قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم
قول معروف ) أي كلام حسن ورد على السائل جميل وقيل: عدة حسنة . وقال الكلبي : دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب وقال الضحاك : نزلت في إصلاح ذات البين ( ومغفرة ) أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره وقال الكلبي والضحاك : بتجاوز عن ظالمه ، وقيل يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده ( خير من صدقة ) يدفعها إليه ( يتبعها أذى ) أي من وتعيير للسائل أو قول يؤذيه ( والله غني ) أي مستغن عن صدقة العباد ( حليم ) لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة .
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ) خيار قال ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد : من حلالات ( ما كسبتم ) بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه " .أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني ، أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم ، أخبرنا يحيى بن عبيد ، أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد بن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يكتسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل الله منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث " .والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم فبعد الحول يقوم العروض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرين دينارا أو مائتي درهم قال سمرة بن جندب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع " .وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر : ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت : ما لي غير هذا وأهب في القرظ ، فقال ذاك مال فضع فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة .قوله تعالى : ( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقيا بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة وإن كان مسقيا بساقية أو بنضح ففيه نصف العشر .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر " .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " .واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب ، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رضي الله عنه .وقال الزهري والأوزاعي ومالك رضي الله عنهم : يجب في الزيتون وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجب العشر في جميع البقول والخضروات كالثمار إلا الحشيش والحطب وكل ثمرة أوجبنا فيها الزكاة فإنما يجب ببدو الصلاح ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية ولا يجب العشر في شيء منها حتى تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب في كل قليل وكثير منها واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة " .وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق " ، وقال قوم الآية في صدقات التطوع .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو عوانة عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة " .قوله تعالى : ( ولا تيمموا ) قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي واحد وثلاثون موضعا في القرآن لأنه في الأصل تاءان أسقطت إحداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا ( الخبيث منه تنفقون )روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين فكان الرجل منهم يعمد فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن فعل ذلك ( ولا تيمموا الخبيث ) أي الحشف والرديء وقال الحسن ومجاهد والضحاك : كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم فأنزل الله تعالى ( ولا تيمموا الخبيث ) الرديء ( منه تنفقون ولستم بآخذيه ) يعني الخبيث ( إلا أن تغمضوا فيه ) الإغماض غض البصر وأراد هاهنا التجوز والمساهلة معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه . وقال الحسن وقتادة : لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد .وروي عن البراء قال : لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ فكيف ترضون ما لا ترضون لأنفسكم؟ هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده فإن كان كل ماله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء ( واعلموا أن الله غني ) عن صدقاتكم ( حميد ) محمود في أفعاله .
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم
قوله تعالى : ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) اختلفوا في موضع هذه اللام قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله " فلأنفسكم " كأنه قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنما تنفقون لأنفسكم وقيل: معناها الصدقات التي سبق ذكرها وقيل: خبره محذوف تقديره : للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب وهم فقراء المهاجرين كانوا نحوا من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة ، فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى .( الذين أحصروا في سبيل الله ) فيه أقاويل; قال قتادة - وهو أولاها - حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله وقيل: معناه حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقال سعيد بن جبير : قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمنى أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد وقال ابن زيد : معناه : من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا عليهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم ( يحسبهم ) يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر ( الجاهل ) بحالهم أغنياء من التعفف ) أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال : عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك .( تعرفهم بسيماهم ) السيماء والسيمياء والسمة : العلامة التي يعرف بها الشيء واختلفوا في معناها هاهنا فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع وقال السدي : أثر الجهد من الحاجة والفقر وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم ( لا يسألون الناس إلحافا ) قال عطاء : إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال : من التعفف والتعفف ترك السؤال ولأنه قال : تعرفهم بسيماهم ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة فمعنى الآية ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف والإلحاف : الإلحاح واللجاج .أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن الإسماعيلي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان " قالوا : فمن المسكين يا رسول الله؟ قال : " الذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " .وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " .أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أخبرنا محمد بن زكريا بن عذافر ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن هارون بن رياب عن كنانة العدوي عن قبيصة بن مخارق قال : إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها قال : " بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة " ثم قال " يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث : رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيشه ثم يمسك وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجا من قومه وأن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتا " .أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح " قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " .قوله تعالى : ( وما تنفقوا من خير ) مال ( فإن الله به عليم ) وعليه مجاز
