﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[ المائدة: 2]

سورة : المائدة - Al-Maidah  - الجزء : ( 6 )  -  الصفحة: ( 106 )

O you who believe! Violate not the sanctity of the Symbols of Allah, nor of the Sacred Month, nor of the animals brought for sacrifice, nor the garlanded people or animals, etc. [Marked by the garlands on their necks made from the outer part of the tree-stems (of Makkah) for their security], nor the people coming to the Sacred House (Makkah), seeking the bounty and good pleasure of their Lord. But when you finish the Ihram (of Hajj or 'Umrah), you may hunt, and let not the hatred of some people in (once) stopping you from Al-Masjid-al-Haram (at Makkah) lead you to transgression (and hostility on your part). Help you one another in Al-Birr and At-Taqwa (virtue, righteousness and piety); but do not help one another in sin and transgression. And fear Allah. Verily, Allah is Severe in punishment.


لا تُحلوا : لا تنتهكوا
شعائر الله : مناسك الحج أو معالم دينه
الشهر الحرام : الأشهر الأربعة الحرم
الهدى : ما يُهدى من الأنعام إلى الكعبة
القلائد : ما يقـَـلّـد به الهدي علامة له
آمّين البيت : قاصدينهُ وهم الحجاج والعمار
لا يجرمنّكم : لا يحملنكم أو لا يكسبنكم
شنآن قوم : بغضكم لهم

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتعدَّوا حدود الله ومعالمه، ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكان ذلك في صدر الإسلام، ولا تستحِلُّوا حرمة الهَدْي، ولا ما قُلِّدَ منه؛ إذ كانوا يضعون القلائد، وهي ضفائر من صوف أو وَبَر في الرقاب علامةً على أن البهيمة هَدْيٌ وأن الرجل يريد الحج، ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام الذين يبتغون من فضل الله ما يصلح معايشهم ويرضي ربهم. وإذا حللتم من إحرامكم حلَّ لكم الصيد، ولا يحمِلَنَّكم بُغْض قوم من أجل أن منعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام -كما حدث عام "الحديبية"- على ترك العدل فيهم. وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما بينكم- على فِعْل الخير، وتقوى الله، ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله، واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب.

ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي - تفسير السعدي

يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ}- أي: محرماته التي أمركم بتعظيمها، وعدم فعلها، والنهي يشمل النهي عن فعلها، والنهي عن اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي، عن فعل القبيح، وعن اعتقاده.
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام، ومحرمات الحرم.
ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله: { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ}- أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ} والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ} وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم.
وقال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك، وقالوا: المطلق يحمل على المقيد.
وفصل بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها، فإنه يجوز.
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في "حنين" في "شوال".
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.
وقوله: { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ}- أي: ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة، أو غيرهما، من نعم وغيرها، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها، ولا تقصروا به، أو تحملوه ما لا يطيق، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله، بل عظموه وعظموا من جاء به.
{ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ} هذا نوع خاص من أنواع الهدي، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله، وحملا للناس على الاقتداء، وتعليما لهم للسنة، وليعرف أنه هدي فيحترم، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة.
{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ}- أي: قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ}- أي: من قصد هذا البيت الحرام، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به، والصلاة، وغيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، ولا تهينوه، بل أكرموه، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.
ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ} فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم.
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله، كما قال تعالى: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ} ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ}- أي: إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد، وزال ذلك التحريم.
والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ}- أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه.
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ}- أي: ليعن بعضكم بعضا على البر.
وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها وينشط لها، وبكل فعل كذلك.
{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ} وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ويحرج.
{ وَالْعُدْوَانِ ْ} وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ} على من عصاه وتجرأ على محارمه، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.

تفسير الآية 2 - سورة المائدة

تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله : الآية رقم 2 من سورة المائدة

 سورة المائدة الآية رقم 2

ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي - مكتوبة

الآية 2 من سورة المائدة بالرسم العثماني


﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ  ﴾ [ المائدة: 2]


﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ [ المائدة: 2]

  1. الآية مشكولة
  2. تفسير الآية
  3. استماع mp3
  4. الرسم العثماني
  5. تفسير الصفحة
فهرس القرآن | سور القرآن الكريم : سورة المائدة Al-Maidah الآية رقم 2 , مكتوبة بكتابة عادية و كذلك بالشكيل و مصورة مع الاستماع للآية بصوت ثلاثين قارئ من أشهر قراء العالم الاسلامي مع تفسيرها ,مكتوبة بالرسم العثماني لمونتاج فيديو اليوتيوب .
  
