سورة الإسراء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 292 من المصحف
** ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه, لأنهم كذبوا {بآياتن} أي بأدلتنا وحجتنا, واستبعدوا وقوع البعث {وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفات} أي بالية نخرة {أئنا لمبعوثون خلقاً جديد} أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض, فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك, كما قال: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى} الاَية,في هذا المقام اضطرب وقال {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} إلى آخر السورة. وقال ههنا {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم. وقوله: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها, كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود}. وقوله: {فأبى الظالمون} أي بعد قيام الحجة عليهم {إلا كفور} إلا تمادياً في باطلهم وضلالهم.
** قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق, قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر, خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً, لأن هذا من طباعكم وسجاياكم, ولهذا قال: {وكان الإنسان قتور} قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً, وقال الله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقير} أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير, والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه, فإن البخل والجزع والهلع صفة له, كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز, ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه, وقد جاء في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه».
** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون, وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, قاله ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا, والخمس في الأعراف والطمسة والحجر, وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي, وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة, وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون {فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} أي ومع هذه الاَيات ومشاهدتهم لها, كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً, وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا, وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها, لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله, كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الاَيات {وإني لأظنك يا موسى مسحور} قيل: بمعنى ساحر, والله تعالى أعلم. فهذه الاَيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا, وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف ـ إلى قوله ـ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين} فذكر هاتين الاَيتين العصا واليد وبين الاَيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة, منها ضربة الحجر بالعصا, وخروج الماء منه, ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى, وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر, ولكن ذكر ههنا التسع الاَيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر, فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الاَية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال: لا تقل له نبي, فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين, فسألاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تسحروا, ولا تأكلوا الربا, ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله, ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه, وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تتبعاني ؟» قالا: لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي, وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل, وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء, وقد تكلموا فيه, ولعله اشتبه عليه التسع الاَيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون, والله أعلم, ولهذا قال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به {وإني لأظنك يا فرعون مثبور} أي هالكاً, قاله مجاهد وقتادة, وقال ابن عباس: ملعوناً, وقال أيضاً هو والضحاك {مثبور} أي مغلوباً, والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله, قال الشاعر عبد الله بن الزبعري:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت, وروي ذلك عن علي بن أبي طالب, ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون, كما قال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلو} الاَية, فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الاَيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه, وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله, وليس المراد منها كما ورد في الحديث, فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه, وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة, فإن له بعض ما ينكر, والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الرواي بالتسع الاَيات فحصل وهم في ذلك, والله أعلم.
وقوله: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يخليهم منها ويزيلهم عنها, {فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة, وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها, كما قال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منه} الاَيتين, ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين, وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً, كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها, وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم, كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل, وقال ههنا {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاَخرة جئنا بكم لفيف} أي جميعكم أنتم وعدوكم, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفاً أي جميعاً.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 292
292 : تفسير الصفحة رقم 292 من القرآن الكريم** ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه, لأنهم كذبوا {بآياتن} أي بأدلتنا وحجتنا, واستبعدوا وقوع البعث {وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفات} أي بالية نخرة {أئنا لمبعوثون خلقاً جديد} أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض, فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك, كما قال: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى} الاَية,في هذا المقام اضطرب وقال {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} إلى آخر السورة. وقال ههنا {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم. وقوله: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها, كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود}. وقوله: {فأبى الظالمون} أي بعد قيام الحجة عليهم {إلا كفور} إلا تمادياً في باطلهم وضلالهم.
** قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق, قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر, خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً, لأن هذا من طباعكم وسجاياكم, ولهذا قال: {وكان الإنسان قتور} قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً, وقال الله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقير} أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير, والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه, فإن البخل والجزع والهلع صفة له, كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز, ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه, وقد جاء في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه».
** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون, وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, قاله ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا, والخمس في الأعراف والطمسة والحجر, وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي, وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة, وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون {فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} أي ومع هذه الاَيات ومشاهدتهم لها, كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً, وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا, وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها, لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله, كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الاَيات {وإني لأظنك يا موسى مسحور} قيل: بمعنى ساحر, والله تعالى أعلم. فهذه الاَيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا, وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف ـ إلى قوله ـ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين} فذكر هاتين الاَيتين العصا واليد وبين الاَيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة, منها ضربة الحجر بالعصا, وخروج الماء منه, ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى, وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر, ولكن ذكر ههنا التسع الاَيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر, فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الاَية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال: لا تقل له نبي, فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين, فسألاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تسحروا, ولا تأكلوا الربا, ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله, ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه, وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تتبعاني ؟» قالا: لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي, وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل, وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء, وقد تكلموا فيه, ولعله اشتبه عليه التسع الاَيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون, والله أعلم, ولهذا قال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به {وإني لأظنك يا فرعون مثبور} أي هالكاً, قاله مجاهد وقتادة, وقال ابن عباس: ملعوناً, وقال أيضاً هو والضحاك {مثبور} أي مغلوباً, والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله, قال الشاعر عبد الله بن الزبعري:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت, وروي ذلك عن علي بن أبي طالب, ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون, كما قال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلو} الاَية, فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الاَيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه, وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله, وليس المراد منها كما ورد في الحديث, فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه, وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة, فإن له بعض ما ينكر, والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الرواي بالتسع الاَيات فحصل وهم في ذلك, والله أعلم.
وقوله: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يخليهم منها ويزيلهم عنها, {فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة, وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها, كما قال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منه} الاَيتين, ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين, وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً, كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها, وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم, كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل, وقال ههنا {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاَخرة جئنا بكم لفيف} أي جميعكم أنتم وعدوكم, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفاً أي جميعاً.
الصفحة رقم 292 من المصحف تحميل و استماع mp3