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار
قوله تعالى : ( إن الذين كفروا لن تغني ) لن تنفع ولن تدفع ( عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله ) قال الكلبي : من عذاب الله ، وقال أبو عبيدة من بمعنى عند ، أي عند الله ( شيئا وأولئك هم وقود النار )
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء
قوله تعالى ( قال رب ) أي يا سيدي ، قال لجبريل عليه السلام ، هذا قول الكلبي وجماعة ، وقيل: قاله لله عز وجل ( أنى يكون ) أين يكون ( لي غلام ) أي ابن ( وقد بلغني الكبر ) هذا من المقلوب أي وقد بلغت الكبر وشخت كما يقال بلغني الجهد أي أنا في الجهد ، وقيل: معناه وقد نالني الكبر وأدركني وأضعفني قال الكلبي : كان زكريا يوم بشر بالولد ابن ثنتين وتسعين سنة ، وقيل: ابن تسع وتسعين سنة وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى : ( وامرأتي عاقر ) أي عقيم لا تلد يقال : رجل عاقر وامرأة عاقر ، وقد عقر بضم القاف يعقر عقرا ، وعقارة ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فإن قيل: لم قال زكريا بعدما وعده الله تعالى : ( أنى يكون لي غلام ) أكان شاكا في وعد الله وفي قدرته؟ قيل: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان ، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال ذلك دفعا للوسوسة ، قاله عكرمة والسدي ، وجواب آخر : وهو أنه لم يشك في وعد الله إنما شك في كيفيته أي كيف ذلك؟
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
( فيه آيات بينات ) قرأ ابن عباس ( آية بينة ) على الواحدان ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون ( آيات بينات ) بالجمع فذكر منها مقام إبراهيم [ وهو الحجر ] الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات : الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل: مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيدا فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .قوله عز وجل : ( ومن دخله كان آمنا ) من أن يحاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : رب اجعل هذا بلدا آمنا وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " ( سورة العنكبوت الآية 67 ) وقيل: المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمنا ، كما قال تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " ( سورة الفتح الآية 27 ) وقيل: هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى : " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " ( البقرة - 197 ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصا أو حدا فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ، ولكنه [ لا يطعم ] ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل ، قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفى فيه عقوبته بالاتفاق .وقيل: معناه ومن دخله معظما له متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة من العذاب .قوله عز وجل : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) أي : ولله فرض واجب على الناس حج البيت ، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص ( حج البيت ) بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد .والحج أحد أركان الإسلام ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن موسى ، أنا حنظلة بن أبي سفيان ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان .قال أهل العلم : ولوجوب الحج خمس شرائط : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة ، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ، ولو حجا بأنفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم [ لفعل ] المجنون ، ولا يجب على الصبي ولا على العبد ، ولو حج صبي يعقل ، أو عبد يصح حجهما تطوعا لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي ، أو عتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط [ وجوب ] الحج وجب عليه أن يحج ثانيا ، ولا يجب على غير المستطيع ، لقوله تعالى : ( من استطاع إليه سبيلا ) غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام .والاستطاعة نوعان ، أحدهما : أن يكون مستطيعا [ بنفسه ] والآخر : أن يكون مستطيعا بغيره ، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادرا بنفسه على الذهاب ووجد الزاد والراحلة ، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، قال : قعدنا إلى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الحاج؟ قال : " الشعث التفل " فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله : أي الحج أفضل؟ قال : " العج والثج " فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله ما السبيل؟ قال : " زاد وراحلة " .وتفصيله : أن يجد راحلة تصلح لمثله ، ووجد الزاد للذهاب والرجوع ، فاضلا عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه ، وعن دين يكون عليه ، ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت ، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج [ في ذلك الوقت ] ويشترط أن يكون الطريق آمنا فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر أو رصدي يطلب شيئا لا يلزمه ، ويشترط أن تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء ، فإن كان زمان جدوبة تفرق أهلها أو غارت مياهها فلا يلزمه ، ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي ، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج ، ويستحب لو فعل ، وعند مالك يلزمه .أما الاستطاعة بالغير هو : أن يكون الرجل عاجزا بنفسه ، بأن كان زمنا أو به مرض غير مرجو الزوال ، لكن له مال يمكنه أن يستأجر من يحج عنه ، يجب عليه أن يستأجر ، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه ، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمد صدقه ، لأن وجوب الحج [ يتعلق ] بالاستطاعة ، ويقال في العرف : فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه .وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة ، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال .وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال : " نعم " .قوله تعالى : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) قال ابن عباس والحسن وعطاء : جحد فرض الحج ، وقال مجاهد : من كفر بالله واليوم الآخر .وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالوا : الحج إلى مكة غير واجب .وقال السدي : هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن الكلماتي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر ، أخبرنا سهل بن عمار ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا شريك ، عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ، ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " .
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) أي : لا تدفع أموالهم بالفدية ولا أولادهم بالنصرة شيئا من عذاب الله ، وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد . ( وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) وإنما جعلهم من أصحابها لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها ، كصاحب الرجل لا يفارقه .
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق
قوله تعالى : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) قال الحسن ومجاهد : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قالت اليهود : إن الله فقير استقرض منا ونحن أغنياء ، وذكر الحسن : أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب .وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ، ومعه حبر آخر يقال له أشيع . فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب .فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني؟ فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء ، وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا .فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " ما حملك على ما صنعت " ؟ فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه ، فجحد ذلك فنحاص ، فأنزل الله تعالى ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) من الإفك والفرية على الله فنجازيهم به ، وقال مقاتل : سنحفظ عليهم ، وقال الواقدي : سنأمر الحفظة بالكتابة ، نظيره قوله تعالى : ( وإنا له كاتبون ) ، ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) قرأ حمزة " سيكتب " بضم الياء ، " وقتلهم " برفع اللام " ويقول " بالياء و ( ذوقوا عذاب الحريق ) أي : النار وهو بمعنى المحرق كما يقال : لهم عذاب أليم أي : مؤلم .
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
قوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى ) الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير ، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وابتلوا اليتامى ) اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم ، ( حتى إذا بلغوا النكاح ) أي : مبلغ الرجال والنساء ، ( فإن آنستم ) أبصرتم ، ( منهم رشدا ) فقال المفسرون يعني : عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده .والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مرارا =يغلب على القلب رشده ، دفع المال إليه .واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد ، فالبلوغ يكون بأحد ( أشياء أربعة ) ، اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء ، واثنان تختصان بالنساء :فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن ، والثاني الاحتلام ، أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، قال نافع : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة ، ومن لم يبلغها في الذرية . وهذا قول أكثر أهل العلم .وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة .وأما الاحتلام فنعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع ، أو غيرهما ، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه ، لقوله تعالى : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم دينارا " .وأما الإنبات ، وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج : فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة ، فكانوا ينظرون فمن =أنبت الشعر قتل ، ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت ممن لم ينبت .وهل يكون ذلك بلوغا في أولاد المسلمين؟ فيه قولان ، أحدهما : يكون بلوغا كما في أولاد الكفار ، والثاني : لا يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم .وأما ما يختص بالنساء : فالحيض والحبل ، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها ، وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحا في دينه وماله ، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه ، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دينه ، وإذا كان مفسدا لماله قال : لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذا قبله . والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال : ( حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة ، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .وإذا بلغ وأونس منه الرشد ، زال الحجر عنه ، ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج .وعند مالك رحمه الله تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت دفع إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ، ما لم تكبر وتجرب .فإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها ، نظر : فإن عاد مبذرا لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما : يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء .وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال ، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم ، فقال علي : لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك [ فقال الزبير : أنا شريكك في بيعتك ، فأتى علي عثمان وقال : احجر على هذا ] ، فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ، فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .قوله تعالى : ( ولا تأكلوها ) يا معشر الأولياء ( إسرافا ) بغير حق ، ( وبدارا ) أي مبادرة ( أن يكبروا ) ( أن ) في محل النصب ، يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزأه قليلا ولا كثيرا ، والعفة : الامتناع مما لا يحل ( ومن كان فقيرا ) محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل بالمعروف .أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي ، أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار ، أخبرنا أبو داؤد السجستاني ، أخبرنا حميد بن مسعدة ، أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم؟ فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " .واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقضي إذا أيسر ، وهو المراد من قوله ( فليأكل بالمعروف ) فالمعروف القرض ، أي : يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم : إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت .وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة .وقال قوم : لا قضاء عليه .ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه ، ولا يلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة .وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا؛ فإن أخذ شيئا منه رده .وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .وقال بعضهم : والمعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ، ولا قضاء عليه ، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .قوله تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) هذا أمر إرشاد ، ليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة ، ( وكفى بالله حسيبا ) محاسبا ومجازيا وشاهدا .
ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا
قوله تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) عبيدا وملكا ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم ، ( وإياكم ) أهل القرآن في كتابكم ، ( أن اتقوا الله ) أي : وحدوا الله وأطيعوه ، ( وإن تكفروا ) بما أوصاكم الله به ( فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ) قيل: فإن لله ملائكة في السماوات والأرض هي أطوع له منكم ، ( وكان الله غنيا ) عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم ، ( حميدا ) محمودا على نعمه .