1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ المائدة: 95] .

  
   

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾
[ سورة المائدة: 95]

القول في تفسير قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم


يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تقتلوا صيد البر، وأنتم محرمون بحج أو عمرة، أو كنتم داخل الحرم ومَن قتل أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ متعمدًا فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، بعد أن يُقَدِّره اثنان عدلان، وأن يهديه لفقراء الحرم، أو أن يشتري بقيمة مثله طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام، فَرَضَ الله عليه هذا الجزاء؛ ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فِعْله. والذين وقعوا في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم، ومَن عاد إلى المخالفة متعمدًا بعد التحريم، فإنه مُعَرَّض لانتقام الله منه. والله تعالى عزيز قويٌّ منيع في سلطانه، ومِن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد، لا يمنعه من ذلك مانع.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد البري وأنتم مُحْرِمون بحج أو عمرة، ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاء مماثل لِمَا قتله من الصيد من الإبل أو البقر أو الغنم، يحكم به رجلان متصفان بالعدالة بين المسلمين، وما حكما به يُفْعَلُ به ما يُفْعَلُ بالهدي من الإرسال إلى مكة وذبحه في الحرم، أو قيمة ذلك من الطعام تُدْفع لفقراء الحرم، لكل فقير نصف صاع، أو صيام يوم مقابل كل نصف صاع من الطعام، كل ذلك ليذوق قاتل الصيد عاقبة ما أقدم عليه من قتله.
تجاوز الله عما مضى من قتل صيد الحرم وقتل المحرم صيد البر قبل تحريمه، ومن عاد إليه بعد التحريم انتقم الله منه بأن يعذبه على ذلك، والله قوي منيع، ومن قوته أنه ينتقم ممن عصاه إن شاء، لا يمنعه منه مانع.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 95


«يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم» محرمون بحج أو عمرة «ومن قتله منكم متعمِّدا فجزاءٌ» بالتنوين ورفع ما بعده أي فعليه جزاء هو «مثلُ ما قتل من النعم» أي شبهه في الخلقة وفي قراءة بإضافة جزاء «يحكم به» أي بالمثل رجلان «ذوا عدل منكم» لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلى رضي الله عنهم في النعامة ببدنة، وابن عباس وأبوعبيدة في بقر الوحش وحماره ببقره وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العَبِّ «هديا» حال من جزاء «بالغ الكعبة» أي يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان ونصبه نعتا لما قبله وإن أضيف لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته «أو» عليه «كفارةٌ» غير الجزاء وإن وجده هي «طعامُ مساكين» من غالب قوت البلد ما يساوى قيمته الجزاء لكل مسكين مد، وفي قراءة بإضافة كفارة لما بعده وهي للبيان «أو» عليه «عدل» مثل «ذلك» الطعام «صياما» يصومه عن كل مد يوما وإن وجده وجب ذلك عليه «ليذوق وبال» ثقل جزاء «أمره» الذي فعله «عفا الله عما سلف» من قتل الصيد قبل تحريمه «ومن عاد» إليه «فينتقم الله منه والله عزيز» غالب على أمره «ذو انتقام» ممن عصاه، والحق بقتله متعمداً فيما ذكر الخطأ.

تفسير السعدي : ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم


ثم صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }- أي: محرمون في الحج والعمرة، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام.
وقوله: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا }- أي: قتل صيدا عمدا { فـ } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }- أي: الإبل، أو البقر، أو الغنم، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك، فيجب عليه مثله، يذبحه ويتصدق به.
والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }- أي: عدلان يعرفان الحكم، ووجه الشبه، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث قضوا بالحمامة شاة، وفي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم، ففيه مثله، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته، كما هو القاعدة في المتلفات، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }- أي: يذبح في الحرم.
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ }- أي: كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين،- أي: يجعل مقابلة المثل من النعم، طعام يطعم المساكين.
قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء، فيشترى بقيمته طعام، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره.
{ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا }- أي: يصوم عن إطعام كل مسكين يوما.
{ لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة، فإنه يضمنها على أي حال كان، إذا كان إتلافه بغير حق، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام، وهذا للمتعمد.
وأما المخطئ فليس عليه عقوبة، إنما عليه الجزاء، [هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله.
وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية.
والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم
]

تفسير البغوي : مضمون الآية 95 من سورة المائدة


قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون [ من ] دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم .
نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .
قوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا ) اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة ، وهو قول مجاهد والحسن .
وقال آخرون : هو أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الكفارة .
واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، قال الزهري : على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن [ جبير ] لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .
قوله عز وجل : ( فجزاء مثل ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب " فجزاء " منون ، ) ( مثل ) رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .
( يحكم به ذوا عدل منكم ) أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم ، يحكم حاكم في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة [ وهي لا تساوي بقرة ] وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشا ، فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة [ لا من حيث القيمة ] وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة والقمري .
وروي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .
قوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم ، ( أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر : المثل من جنسه ، والعدل بالفتح : المثل من غير جنسه ، وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاما ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوما وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين .
وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به ، أو يصوم .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما .
وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .
قوله تعالى : ( ليذوق وبال أمره ) أي : جزاء معصيته ، ( عفا الله عما سلف ) يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية ، ( ومن عاد فينتقم الله منه ) في الآخرة .
( والله عزيز ذو انتقام ) وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأل هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال نعم لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئا حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف .
واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاوس وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " .
وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله .
والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم " قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعا من جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


قال القرطبي: قوله-تبارك وتعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب عام لكل مسلم، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في قوله-تبارك وتعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ..الآية وروى أن أبا اليسر- واسمه عمرو بن مالك الأنصارى- كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية .
والمراد بالصيد هنا المصيد، لأنه هو الذي يقع عليه القتل.
وقوله حُرُمٌ جمع حرام.
وهذا اللفظ يتناول المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا.
قال ابن جرير: والحرم جمع حرام، يقال: هذا رجل حرام، وهذه امرأة حرام، فإذا قيل محرم، قيل للمرأة محرمة والإحرام: هو الدخول فيه.
يقال: أحرم القوم: إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم، فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون»والصيد المنهي عن قتله هنا: صيد البر، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله:أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ الآية.
والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأى طريق من طرق الإزهاق، يتناول- أيضا- قتله بطريق التسبب كالإشارة إليه مثلا.
ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه، لقوله-تبارك وتعالى- في مطلع هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
ولقوله-تبارك وتعالى- بعد هذه الآية التي معنا: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً.
فالنهي في قوله-تبارك وتعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أى عمل يؤدى إلى صيد الحيوان.
وإنما كان النهى في الآية منصبا على القتل، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب.
هذا، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم.
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول.
وبهذا الرأى قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء.
ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب.
وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعا، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية.
والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك.
قال الإمام ابن كثير: قوله-تبارك وتعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
هذا تحريم منه-تبارك وتعالى- لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهى عن تعاطيه فيه.
وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعى يجوز قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضا ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» - وفي رواية الحية بدل العقرب- ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور: الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد ضررا منه» .
وقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمعنى: وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أى: ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله، ومثله من قتله خطأ.
والفاء في قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ جزائية إذا اعتبرنا مَنْ شرطية وهو الظاهر، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط.
وقوله: فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين- مبتدأ، ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته، والخبر محذوف.
أى: فعليه جزاء مماثل لما قتله، وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب.
وقرأ باقى السبعة برفع جزاء بدون تنوين- ويجر «مثل» بالإضافة.
وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها: أن تعتبر الإضافة بيانية أى: جزاء هو مثل ما قتل .
وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه:قوله-تبارك وتعالى-: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ذكر- سبحانه - المتعمد ولم يذكر المخطئ ولا الناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.
والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا.
والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا.
الثاني: أن قوله مُتَعَمِّداً خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي وبه قال الطبري وأحمد- في إحدى روايته- وطاوس وداود وأبو ثور..الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، وبه قال مالك والشافعى وأبو حنيفة وأصحابهم.
قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة.
فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ.
الخامس: أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه- وهو قول مجاهد-، لقوله-تبارك وتعالى- بعد ذلك وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة.
قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه» .
ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعى، ومالك أقرب إلى الصواب، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات ومادام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ.
وقد اختلف العلماء- أيضا في المراد بالمثل في قوله-تبارك وتعالى- وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير.
أى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المقتول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإبل والبقر والغنم.
ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيدا بكونه من النعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم.
قال ابن كثير: وفي قوله-تبارك وتعالى-: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ دليل لما ذهب إليه مالك والشافعى وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسى، خلافا لأبى حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أم غير مثلي.
قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه.
وإن شاء اشترى به هديا.
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز.
وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة» .
ثم بين- سبحانه - بعد ذلك طريق معرفة الجزاء، ومآله، وأنواعه، فقال-تبارك وتعالى- يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.
والضمير في قوله بِهِ يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول.
وقوله: هَدْياً حال من جزاء، أو منصوب على المصدرية.
أى يهديه هديا.
والهدى: اسم لما يذبح في الحج لإهدائه إلى فقراء مكة.
وقوله بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لقوله هَدْياً لأنه إضافته لفظية.
وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ معطوف على جزاء.
وأو للتخيير، وكذلك في قوله أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.
والعدل- بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه.
وأما بالكسر فما عادله من جنسه.
وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا.
والمعنى الإجمالى للآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعليه جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر، أو في القيمة، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أى: يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، أو يكون على قاتل الصيد كَفَّارَةٌ هي طَعامُ مَساكِينَ بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوى قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطى لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا.
وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته، يشترى بها طعاما لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوما.
وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوى قيمة هذا الجزاء طعاما، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما.
وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء.
أما أبو حنيفة فيرى- كما سبق أن أشرنا- أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو، فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشترى بها هديا يهدى إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء، وبين أن يشترى بها طعاما للمساكين، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما.
والمراد من الكعبة هنا الحرم وإنما خصت بالذكر تعظيما لها.
قال بعض العلماء: ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرم، فإن تعذر ذلك كان الطعام، فإن تعذر كان الصيام.
هذا هو الظاهر عند الحنفية.
وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين، وبين الصوم.
وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر.
والمذاهب الأخرى تلتقي في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف.
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة» .
هذا، وقوله-تبارك وتعالى- لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ تعليل لإيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد.
وقوله لِيَذُوقَ من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك.
والمراد به هنا: إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة.
والوبال في الأصل: الثقل والشدة والوخامة.
ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة.
ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله.
والمراد به هنا: سوء عاقبة فعله.
والمعنى: شرعنا ما شرعنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيئ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدى إلى الخسارة في الدنيا والآخرة.
قال الإمام الرازي: وإنما سمى الله-تبارك وتعالى- ذلك وبالا، لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال- وهو ثقيل على الطبع- وهما: الجزاء بالمثل والإطعام.
والثالث:يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع.
والمعنى أنه-تبارك وتعالى- أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام» .
وقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم، لأنه- سبحانه - لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهى عنها.
ثم ختم- سبحانه - الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
أى: ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهى عن ذلك فإن الله-تبارك وتعالى- ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو- سبحانه - العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأى وسيلة من الوسائل.
هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر القتل وأن عقوبة الآخرة- وهي انتقام الله من الجاني- لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا.
قال ابن كثير.
ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال على بن طلحة عن ابن عباس قال: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله.
فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة.
فإن عاد يقال له ينتقم الله منك» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد.
ثم بين- سبحانه - ما أحله للمحرم وما حرمه عليه مما يتعلق بالصيد فقال-تبارك وتعالى-:

ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم: تفسير ابن كثير


ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها . والجمهور على تحريم قتلها أيضا ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أم المؤمنين ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " .
وقال مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " . أخرجاه .
ورواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله . قال أيوب ، قلت لنافع : فالحية؟ قال : الحية لا شك فيها ، ولا يختلف في قتلها .
ومن العلماء - كمالك وأحمد - من ألحق بالكلب العقور الذئب ، والسبع ، والنمر ، والفهد ; لأنها أشد ضررا منه ، فالله أعلم . وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها . واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال : " اللهم سلط عليه كلبك بالشام " فأكله السبع بالزرقاء ، قالوا : فإن قتل ما عداهن فداها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك .
قال مالك : وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها ، وصغار الملحق بها من السباع العوادي .
وقال الشافعي [ رحمه الله ] يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه ، ولا فرق بين صغاره وكباره . وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل .
وقال أبو حنيفة : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب ; لأنه كلب بري ، فإن قتل غيرهما فداه ، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه . وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي .
وقال زفر بن الهذيل : يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه .
وقال بعض الناس : المراد بالغراب هاهنا الأبقع وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، دون الأدرع وهو الأسود ، والأعصم وهو الأبيض ; لما رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطان ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور " .
والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك ; لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه .
وقال مالك ، رحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه .
وقال مجاهد بن جبر وطائفة : لا يقتله بل يرميه . ويروى مثله عن علي .
وقد روى هشيم : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه سئل عما يقتل المحرم ، فقال : " الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي " .
رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل والترمذي ، عن أحمد بن منيع ، كلاهما عن هشيم . وابن ماجه ، عن أبي كريب ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : نبئت عن طاوس قال : لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ ، إنما يحكم على من أصابه متعمدا .
وهذا مذهب غريب عن طاوس ، وهو متمسك بظاهر الآية .
وقال مجاهد بن جبير : المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد ، الناسي لإحرامه . فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه ، فذاك أمره أعظم من أن يكفر ، وقد بطل إحرامه .
رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح وليث بن أبي سليم وغيرهما ، عنه . وهو قول غريب أيضا . والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه . قال الزهري : دل الكتاب على العامد ، وجرت السنة على الناسي ، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله : { ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ ، كما دل الكتاب عليه في العمد ، وأيضا فإن قتل الصيد إتلاف ، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان ، لكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم .
وقوله : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها : " فجزاؤه مثل ما قتل من النعم " .
وفي قوله : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد ، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم ، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي ، خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله - حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلي ، قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه ، وإن شاء اشترى به هديا . والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز ، وذكر قضايا الصحابة ، وأسانيدها مقرر في كتاب " الأحكام " ، وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه ، يحمل إلى مكة . رواه البيهقي . وقوله : { يحكم به ذوا عدل منكم } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل ، أو بالقيمة في غير المثل ، عدلان من المسلمين ، واختلف العلماء في القاتل : هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين : أحدهما : " لا ; لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه ، وهذا مذهب مالك .
والثاني : نعم ; لعموم الآية . وهو مذهب الشافعي وأحمد .
واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوما عليه في صورة واحدة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا جعفر - هو ابن برقان - عن ميمون بن مهران أن أعرابيا أتى أبا بكر قال : قتلت صيدا وأنا محرم ، فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر ، رضي الله عنه ، لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك ، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر : وما تنكر؟ يقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به .
وهذا إسناد جيد ، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ، ومثله يحتمل هاهنا . فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة ، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم ، فأما إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وكيع بن الجراح ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجا ، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي - أو : برح - فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه فركب ردعه ميتا ، قال : فعظمنا عليه ، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه ، قال : فقص عليه القصة قال : وإلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة - يعني عبد الرحمن بن عوف - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال : ثم أقبل على الرجل فقال : أعمدا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله . فقال عمر : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها . قال : فقمنا من عنده ، فقلت لصاحبي : أيها الرجل ، عظم شعائر الله ، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه : اعمد إلى ناقتك فانحرها ، ففعل ذاك . قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة : { يحكم به ذوا عدل منكم } قال : فبلغ عمر مقالتي ، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة . قال : فعلا صاحبي ضربا بالدرة ، وجعل يقول : أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟ قال : ثم أقبل علي فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني ، قال : يا قبيصة بن جابر ، إني أراك شاب السن ، فسيح الصدر ، بين اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب .
وقد روى هشيم هذه القصة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة ، بنحوه . ورواها أيضا عن حصين ، عن الشعبي ، عن قبيصة ، بنحوه . وذكرها مرسلة عن عمر : بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي وائل ، أخبرني أبو جرير البجلي قال : أصبت ظبيا وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك . فأتيت عبد الرحمن وسعدا ، فحكما علي بتيس أعفر .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا ابن عيينة ، عن مخارق عن طارق قال : أوطأ أربد ظبيا فقتلته وهو محرم فأتى عمر ; ليحكم عليه ، فقال له عمر : احكم معي ، فحكما فيه جديا ، قد جمع الماء والشجر . ثم قال عمر : { يحكم به ذوا عدل منكم }
وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين ، كما قاله الشافعي وأحمد ، رحمهما الله .
واختلفوا : هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم ، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل ، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة ، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين ، فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعا مقررا لا يعدل عنه ، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين . وقال مالك وأبو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد ، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا ; لقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم }
وقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } أي: واصلا إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم ، بأن يذبح هناك ، ويفرق لحمه على مساكين الحرم . وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة .
وقوله : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال ، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام ، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وأحد قولي الشافعي ، والمشهور عن أحمد رحمهم الله ، لظاهر الآية " أو " فإنها للتخيير . والقول الآخر : أنها على الترتيب .
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة ، فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم . وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجودا ، ثم يشترى به طعام ويتصدق به ، فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز ، واختاره ابن جرير .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يطعم كل مسكين مدين ، وهو قول مجاهد .
وقال أحمد : مد من حنطة ، أو مدان من غيره . فإن لم يجد ، أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوما .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يوما . كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه ، فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يطعم فرقا بين ستة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، والفرق ثلاثة آصع .
واختلفوا في مكان هذا الإطعام ، فقال الشافعي : محله الحرم ، وهو قول عطاء . وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد ، أو أقرب الأماكن إليه . وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم ، وإن شاء أطعم في غيره .
ذكر أقوال السلف في هذا المقام :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به . وإن لم يجد نظر كم ثمنه ، ثم قوم ثمنه طعاما ، فصام مكان كل نصف صاع يوما ، قال : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } قال : إنما أريد بالطعام الصيام ، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه .
ورواه ابن جرير ، من طريق جرير .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } إذا قتل المحرم شيئا من الصيد ، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبيا أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة . فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . فإن قتل إبلا أو نحوه ، فعليه بقرة . فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا . فإن لم يجد صام عشرين يوما . وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل . فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا . فإن لم يجد صام ثلاثين يوما .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وزاد : والطعام مد ؛ مد تشبعهم .
وقال جابر الجعفي ، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد : { أو عدل ذلك صياما } قالوا : إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي . رواه ابن جرير .
وكذا روى ابن جريج ، عن مجاهد وأسباط ، عن السدي أنها على الترتيب .
وقال عطاء وعكرمة ومجاهد - في رواية الضحاك - وإبراهيم النخعي : هي على الخيار . وهو رواية الليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . واختار ذلك ابن جرير ، رحمه الله تعالى .
وقوله : { ليذوق وبال أمره } أي: أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عفا الله عما سلف } أي: في زمان الجاهلية ، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ، ولم يرتكب المعصية .
ثم قال : { ومن عاد فينتقم الله منه } أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
قال ابن جريج ، قلت لعطاء : ما { عفا الله عما سلف } قال : عما كان في الجاهلية . قال : قلت : وما { ومن عاد فينتقم الله منه } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام ، فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة قال : قلت : فهل في العود حد تعلمه؟ قال : لا . قال : قلت : فترى حقا على الإمام أن يعاقبه؟ قال : لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ، عز وجل ، ولكن يفتدي . رواه ابن جرير .
وقيل معناه : فينتقم الله منه بالكفارة . قاله سعيد بن جبير وعطاء .
ثم الجمهور من السلف والخلف ، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ، ولا فرق بين الأولى والثانية وإن تكرر ما تكرر ، سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : من قتل شيئا من الصيد خطأ ، وهو محرم ، يحكم عليه فيه كلما قتله ، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة ، فإن عاد يقال له : ينتقم الله منك كما قال الله عز وجل .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعا ، عن هشام - هو ابن حسان - عن عكرمة عن ابن عباس فيمن أصاب صيدا فحكم عليه ثم عاد ، قال : لا يحكم عليه ، ينتقم الله منه .
وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي . رواهن ابن جرير ، ثم اختار القول الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن زيد أبي المعلى ، عن الحسن البصري ; أن رجلا أصاب صيدا ، فتجوز عنه ، ثم عاد فأصاب صيدا آخر ، فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله : { ومن عاد فينتقم الله منه }
وقال ابن جرير في قوله : { والله عزيز ذو انتقام } يقول عز ذكره : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع ; لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، له العزة والمنعة .
وقوله : { ذو انتقام } يعني : أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه .

تفسير القرطبي : معنى الآية 95 من سورة المائدة


قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام .
فيه ثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد الآية ، وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم .
الثانية : قوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد ) القتل هو كل فعل يفيت الروح ، وهو أنواع : منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه ; فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتا للروح .
الثالثة : من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله ; وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : عليه جزاء ما أكل ; يعني قيمته ، وخالفه صاحباه فقالا : لا شيء عليه سوى الاستغفار ; لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى ; ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار ، وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه ; لأن قتله كان من محظورات الإحرام ، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول ، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى .
الرابعة : لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد ، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله ; وبه قال أبو حنيفة .
وقال الشافعي : ذبح المحرم للصيد ذكاة ; وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم ، مضاف إلى محله وهو الأنعام ; فأفاد مقصوده من حل الأكل ; أصله ذبح الحلال .
قلنا : قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد ; إذ الأهلية لا تستفاد عقلا ، وإنما يفيدها الشرع ; وذلك بإذنه في الذبح ، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح ، والمحرم منهي عن ذبح الصيد ; لقوله : لا تقتلوا الصيد فقد انتفت الأهلية بالنهي ، وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله ، وإنما يأكل منه غيره عندكم ; فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره ، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه ; فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله .
الخامسة : قوله تعالى : الصيد مصدر عومل معاملة الأسماء ، فأوقع على الحيوان المصيد ; ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ; على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى .
السادسة : اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه ; فقال مالك : كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه .
قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ; وهي مثل فراخ الغربان ، ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب ; مثل الأسد والذئب والنمر والفهد ; وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة .
قال إسماعيل : إنما ذلك لقوله عليه السلام : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحديث ; فسماهن فساقا ; ووصفهن بأفعالهن ; لأن الفاسق فاعل للفسق ، والصغار لا فعل لهن ، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر ; فلا تدخل في هذا النعت .
قال القاضي إسماعيل : الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس .
قال : ومن ذلك الحية والعقرب ; لأنه يخاف منهما ، وكذلك الحدأة والغراب ; لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس .
قال ابن بكير : إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة ; وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر ، وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها ; وقد روي يطعم قاتله شيئا ; وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه ، وقال أصحاب الرأي : لا شيء على قاتل هذه كلها .
وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة ، سواء ابتدآه أو ابتدأهما ; وإن قتل غيره من السباع فداه .
قال : فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه ; قال : ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة ، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر ; وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن ; واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دوابا بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ; فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها .
قلت : العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر ، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله ! وقال زفر بن الهذيل : لا يقتل إلا الذئب وحده ، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية ، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه ; لأنه عجماء فكان فعله هدرا ; وهذا رد للحديث ومخالفة له ، وقال الشافعي : كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله ; وصغار ذلك وكباره سواء ، إلا السمع وهو المتولد بين الذئب والضبع ، قال : وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء ; لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ; حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع ; فإن قيل : فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل ؟ قيل له : ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه ; لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، فكأنه أماط بعض شعره ; فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي ، وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي ; قاله أبو عمر .
السابعة : روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .
اللفظ للبخاري ; وبه قال أحمد وإسحاق ، وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ، وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا : لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة ; لأنه تقييد مطلق .
وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ويرمي الغراب ولا يقتله ، وبه قال مجاهد ، وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر ، والله أعلم ، وعند أبي داود والترمذي : والسبع العادي ; وهذا تنبيه على العلة .
الثامنة : قوله تعالى : وأنتم حرم عام في النوعين من الرجال والنساء ، الأحرار والعبيد ; يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وجمع ذلك حرم ; كقولهم : قذال وقذل .
وأحرم الرجل دخل في الحرم ; كما يقال : أسهل دخل في السهل ، وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم .
يقال : رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم ، أو تلبس بالإحرام ; إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا ، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف ; قاله ابن العربي .
التاسعة : حرم المكان حرمان ، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف ، فلا يجوز عنده قطع شجره ، ولا صيد صيده ، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة ، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما ، وقال ابن أبي ذئب : عليه الجزاء ، وقال سعد : جزاؤه أخذ سلبه ، وروي عن الشافعي .
وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك قطع شجرها ، واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه ، وأخذ سعد سلب من فعل ذلك .
قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة ، فدل ذلك على أنه منسوخ ، واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النغير ; فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه .
أما الحديث الأول فليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة ، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا ، وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم ، وكذلك حديث عائشة ; أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر ، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض ، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه ، ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين لابتيها حرام فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة ، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة ، وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة ; دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة ، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد .
ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة .
قال القاضي عبد الوهاب : وهذا قول أقيس عندي على أصولنا ، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ، ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة .
وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به ; لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه ، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم ; فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرد عليهم ; فقوله : ( نفلنيه ) ظاهره الخصوص ، والله أعلم .
العاشرة : قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي ; والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام ، والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا ، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه ، واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال : الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا .
الثاني : أن قوله : " متعمدا " خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة .
الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي ; وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، وبه قال طاوس وأبو ثور ، وهو قول داود ، وتعلق أحمد بأن قال : لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر ، دل على أن غيره بخلافه ، وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل .
الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ; قاله ابن عباس ، وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم .
قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة ; قال ابن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي ، وما أحسنها أسوة .
الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك : ومن عاد فينتقم الله منه .
قال : ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة ، قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه ; قال مجاهد : فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه ، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة ، أو أحدث فيها ; قال : ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه ، ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له ، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان ; وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا ، ويستغفر الله ، وحجه تام ; وبه قال ابن زيد ، ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال : هي صيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ .
وقال ابن بكير من علمائنا : قوله سبحانه : متعمدا لم يرد به التجاوز عن الخطأ ، وإنما أراد متعمدا ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة ، وأن الصيد فيه كفارة ، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ ، والله أعلم .
الحادية عشرة : فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ; لقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له ، وروي عن ابن عباس قال : لا يحكم عليه مرتين في الإسلام ، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ; لقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه ، وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح ، ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام ، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام .
الثانية عشرة : قوله تعالى : متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فيه أربع قراءات ; " فجزاء مثل " برفع ( جزاء ) وتنوينه ، و " مثل " على الصفة ، والخبر مضمر ، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم ، وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه .
و " جزاء " بالرفع غير منون و " مثل " بالإضافة أي : فعليه جزاء مثل ما قتل ، و " مثل " مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك ، وأنت تقصد أنا أكرمك ، ونظير هذا قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات التقدير كمن هو في الظلمات ; وقوله : ليس كمثله شيء أي : ليس كهو شيء ، وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل ; إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وقال أبو علي : إنما يجب عليه جزاء المقتول ، لا جزاء مثل المقتول ، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول .
وهو قول الشافعي على ما يأتي ، وقوله : من النعم صفة لجزاء على القراءتين جميعا ، وقرأ الحسن " من النعم " بإسكان العين وهي لغة ، وقرأ عبد الرحمن " فجزاء " بالرفع والتنوين " مثل " بالنصب ; قال أبو الفتح : " مثل " منصوبة بنفس الجزاء ; والمعنى أن يجزى مثل ما قتل ، وقرأ ابن مسعود والأعمش " فجزاؤه مثل " بإظهار ( هاء ) ; ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل .
الثالثة عشرة : الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى ، وفي ( المدونة ) : من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال : لا جزاء عليه .
قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه ، وقيل : عليه من الجزاء بقدر ما نقصه .
ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه ، ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد ، أو تركه مخوفا عليه فعليه جزاؤه كاملا .
الرابعة عشرة : ما يجزى من الصيد شيئان : دواب وطير ; فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة ، وفي الظبي شاة ; وبه قال الشافعي ، وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية ; وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه ، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام ، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة ; فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك ، والدبسي والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام ، وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة ; قال : وكذلك حمام الحرم ; قال : وفي حمام الحل حكومة ، وقال أبو حنيفة : إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة ، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه ، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله ; فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء ، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل ، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء ; فإن المثل هو الأصل في الوجوب ; وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة " فجزاء مثل " .
احتج أبو حنيفة فقال : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا ، في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة ، لما أوقفه على عدلين يحكمان به ; لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ; وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه ، ويضطرب وجه النظر عليه .
ودليلنا عليه قول الله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية .
فالمثل يقتضي بظاهرة المثل الخلقي الصوري دون المعنى ، ثم قال : من النعم فبين جنس المثل ; ثم قال : يحكم به ذوا عدل منكم وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ; لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه ; ثم قال : هديا بالغ الكعبة والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم ، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية ; فصح ما ذكرناه ، والحمد لله ، وقولهم : لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين ; فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر ، وما لا جنس له مما له جنس ، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص .
الخامسة عشرة : من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة .
قال مالك : وفي صغار الصيد مثل ما في كباره ; وهو قول عطاء ، ولا يفدى عند مالك شيء بعناق ولا جفرة ; قال مالك : وذلك مثل الدية ; الصغير والكبير فيها سواء ، وفي الضب عنده واليربوع قيمتهما طعاما ، ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد ، وفي اعتبار الجذع والثني ، ويقول بقول عمر : في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ; رواه مالك موقوفا ، وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة قال : والجفرة التي قد ارتعت ، وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير : وما الجفرة ؟ قال : التي قد فطمت ورعت .
خرجه الدارقطني ، وقال الشافعي : في النعامة بدنة ، وفي فرخها فصيل ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي سخله عجل ; لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة ، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات .
قال ابن العربي : وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا ; قالوا : ولو كان الصيد أعورا أو أعرجا أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية ، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف ، ودليلنا قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ولم يفصل بين صغير وكبير ، وقوله : هديا يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق ، وذلك يقتضي الهدي التام ، والله أعلم .
السادسة عشرة : في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك ، وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة .
قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر ; فإن استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير .
قال ابن المواز : بحكومة عدلين ، وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة .
روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه ; خرجه الدارقطني ، وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين .
السابعة عشرة : وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام ، دون ما يراد له من الأغراض ; لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله ، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره ، ولأن الناس قائلان - أي : على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد ; ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم ; فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له ، وأما الفيل فقيل : فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان ; وهي بيض خراسانية ، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما ، فيكون عليه ذلك ، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب ، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء ، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه ، وهذا عدله من الطعام ، وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية ، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى ؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه : تعال حتى أحكم أنا وأنت ; فحكما عليه بعنز ; فولى الرجل وهو يقول : هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه ، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله ، هل تقرأ سورة " المائدة " ؟ فقال : لا ; قال : هل تعرف الرجل الذي حكم معي ؟ فقال : لا ، فقال عمر رضي الله عنه : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة " المائدة " لأوجعتك ضربا ، ثم قال : إن الله سبحانه يقول في كتابه : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وهذا عبد الرحمن بن عوف .
التاسعة عشرة : إذا اتفق الحكمان لزم الحكم ; وبه قال الحسن والشافعي ، وإن اختلفا نظر في غيرهما ، وقال محمد بن المواز : لا يأخذ بأرفع من قوليهما ; لأنه عمل بغير تحكيم ، وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام ; لأنه أمر قد لزم ; قاله ابن شعبان ، وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا ، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز ، وقال ابن وهب رحمه الله في ( العتبية ) : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد ، كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي ; وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه ، أو يصوم مكان كل مد يوما ; وكذلك قال مالك في ( المدونة ) .
الموفية عشرين : ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض ، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا ، وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة ، ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم .
الحادية والعشرون : لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي في أحد قوليه : يكون الجاني أحد الحكمين ; وهذا تسامح منه ; فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر ، وإفساد للمعنى ; لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز ، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره ; لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين .
الثانية والعشرون : إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد جزاء كامل .
وقال الشافعي : عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن ، وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها ، فوقع في أنفسهم ، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال : عليكم كلكم كبش ; قالوا : أو على كل واحد منا كبش ; قال : إنكم لمعزز بكم ، عليكم كلكم كبش .
قال اللغويون : لمعزز بكم أي : لمشدد عليكم ، وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال : عليهم كبش يتخارجونه بينهم ، ودليلنا قول الله سبحانه : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم وهذا خطاب لكل قاتل ، وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال ، بدليل قتل الجماعة بالواحد ، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص ، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم ; فثبت ما قلناه .
الثالثة والعشرون : قال أبو حنيفة : إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم محلون ، عليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم ; فإن ذلك لا يختلف ، وقال مالك : على كل واحد منهم جزاء كامل ، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم ، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام ، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي ، فهو هاتك لها في الحالتين .
السابعة : وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال : السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة ، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه ، وإذا قتل المحلون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ; فإن كل واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة .
قال ابن العربي : وأبو حنيفة أقوى منا ، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد ، ويرسل من الحل إلى مكة ، وينحر ويتصدق به فيها ; لقوله : هديا بالغ الكعبة ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها ، إذ هي في المسجد ، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا ، وقال الشافعي : لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد ، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : أو كفارة طعام مساكين الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي .
قال ابن وهب قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه ، أنه يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ، فيطعم لكل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما ، وقال ابن القاسم عنه : إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه ; والصواب الأول ، وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار ; أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا ، وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء ; لأن أو للتخيير قال مالك : كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل ، وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة ; فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام ; وإن قتل إيلا أو نحوه فعليه بقرة ، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما ; وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة ، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما ، والطعام مد مد لشبعهم .
وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة ، قالوا : والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه ، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به ، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم ، ثم قومت الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما ; وقال : إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام ، فمن لم يجد طعاما ، فإنه يجد جزاءه ، وأسنده أيضا عن السدي ، ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره .
السادسة والعشرون : اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف ; فقال قوم : يوم الإتلاف ، وقال آخرون : يوم القضاء ، وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين ، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم .
قال ابن العربي : واختلف علماؤنا كاختلافهم ، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف ; والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه ، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله ، وذلك في وقت العدم .
السابعة والعشرون : أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة ; لقوله تعالى : هديا بالغ الكعبة ، وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة ; وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي ، وقال عطاء : ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء ; وهو قول مالك في الصوم ، ولا خلاف فيه .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام ، وقال حماد وأبو حنيفة : يكفر بموضع الإصابة مطلقا ، وقال الطبري : يكفر حيث شاء مطلقا ، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر ، ولا أثر فيه .
وأما من قال يصوم حيث شاء ; فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها .
وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة ; فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له ، والهدي حق لمساكين مكة ، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره ، وأما من قال إنه يكون بكل موضع ; فاعتبار بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع ، والله أعلم .
الثامنة والعشرون : قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل ; قاله الكسائي ، وقال الفراء : عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه ، وبفتح العين مثله من غير جنسه ، ويؤثر هذا القول عن الكسائي ، تقول : عندي عدل دراهمك من الدراهم ، وعندي عدل دراهمك من الثياب ; والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان ، وهو قول البصريين ، ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد قال مالك : يصوم عن كل مد يوما ، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة ; وبه قال الشافعي ، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا : إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فعرف العدد ، ثم يقال : كم من الطعام يشبع هذا العدد ; فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده ، وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة ; فبهذا النظر يكثر الإطعام ، ومن أهل العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين ; قالوا : لأنها أعلى الكفارات ، واختاره ابن العربي ، وقاله أبو حنيفة رحمه الله : يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى .
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : ليذوق وبال أمره الذوق هنا مستعار كقوله تعالى : ذق إنك أنت العزيز الكريم وقال : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان ، وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا .
الحديث .
والوبال سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله ، وطعام وبيل إذا كان ثقيلا ; ومنه قوله :فمرت كهاة ذات خيف جلالة عقيلة شيخ كالوبيل يلنددوعبر بأمره عن جميع حاله .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : عفا الله عما سلف يعني في جاهليتكم من قتلكم الصيد ; قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه ، وقيل : قبل نزول الكفارة .
ومن عاد يعني للمنهي فينتقم الله منه أي : بالكفارة ، وقيل : المعنى فينتقم الله منه يعني في الآخرة إن كان مستحلا ; ويكفر في ظاهر الحكم ، وقال شريح وسعيد بن جبير : يحكم عليه في أول مرة ، فإذا عاد لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، أي : ذنبك أعظم من أن يكفر ، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم إثمها ، والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير ، وقد روي عن ابن عباس : يملأ ظهره سوطا حتى يموت ، وروي عن زيد بن أبي المعلى : أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه ، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته ; وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية .
قوله تعالى : والله عزيز ذو انتقام عزيز أي : منيع في ملكه ، ولا يمتنع عليه ما يريده .
ذو انتقام ممن عصاه إن شاء .

﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ﴾ [ المائدة: 95]

سورة : المائدة - الأية : ( 95 )  - الجزء : ( 7 )  -  الصفحة: ( 123 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: هدى وذكرى لأولي الألباب
  2. تفسير: فبأي آلاء ربكما تكذبان
  3. تفسير: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
  4. تفسير: وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل
  5. تفسير: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في
  6. تفسير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله
  7. تفسير: ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
  8. تفسير: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
  9. تفسير: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان
  10. تفسير: وإذا البحار فجرت

تحميل سورة المائدة mp3 :

سورة المائدة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة المائدة

سورة المائدة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة المائدة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة المائدة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة المائدة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة المائدة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة المائدة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة المائدة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة المائدة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة المائدة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة المائدة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب