ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ) أي : لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب ، ( ولو حرصتم ) على العدل ، ( فلا تميلوا ) أي : إلى التي تحبونها ، ( كل الميل ) في القسم والنفقة ، أي : لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم ، ( فتذروها كالمعلقة ) أي فتدعوا الأخرى كالمنوطة لا أيما ولا ذات بعل . وقال قتادة : كالمحبوسة ، وفي قراءة أبي بن كعب : كأنها مسجونة .وروي عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه ، فيعدل ويقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ، ورواه بعضهم عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها متصلا .وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " . ( وإن تصلحوا وتتقوا ) الجور ، ( فإن الله كان غفورا رحيما ) .
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
( والذين آمنوا بالله ورسله ) كلهم ( ولم يفرقوا بين أحد منهم ) يعني : بين الرسل وهم المؤمنون ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله ، ( أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) بإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، قرأ حفص عن عاصم ( يؤتيهم ) بالياء ، أي : ( يؤتيهم الله ) ، والباقون بالنون ( وكان الله غفورا رحيما )
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم
قوله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى ، ( والمنخنقة ) وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، ( والموقوذة ) هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها ، ( والمتردية ) هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت ، ( والنطيحة ) وهي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء فقالوا : رأينا كحيلة وخضيبة ، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة والنسيكة ، وأكيلة السبع ( وما أكل السبع ) يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ، ( إلا ما ذكيتم ) يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء .وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر " .وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح ، فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالا وإن ذبحته ، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حية قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل ، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع؛ لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .( وما ذبح على النصب ) قيل: النصب جمع واحده نصاب ، وقيل: هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب .واختلفوا فيه ، فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام أي : وما ذبح لأجل النصب .( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام ، والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها : زلم ، وزلم بفتح الزاي وضمها ، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد : نعم ، وعلى واحد : لا وعلى واحد : منكم ، وعلى واحد : من غيركم ، وعلى واحد : ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره ، أو تدارءوا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية ، فإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم كان وسطا منهم ، وإن خرج من غيركم كان حليفا ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه ، وقال : ( ذلكم فسق ) قال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم ، وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج ، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [ أبو المختار ] عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلا من الجنة يوم القيامة " .قوله عز وجل : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .( فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له : " يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرأونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أية آية؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا " .قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .روى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر " ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكن شيء قط إلا نقص ، قال : صدقت .وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما ، ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [ سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل: توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ] وكانت هجرته في الثاني عشر .قوله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض . هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها .وقال سعيد بن جبير وقتادة : أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك .وقيل: أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو .قوله عز وجل : ( وأتممت عليكم نعمتي ) يعني : وأنجزت وعدي في قول " ولأتم نعمتي عليكم " ( سورة البقرة ، 150 ) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) سمعت عبد الواحد المليحي قال : سمعت أبا محمد بن أبي حاتم ، قال : سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه ، سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه "قوله عز وجل : ( فمن اضطر في مخمصة ) أي : أجهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن إذا كان طاويا خاويا ، ( غير متجانف لإثم ) أي : مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده ، ( فإن الله غفور رحيم ) وفيه إضمار ، أي : فأكله فإن الله غفور رحيم .أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟ فقال : " ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها " .
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم
( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار ، قال معناه : إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال ، وأما المسلمون المحاربون فمن [ تاب ] منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله ، ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه ، وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه [ القطع ] وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه .وقال بعضهم : إذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرده إلى صاحبه .وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ المال ، ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة [ في دم ولا مال ، إلا أن يوجد معه مال فيرد إلى صاحبه ] أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها .وقيل: كل عقوبة تجب حقا لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة بكل حال ، والأكثرون على أنها لا تسقط .
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم
( فمن تاب من بعد ظلمه ) أي : سرقته ، ( وأصلح ) العمل ، ( فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) هذا فيما بينه وبين الله تعالى ، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين ، قال مجاهد : قطع السارق توبته ، فإذا قطع حصلت التوبة ، والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية ، كما قال : ( جزاء بما كسبا ) فلا بد من التوبة بعد ، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل ، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا غرم عليه ، وبالاتفاق إن كان المسروق باقيا عنده يسترد وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد ، فلا يمنع أحدهما الآخر ، كاسترداد العين .
( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ) ؟ قال الفراء : هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى : فهل أنتم منتهون ( المائدة ، 91 ) ، أي : انتهوا ، والمعنى : أن الله [ يأمركم ] بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم ، ( والله غفور رحيم )
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر فقال : " لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم " ، فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كان رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي؟ قال " حذافة " : ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط ، إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط " ، وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) .قال يونس عن ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعت بابن قط أعق منك ، أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته . وروي عن عمر قال : يا رسول الله إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك ، فسكن غضبه .أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل بن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى فرغ من الآية كلها . وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت : ( ولله على الناس حج البيت ) قال رجل : يا رسول الله أفي كل عام فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) أي : إن تظهر لكم تسؤكم ، أي : إن أمرتم بالعمل بها ، فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه ، ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح .وقال مجاهد نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ألا تراه ذكرها بعد ذلك؟ ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) معناه صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم ، وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست حاجتكم إليه ، فإذا سألتم عنها حينئذ تبدى لكم ، ( عفا الله عنها والله غفور حليم)
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم
قوله عز وجل : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام .وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين .( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) أي : قضى على نفسه الرحمة ، ( أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ) قال مجاهد : لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب ، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب ، وقيل: جهالته من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ( ثم تاب من بعده ) رجع عن ذنبه ، ( وأصلح ) عمله ، قيل: أخلص توبته ، ( فإنه غفور رحيم ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب " أنه من عمل منكم " " فأنه غفور رحيم " بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة ، أي : كتب على نفسه أنه من عمل منكم ، ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى ، كقوله تعالى : " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " ، ( المؤمنون ، 35 ) ، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف ، وكسرهما الآخرون على الاستئناف .
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم
ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل ، فقال : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) وروي أنهم قالوا : فما المحرم إذا فنزل : ( قل ) يا محمد ( لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) أي : شيئا محرما ، ( على طاعم يطعمه ) آكل يأكله ، ( إلا أن يكون ميتة ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر " تكون " بالتاء ، ( ميتة ) رفع أي : إلا أن تقع ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزة " تكون " بالتاء ، ( ميتة ) نصب على تقدير اسم مؤنث ، أي : إلا أن تكون النفس ، أو : الجثة ميتة ، وقرأ الباقون " يكون " بالياء " ميتة " نصب ، يعني إلا أن يكون المطعوم ميتة ، ( أو دما مسفوحا ) أي : مهراقا سائلا قال ابن عباس : يريد ما خرج من الحيوان ، وهن أحياء وما خرج من الأرواح وما يخرج من الأوداج عند الذبح ، ولا يدخل فيه الكبد والطحال ، لأنهما جامدان ، وقد جاء الشرع بإباحتهما ، ولا ما اختلط باللحم من الدم ، لأنه غير سائل .قال عمران بن حدير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم ، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم؟ فقال : لا بأس به ، إنما نهى عن الدم المسفوح .وقال إبراهيم : لا بأس بالدم في عرق أو مخ ، إلا المسفوح الذي تعمد ذلك ، وقال عكرمة : لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود .( أو لحم خنزير فإنه رجس ) حرام ، ( أو فسقا أهل لغير الله به ) وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى . فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء . يروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا : ويدخل في الميتة : المنخنقة والموقوذة ، وما ذكر في أول سورة المائدة .وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء ، والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا .ذلك معنى قوله تعالى : " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " ، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها .منها : ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ، قال ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " .والأصل عند الشافعي : أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل ، فإن كان مما أمر الشرع بقتله - كما قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم " أو نهى عن قتله ، كما روي أنه نهى عن قتل النحلة والنملة - فهو حرام ، وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب ، فما يأكله الأغلب منهم فهو حلال ، وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام ، لأن الله تعالى خاطبهم بقوله : ( قل أحل لكم الطيبات ) ، فثبت أن ما استطابوه فهو حلال .( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) أباح أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان .