَا نُـملِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثْم}: إنـما نؤخر آجالهم فنطيـلها لـيزدادوا إثما, يقول: يكتسبوا الـمعاصي فتزداد آثامهم وتكثر {ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بـالله ورسوله فـي الاَخرة عقوبة لهم مهينة مذلة.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك جاء الأثر.
6710ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن خيثمة, عن الأسود, قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فـاجرة إلا والـموت خير لها, وقرأ: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـملِـي لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إنّـمَا نُـملِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثْم} وقرأ: {نُزُلاً مِنْ عِندِ الله وما عِندَ اللّهِ خَيرٌ للأبرَارِ}.
الآية : 179
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
يعنـي بقوله: {ما كانَ الله لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ} ما كان الله لـيدع الـمؤمنـين علـى ما أنتـم علـيه من التبـاس الـمؤمن منكم بـالـمنافق, فلا يعرف هذا من هذا {حَتّـى يِـمَيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} يعنـي بذلك: حتـى يـميز الـخبـيث, وهو الـمنافق الـمستسر للكفر, من الطيب, وهو الـمؤمن الـمخـلص الصادق الإيـمان بـالـمـحن والاختبـار, كما ميز بـينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إلـيه.
واختلف أهل التأويـل فـي الـخبـيث الذي عنى الله بهذه الاَية, فقال بعضهم فـيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك:
6711ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: ثنـي أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال: ميز بـينهم يوم أُحد, الـمنافق من الـمؤمن.
6712ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال ابن جريج: يقول: لـيبـين الصادق بإيـمانه من الكاذب. قال: ابن جريج: قال مـجاهد: يوم أُحد ميز بعضهم عن بعض, الـمنافق عن الـمؤمن.
6713ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: أي الـمنافق.
وقال آخرون: معنى ذلك: حتـى يـميز الـمؤمن من الكافر بـالهجرة والـجهاد. ذكر من قال ذلك:
6714ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ} يعنـي: الكفـار. يقول: لـم يكن الله لـيدع الـمؤمنـين علـى ما أنتـم علـيه من الضلالة, {حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: يـميز بـينهم فـي الـجهاد والهجرة.
6715ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال: حتـى يـميز الفـاجر من الـمؤمن.
6716ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قالوا: إن كان مـحمد صادقا فلـيخبرنا بـمن يؤمن بـالله ومن يكفر! فأنزل الله: {ما كانَ اللّهُ لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: حتـى يخرج الـمؤمن من الكافر.
والتأويـل الأوّل أولـى بتأويـل الاَية, لأن الاَيات قبلها فـي ذكر الـمنافقـين وهذه فـي سياقتها, فكونها بأن تكون فـيهم أشبه منها بأن تكون فـي غيرهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كانَ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ}.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم بـما:
6717ـ حدثنا به مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَما كانَ اللّهُ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ} وما كان الله لـيطلع مـحمدا علـى الغيب, ولكن الله اجتبـاه فجعله رسولاً.
وقال آخرون بـما:
6718ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَما كانَ اللّهُ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ} أي فـيـما يريد أن يبتلـيكم به, لتـحذروا ما يدخـل علـيكم فـيه: {وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} يعلـمه.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بتأويـله: وما كان الله لـيطلعكم علـى ضمائر قلوب عبـاده, فتعرفوا الـمؤمن منهم من الـمنافق والكافر, ولكنه يـميز بـينهم بـالـمـحن والابتلاء كما ميز بـينهم بـالبأساء يوم أُحد, وجهاد عدوّه, وما أشبه ذلك من صنوف الـمـحن, حتـى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالـى ذكره يجتبـي من رسله من يشاء, فـيصطفـيه, فـيطلعه علـى بعض ما فـي ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إلـيه ورسالته. كما:
6719ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} قال: يخـلصهم لنفسه.
وإنـما قلنا هذا التأويـل أولـى بتأويـل الاَية, ابتداءَها خبر من الله تعالـى ذكره أنه غير تارك عبـاده, يعنـي بغير مـحن, حتـى يفرّق بـالابتلاء بـين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفـاقهم. ثم عقب ذلك بقوله: {وَما كانَ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ}, فكان فـيـما افتتـح به من صفة إظهار الله نفـاق الـمنافق وكفر الكافر, دلالة واضحة علـى أن الذي ولـي ذلك هو الـخبر عن أنه لـم يكن لـيطلعهم علـى ما يخفـى عنهم من بـاطن سرائرهم إلا بـالذي ذكر أنه مـميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلـمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيـمٌ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه بقوله: {وَإنْ تُؤْمِنُو}: وإن تصدّقوا من اجتبـيته من رسلـي بعلـمي, وأطلعته علـى الـمنافقـين منكم, وتتقوا ربكم بطاعته فـيـما أمركم به نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم وفـيـما نهاكم عنه, {فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيـمٌ} يقول: فلكم بذلك من إيـمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيـم. كما:
6720ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُو}: أي ترجعوا وتتوبوا, {فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيـمٌ}.
الآية : 180
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لّهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لّهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه جماعة من أهل الـحجاز والعراق: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَـلونَ} بـالـياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر: «وَلا تَـحسَبنّ» بـالتاء.
ثم اختلف أهل العربـية فـي تأويـل ذلك, فقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى ذلك: لا يحسبنّ البـاخـلون البخـل هو خيرا لهم. فـاكتفـى بذكر يبخـلون من البخـل, كما تقول: قدم فلان فسررت به, وأنت تريد فسررت بقدومه, وهو عماد. وقال بعض نـحويـي أهل البصرة: إنـما أراد بقوله: «وَلا تَـحسَبنّ الّذِينَ يَبخَـلونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ» لا تـحسبن البخـل هو خيرا لهم, فألقـى الاسم الذي أوقع علـيه الـحسبـان به وهو البخـل, لأنه قد ذكر الـحسبـان, وذكر ما آتاهم الله من فضله, فأضمرهما إذ ذكرهما, قال: وقد جاء من الـحذف ما هو أشد من هذا, قال: {لا يَستَوِي مِنكُمْ مَنْ انْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْـحِ وَقاتَلَ} ولـم يقل: ومن أنفق من بعد الفتـح, لأنه لـما قال: {أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} كان فـيه دلـيـل علـى أنه قد عناهم.
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة, أن «من» فـي قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْـحِ} فـي معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتـح فـي منازلهم وحالاتهم, فكيف من أنفق من بعد الفتـح, فـالأول مكتف. وقال فـي قوله: {لا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْرا لَهُمْ} مـحذوف, غير أنه لـم يحذف إلا وفـي الكلام ما قام مقام الـمـحذوف, لأن «هو» عائد البخـل, و«خيرا لهم» عائد الأسماء, فقد دلّ هذان العائدان علـى أن قبلهما اسمين, واكتفـى بقوله: يبخـلون, من البخـل. قال: وهذا إذا قرىء بـالتاء, فـالبخـل قبل الذين, وإذا قرىء بـالـياء, فـالبخـل بعد الذين, وقد اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل, كما قال الشاعر:
إذَا نُهِيَ السّفِـيهُ جَرَى إلَـيْهِوخالَفَ وَالسّفـيهُ إلـى خِلافِ
كأنه قال: جرى إلـى السفه, فـاكتفـى عن السفه بـالسفـيه, كذلك اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي, قراءة من قرأ: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} بـالتاء بتأويـل: ولا تـحسبنّ أنت يا مـحمد بخـل الذين يبخـلون بـما أتاهم الله من فضله, هو خيرا لهم, ثم ترك ذكر البخـل, إذ كان فـي قوله هو خيرا لهم, دلالة علـى أنه مراد فـي الكلام, إذ كان قد تقدّمه قوله: {الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضلِهِ}.
وإنـما قلنا قراءة ذلك بـالتاء أولـى بـالصواب من قراءته بـالـياء, لأن الـمـحسبة من شأنها طلب اسم وخبر, فإذا قرىء قوله: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} بـالـياء لـم يكن للـمـحسبة اسم يكون قوله: {هُوَ خَيْرا لَهُمْ} خبرا عنه, وإذا قرىء ذلك بـالتاء كان قوله: {الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} اسما له, قد أدّى عن معنى البخـل الذي هو اسم الـمـحسبة الـمتروك, وكان قوله: {هُوَ خَيْرا لَهُمْ} خبرا لها, فكان جاريا مـجرى الـمعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـالتاء فـي ذلك علـى ما بـيناه, وإن كانت القراءة بـالـياء غير خطأ, ولكنه لـيس بـالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
وأما تأويـل الاَية الذي هو تأويـلها علـى ما اخترنا من القراءة فـي ذلك: ولا تـحسبنّ يا مـحمد, بخـل الذين يبخـلون بـما أعطاهم الله فـي الدنـيا من الأموال, فلا يخرجون منه حقّ الله الذي فرضه علـيهم فـيه من الزكوات هو خيرا لهم عند الله يوم القـيامة, بل هو شرّ لهم عنده فـي الاَخرة. كما:
6721ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُو شَرّ لَهُمْ»: هم الذين آتاهم الله من فضله, فبخـلوا أن ينفقوها فـي سبـيـل الله, ولـم يؤدّوا زكاتها.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الـيهود الذين بخـلوا أن يبـينوا للناس ما أنزل الله فـي التوراة من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته. ذكر من قال ذلك:
6722ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي عمي, ثنـي أبـي, قال: قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ»... إلـى {سُيَطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} يعنـي بذلك: أهل الكتاب أنهم بخـلوا بـالكتاب أن يبـينوه للناس.
6723ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» قال: هم يهود, إلـى قوله: {وَالكتاب الـمُنِـير}.
وأولـى التأويـلـين بتأويـل هذه الاَية التأويـل الأوّل وهو أنه معنـيّ بـالبخـل فـي هذا الـموضع: منع الزكاة لتظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوّل قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: البخيـل الذي منع حقّ الله منه أنه يصير ثعبـانا فـي عنقه, ولقول الله عقـيب هذه الاَية: {لَقَدْ سَمِعَ اللّهْ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِـيرٌ وَنَـحْنُ أغْنِـياءُ} فوصف جلّ ثناؤه قول الـمشركين من الـيهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بـالزكاة أن الله فقـير.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخَـلِوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {سَيُطَوّقُونَ}: سيجعل الله ما بخـل به الـمانعون الزكاة طوقا فـي أعناقهم, كهيئة الأطواق الـمعروفة. كالذي:
6724ـ حدثنـي الـحسن بن قزعة, قال: حدثنا مسلـمة بن علقمة, قال: حدثنا داود, عن أبـي قزعة, عن أبـي مالك العبدي, قال: ما من عبد يأتـيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فـيبخـل علـيه إلا أخرج له الذي بخـل به علـيه شجاعا أقرع. وقال: وقرأ: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ»... إلـى آخر الاَية.
6725ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن أبـي قزعة, عن رجل, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِـيَ ذَا رَحِمِهِ فَـيَسألُهُ فَضْلٍ جَعَلَهُ الله عِنْدَهُ فَـيَبْخَـلَ بِهِ عَلَـيْهِ إلاّ أُخْرِجَ مِنْ لَهُ مِنْ جَهَنّـمَ شُجاعٌ يَتَلَـمّظُ حتـى يُطَوّقَهُ».
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو معاوية مـحمد بن خازم, قال: حدثنا داود, عن أبـي قزعة حجر بن بـيان, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِـي ذَا رَحِمِهِ فَـيَسألَهُ مِنْ فَضْلٍ أعْطاهُ اللّهُ إيّاهُ فَـيَبْخَـلَ بِهِ عَلَـيْهِ, إلاّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَـمّظُ حتـى يُطَوّقَهُ» ثم قرأ: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» حتـى انتهى إلـى قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ}.
6726ـ حدثنـي زياد بن عبـيد الله الـمرّي, قال: حدثنا مروان بن معاوية, وحدثنـي مـحمد بن عبد الله الكلابـي, قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي, وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبـيدة الـحداد, واللفظ لـيعقوب جميعا, عن بهز بن حكيـم بن معاوية بن حيدة, عن أبـيه, عن جده, قال: سمعت نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَأْتِـي رَجُلٌ مَوْلاهُ فَـيَسألَهُ مِنْ فَضْل مالٍ عِنْدَهُ فَـيَـمْنَعُهُ إيّاهُ إلاّ دَعا لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ شُجاعا يَتَلَـمّظُ فَضْلَهُ الّذِين مَنَعَ».
6727ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن أبـي وائل, عن عبد الله بن مسعود: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: ثعبـان ينقر رأس أحدهم, يقول: أنا مالك الذي بخـلت به.
6728ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت أبـا وائل يحدّث أنه سمع عبد الله, قال فـي هذه الاَية: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: شجاع يـلتوي برأس أحدهم.
حدثنـي ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, قال: حدثنا خلاد بن أسلـم, قال أخبرنا النضر بن شميـل, قال: أخبرنا شعبة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي وائل, عن عبد الله, بـمثله, إلا أنهما قالا: قال شجاع أسود.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبـي إسحاق, عن أبـي وائل, عن ابن مسعود, قال: يجيء ماله يوم القـيامة ثعبـانا, فـينقر رأسه فـيقول: أنا مالك الذي بخـلت به, فـينطوي علـى عنقه.
6729ـ حُدثت عن سفـيان بن عيـينة, قال: حدثنا جامع بن شداد وعبد الـملك بن أعين, عن أبـي وائل, عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدّي زَكاةَ مالِهِ إلاّ مُثّلَ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ يُطَوّقُهُ» ثم قرأ علـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلونَ بِـما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ»... الاَية.
6730ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أما {سَيُطَوّقون ما بَخِـلُوا بِهِ} فإنه يجعل ماله يوم القـيامة شجاعا أقرع يطوّقه, فـيأخذ بعنقه, فـيتبعه حتـى يقذفه فـي النار.
6731ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة, عن أبـي هاشم, عن أبـي وائل, قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالاً, فـيـمنع قرابته الـحقّ الذي جعل الله لهم فـي ماله, فـيجعل حية فـيطوّقها, فـيقول: مالـي ولك؟ فـيقول: أنا مالك.
6732ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو غسان, قال: حدثنا إسرائيـل, عن حكيـم بن جبـير, عن سالـم بن أبـي الـجعد عن مسروق, قال: سألت ابن مسعود عن قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: يطوّقون شجاعا أقرع, ينهش رأسه.
وقال آخرون: معنى ذلك: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} فـيجعل فـي أعناقهم طوقا من نار. ذكر من قال ذلك:
6733ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوقا من النار.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن إبراهيـم أنه قال فـي هذه الاَية: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوقا من نار.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن منصور, عن إبراهيـم, فـي قوله: {سَيُطَوّقُونَ} قال: طوقا من نار.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوق من نار.
وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتـموا نبوّه مـحمد صلى الله عليه وسلم من أحبـار الـيهود ما كتـموا من ذلك. ذكر من قال ذلك:
6734ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي عن أبـيه عن ابن عبـاس, قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} ألـم تسمع أنه قال: {يَبْخَـلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بـالبُخْـلِ} يعنـي: أهل الكتاب, يقول: يكتـمون ويأمرون الناس بـالكتـمان.
وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلفون يوم القـيامة أن يأتوا بـما بخـلوا به فـي الدنـيا من أموالهم. ذكر من قال ذلك:
6735ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: سيكلفون أن يأتوا بـما بخـلوا به, إلـى قوله: {وَالكِتابِ الـمُنِـير}.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {سَيُطَوّقونَ} سيكلفون أن يأتوا بـمثل ما بخـلوا به من أموالهم يوم القـيامة.
وأولـى الأقوال بتأويـل هذه الاَية التأويـل الذي قلناه فـي ذلك فـي مبدإ قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ} للأخبـار التـي ذكرنا فـي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أحد أعلـم بـما عنى الله تبـارك وتعالـى بتنزيـله منه علـيه الصلاة والسلام.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وِللّهِ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرٌ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه الـحيّ الذي لا يـموت, والبـاقـي بعد فناء جميع خـلقه.
فإن قال قائل: فما معنى قوله: {لَهُ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ} والـميراث الـمعروف: هو ما انتقل من ملك مالك إلـى وارثه بـموته ولله الدنـيا قبل فناء خـلقه وبعده؟ قـيـل: إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بـالبقاء, وإعلام خـلقه أنه كتب علـيهم الفناء. وذلك أن ملك الـمالك إنـما يصير ميراثا بعد وفـاته, فإنـما قال جلّ ثناؤه: {ولِلّهِ مِيراثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ} إعلاما بذلك منه عبـاده أن أملاك جميع خـلقه منتقلة عنهم بـموتهم, وأنه لاأحد إلا وهو فـان سواء, فإنه الذي إذا هلك جميع خـلقه, فزالت أملاكهم عنهم لـم يبق أحد يكون له ما كانوا يـملكونه غيره.
وإنـما معنى الاَية: لا تـحسبن الذي يبخـلون بـما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم, بل هو شر لهم, سيطوقون ما بخـلوا به يوم القـيامة, بعد ما يهلكون, وتزول عنهم أملاكهم فـي الـحين الذي لا يـملكون شيئا, وصار لله ميراثه وميراث غيره من خـلقه. ثم أخبر تعالـى ذكره أنه بـما يعمل هؤلاء الذين يبخـلون بـما آتاهم الله من فضل, وغيرهم من سائر خـلقه, ذو خبرة وعلـم, مـحيط بذلك كله, حتـى يجازي كلاّ منهم علـى قدر استـحقاقه, الـمـحسن بـالإحسان, والـمسيء علـى ما يرى تعالـى ذكره