   

تحميل الآية 2 من المائدة صوت mp3


تدبر الآية: ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي

أوامر اللهِ ونواهيه تُشعِر العبدَ أنها حدودُه التي يُطيعه فيها، فلا يتجاوزُها، ولا يستهينُ بأمرها، ولا يُضِيعها، فمَن لزمَ حدودَه بقيَ على الجادة، ومَن تجاوزها تاهَ في أودية الهلَكة.
داخلَ حدودِ الحَرم أيامَ النُّسُك تجتمع قداسةُ الزمان والمكان، وتُظلِّلُ البُقعةَ المباركة سحُبُ الأمان؛ كونًا وشرعًا.
في رحاب الحرَم يذوق طعمَ الأمن البشرُ والشجر والطير وحيَوانُ البَرِّ، فما أعظمَ نعمةَ الأمان! يا قاصدَ البيت الحرام، اجعل ربَّك تعالى وِجهتَك، ورِضوانه قصدَك، وما ابتغيتَ من مصالح دينك ودنياك فاسعَ لها متوكِّلًا عليه، غيرَ معلِّق قلبَك بأحد من خلقه.
إذا كان هذا الأمانُ لضيوف بيته من أهل طاعته في الدنيا، فكيف بضيوفه المتَّقين الذين يَنزِلون بجواره في الآخرة؟! لو تأمَّل الإنسانُ في شريعة الله لوجد أن المحظوراتِ قليلةُ العدد، قصيرةُ المُدَد، وأن المباحاتِ كثيرةٌ في عَددها ومُددها، فكيف يَرِدُ العاقلُ الآسنَ من الشهَوات، وعنده أنهارُ الطيِّبات؟! ثَمةَ قمةٌ لا بدَّ أن ترقى إليها نفوسُ الأمة، إنها ضبطُ النفس، وسماحةُ القلب في الحقِّ.
الإسلام يربِّي أهلَه على الإنصاف مع الخصوم والأعداء، فكيف مع الإخوة والأولياء؟! قال بعضُ السلف: ( ما عاملتَ مَن عصى اللهَ فيك بمثل أن تُطيعَ اللهَ فيه ).

وقوله: لا تُحِلُّوا من الإحلال الذي هو ضد التحريم.
ومعنى عدم إحلالهم لشعائر الله:تقرير حرمتها عملا واعتقادا، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله.
والشعائر: جمع شعيرة- على وزن فعيلة- وهي في الأصل ما جعلت شعارا على الشيء وعلامة عليه من الإشعار بمعنى الإعلام.
وكل شيء اشتهر فقد علم.
يقال: شعرت بكذا.
أى علمته.
والمراد بشعائر الله هنا: حدوده التي حدها، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده.
ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا: مناسك الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام.
ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى.
لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم.
والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده.
وقد رجحه ابن جرير بقوله: وأولى التأويلات بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قول من قال: لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه.
فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها، نهيا عاما من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء.
فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك».
وأضاف- سبحانه - الشعائر إليه.
تشريفا لها، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها.
وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها.
وقوله.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على شعائر الله.
والمراد به الجنس.
فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.
وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب.
وسمى الشهر حراما: باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام.
أى: لا تحلوا- أيها المؤمنون- القتال في الشهر الحرام، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال.
قال ابن كثير: يعنى بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال كما قال-تبارك وتعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.
وقال-تبارك وتعالى- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً وفي صحيح البخاري عن أبى بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهرا.
منها أربعة حرم» .
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت.
كما هو مذهب طائفة من السلف.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ.
وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم.
واحتجوا بقوله- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
والمراد أشهر التسيير الأربعة.
قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره.
والمقصود بالهدى في قوله وَلَا الْهَدْيَ ما يتقرب به الإنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم، وهو جمع هدية- بتسكين الدال-، أى: ولا تحلوا حرمة ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله-تبارك وتعالى- بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله.
وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر، لأن فيه نفعا للناس، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه.
وقوله: وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.
وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه.
والمراد: ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء.
وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفا لها واعتناء بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر.
فكأنه قيل: لا تحلوا الهدى وخصوصا ذوات القلائد منه.
ويجوز أن يراد النهى عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهى عن التعرض لذواتها أى:لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله: وأما القلائد ففيها وجهان:أحدهما: أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن.
وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثاني: أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى.
على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها.
كما قال وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها».
وقوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً معطوف على قوله:لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ.
وقوله: آمِّينَ جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم.
يقال: أممت كذا أى: قصدته أى:ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثوابا.
ورضوانا لتعبدهم في بيته المحرم.
ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا؟قال بعضهم: المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة.
فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله-تبارك وتعالى- مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم في قوله مِنْ رَبِّهِمْ للتشريف والتكريم وجملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من الضمير المستكن في قوله آمِّينَ.
وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف، ومسعاهم الجليل.
أى: قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثوابا من ربهم، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه- سبحانه - عنهم وعلى هذا القول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها، وتكون توجيها عاما من الله-تبارك وتعالى- لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين، مهما حدث بينهم من نزاع أو محلاف.
وقال آخرون: المراد بهم المشركون.
واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدى من أن الآية نزلت في رجل من بنى ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله إلام تدعو؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فقال له: حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلى أسلّم وآتى بهم.
فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به.
ثم أقبل من العام القادم حاجا ومعه تجارة عظيمة.
فسأل المسلمون النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأذن لهم في التعرض له.
فأبى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نزلت الآية».
وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة.
وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم من الله، فوصفهم- سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم.
ثم نسخ ذلك بقوله-تبارك وتعالى- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.
وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروى ولو في زعم المشركين.
والذي نراه أولى هو القول الأول، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه، ولأن قوله-تبارك وتعالى-: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً هذا الوصف إنما يليق بالمسلّم دون الكافر، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه- سبحانه -.
قال الفخر الرازي: «أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين.
والدليل عليه أول الآية وآخرها.
أما أول الآية فهو: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار.
وأما آخر الآية فهو قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر».
وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال اى شيء من الشعائر التي حرم الله-تبارك وتعالى- استحلالها، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماما بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافعشهوة الانتقام، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك.
ثم أتبع- سبحانه - هذا النهى ببيان جانب من مظاهر فضله.
حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
أى: وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد، وأبيح لكم أيضا كل ما كان مباحا لكم قبل الإحرام.
وإنما خص الصيد بالذكر، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا.
كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم.
والإشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا ما يكون إرضاء للشهوات.
والأمر في قوله: فَاصْطادُوا للإباحة، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد.
بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإحرام ومثله قوله-تبارك وتعالى- فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أى: أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة.
ثم نهى- سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال-تبارك وتعالى-:وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لزيادة تقرير مضمونه.
ومعنى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه، أو معناه:ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة.
وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، أطلق على الكسب، لأن الكاسب ينقطع لكسبه.
قال صاحب الكشاف: جرم يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين.
تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه.
ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين.
كقولهم: أكسبته ذنبا».
والشنآن: البغض الشديد.
يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديدا.
والمعنى: ولا يحملنكم- أيها المؤمنون- بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل، فإن الإسلام- وهو دين العدل والتسامح- لا يبرره ولا يقبله، ولكن الذي يقبله الإسلام هو احترام المسجد الحرام، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيمانا، ويفيء العاصي إلى رشده وصوابه.
قال ابن كثير: وقوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أى: ولا يحملنكم بغض قوم، «قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام- وذلك عام الحديبية-، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد.. فإن العدل واجب على كل أحد.
في كل أحد، وفي كل حال.
والعدل، به قامت السموات والأرض.
وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وعن زيد بن أسلّم، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحديبية، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة.
فقال الصحابة.
نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية».
وقوله: شَنَآنُ قَوْمٍ مصدر مضاف لمفعوله.
أى: لا يحملنكم بغضكم قوما.
وقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ- بفتح همزة أن- مفعول لأجله بتقدير اللام.
أى: لأن صدوكم.
فهو متعلق بالشنآن.
وقوله أَنْ تَعْتَدُوا في موضع نصب على أنه مفعول به.
أى: لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.
وقراءة أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة- هي قراءة الجمهور، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي، وهي واضحة ولا إشكال عليها.
قال الجمل: وفي قراءة لأبى عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله.
وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضى أن الأمر المشروط لم يقع.
مع أن الصد كان قد وقع.
لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست.
والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكانت مكة عام الفتح في أيدى المسلمين فكيف يصدون عنه؟ وأجيب بوجهين:أو لهما: لا نسلّم أن الصد كان قبل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه.
والثاني: أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى: إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية- فلا تعتدوا-.
قال بعضهم: وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأن النهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق.
وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل».
ثم أمر الله-تبارك وتعالى- عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال:وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.
والبر معناه: التوسع في فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس.
والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه.
قال القرطبي: قال الماوردي: ندب الله-تبارك وتعالى- إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله، وفي البر رضا الناس.
ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
والإثم- كما يقول الراغب- اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام، والآثم هو المتحمل للإثم.
ثم أطلق على كل ذنب ومعصية.
والعدوان: تجاوز الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها.
أى: وتعاونوا- أيها المؤمنون- على كل ما هو خير وبر وطاعة لله-تبارك وتعالى-، ولا تتعاونوا على ارتكاب الآثام ولا على الاعتداء على حدوده، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدى إلى السعادة، أما التعاون على ما يغضب الله-تبارك وتعالى- فيؤدى إلى الشقاء.
قال الآلوسى: والجملة عطف على قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من حيث المعنى، فكأنه قيل:لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه، وتعاونوا على العفو والإغضاء.
وقال بعضهم: هو استئناف، والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم.
هذا، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلّم عن أبى مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنى أبدع بي- أى: هلكت دابتي التي أركبها- فاحملني فقال: «ما عندي» .
فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وروى الإمام مسلّم- أيضا- عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه.
لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
وقوله-تبارك وتعالى- وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإثم والعدوان.
أى: اتقوا الله- أيها الناس- واخشوه فيما أمركم ونهاكم، فإنه- سبحانه شديد العقاب لمن خالف أمره، وانحرف عن طريقه القويم.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم، وعن الإخلال بشيء من أحكامها، كما نهتهم عن أن يحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته- سبحانه - وحسن مثوبته، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم.
ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه- بكل من عصاه، وانحرف عن هداه.
ثم شرع- سبحانه - في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال-تبارك وتعالى-:
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقابفيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله خطاب للمؤمنين حقا ; أي : لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة ، وقال ابن فارس : ويقال للواحدة شعارة ; وهو أحسن ، والشعيرة البدنة تهدى ، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي .
والإشعار الإعلام من طريق الإحساس ; يقال : أشعر هديه أي : جعل له علامة ليعرف أنه هدي ; ومنه المشاعر المعالم ، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات ، ومنه الشعر ، لأنه يكون بحيث يقع الشعور ; ومنه الشاعر ; لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ; ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه ; فالشعائر على قول : ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله ، وعلى قول : جميع مناسك الحج ; قال ابن عباس .
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر ، وقال الشاعر :نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقربوكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ; فأنزل الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله .
وقال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه ، وقال الحسن : دين الله كله ; كقوله : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي : دين الله .
قلت : وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه .
وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي ، وهي :الثانية : فأجازه الجمهور ; ثم اختلفوا في أي جهة يشعر ; فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : يكون في الجانب الأيمن ; وروي عن ابن عمر ، وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن ; أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح ، وروي أنه أشعر بدنة من الجانب الأيسر ; قال أبو عمر بن عبد البر : هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس ; والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس ، قال : ولا يصح عنه غيره .
وصفحة السنام جانبه ، والسنام أعلى الظهر ، وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر ; وهو قول مالك ، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن ، وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء ; وبه قال أحمد في أحد قوليه ، ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان ، والحديث يرد عليه ; وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم ; وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء .
قلت : والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية : الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح ; لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد ، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما ، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا ، ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا ، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر ; هكذا روي عن ابن عباس ، وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال : يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية ، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن ; وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي .
فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار ، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه ; قالوا : وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما ; لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك .
الثالثة : قوله تعالى : ولا الشهر الحرام اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد ، يأتي بيانها في " براءة " ; والمعنى : لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها ; فإن استبدالها استحلال ، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء ; وكذلك قوله : ولا الهدي ولا القلائد أي : لا تستحلوه ، وهو على حذف مضاف أي : ولا ذوات القلائد جمع قلادة .
فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد .
الرابعة : قوله تعالى : ولا الهدي ولا القلائد الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة ; الواحدة هدية وهدية وهدي .
فمن قال : أراد بالشعائر المناسك قال : ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها ، ومن قال : الشعائر الهدي قال : إن الشعائر ما كان مشعرا أي : معلما بإسالة الدم من سنامه ، والهدي ما لم يشعر ، اكتفي فيه بالتقليد ، وقيل : الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى ، وقال الجمهور : الهدي عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ; ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة إلى أن قال : كالمهدي بيضة فسماها هديا ; وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة ; وكذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به ; إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وأراد به الشاة ; وقال تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند الفقهاء ، وقال مالك : إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي .
والقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ; فهو على حذف مضاف ، أي : ولا أصحاب القلائد ثم نسخ .
قال ابن عباس : آيتان نسختا من " المائدة " آية القلائد وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا ، وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله على ما يأتي .
وقيل : أراد بالقلائد نفس القلائد ; فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن ; قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير ، والله أعلم ، وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض .
واتفق الفقهاء على أن من قال : لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة .
وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه ; من نعل أو غيره ، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام ، وهي سنة البقر والغنم .
قالت عائشة رضي الله عنها : أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها ; أخرجه البخاري ومسلم ; وإلى هذا صار جماعة من العلماء : الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب ; وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم ، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها ; فالقول به أولى ، والله أعلم .
وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن ; قال ابن عمر ; وبه قال مالك ، وقال الشافعي : تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا ، وقال سعيد بن جبير : تقلد ولا تشعر ; وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام ، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل ، والله أعلم .
الخامسة : واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما ; قال الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله إلى أن قال : فاصطادوا ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام .
السادسة : فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما ; لحديث عائشة قالت : ( أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ; ثم قلدها بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ) ; أخرجه البخاري ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء .
وروي عن ابن عباس أنه قال : يصير محرما ; قال ابن عباس : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ; رواه البخاري ; وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير ، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي ; واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ، وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة .
في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف .
فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون : لا يصير محرما ; لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر ; لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن ; فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي .
العهن الصوف المصبوغ ; ومنه قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوشالسابعة : ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر ; لأنه قد وجب ، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه ; بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول ; فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال : جعلت هذه الشاة أضحية تعينت ; وعليه ; إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها ; فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق ، وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا ضلت فقد أجزأت ، ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي ، وقال أحمد وأبو ثور : تذبح بكل حال ، وقال الأوزاعي : تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه ، ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته ، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها ، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث ، وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي ، هذا تحصيل مذهب مالك ، وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل ; والأول أصوب .
والله أعلم .
الثامنة : قوله تعالى : ولا آمين البيت الحرام يعني القاصدين له ; من قولهم أممت كذا أي : قصدته ، وقرأ الأعمش : " ولا آمي البيت الحرام " بالإضافة كقوله : " غير محلي الصيد " والمعنى : لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة ; وعليه فقيل : ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك ، أو مراعاة حرمة له بقلادة ، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يمكن المشرك من الحج ، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج ; روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره ، وقال قوم : الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين ، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين ، والنهي عام في الشهر الحرام وغيره ; ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا ; وهذا يتمشى على قول عطاء ; فإن المعنى لا تحلوا معالم الله ، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه ; ولذلك قال أبو ميسرة : هي محكمة ، وقال مجاهد : لم ينسخ منها إلا القلائد وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك .
وقال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ; جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ; فنزل القرآن ولا آمين البيت الحرام .
وقيل : كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا ، وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم .
فمر بسرح المدينة فاستاقه ; فطلبوه فعجزوا عنه ، فانطلق وهو يقول :قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنمولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينمبات يقاسها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدمفلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة فقال : هذا الحطم وأصحابه ، وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة ، فتوجهوا في طلبه ; فنزلت الآية ، أي : لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين ; ذكره ابن عباس .
التاسعة : وعلى أن الآية محكمة ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله يوجب إتمام أمور المناسك ; ولهذا قال العلماء : إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه ; ثم عليه القضاء في السنة الثانية .
قال أبو الليث السمرقندي : وقوله تعالى : ولا الشهر الحرام منسوخ بقوله : وقاتلوا المشركين كافة وقوله : ولا الهدي ولا القلائد محكم لم ينسخ ; فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ; فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض ; بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .
العاشرة : قوله تعالى : يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال فيه جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقيل : كان منهم من يبتغي التجارة ، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله ; وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت ، وأنه يبعث ، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار .
قال ابن عطية : هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم ; لتنبسط النفوس ، وتتداخل الناس ، ويردون الموسم فيستمعون القرآن ، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع ; إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة " براءة " .
الحادية عشرة : قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام ; حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح ، بل صيغة " أفعل " الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب ; وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره ; لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا ; دليله قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذه " أفعل " على الوجوب ; لأن المراد بها الجهاد ، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن من النظر إلى المعنى والإجماع ، لا من صيغة الأمر .
والله أعلم .
الثانية عشرة : قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد أي : لا يحملنكم ; عن ابن عباس وقتادة ، وهو قول الكسائي وأبي العباس ، وهو يتعدى إلى مفعولين ; يقال : جرمني كذا على بغضك أي : حملني عليه ; قال الشاعر :ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبواوقال الأخفش : أي : ولا يحقنكم ، وقال أبو عبيدة والفراء : معنى لا يجرمنكم أي : لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم ، قال عليه السلام : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقد مضى القول في هذا ، ونظير هذه الآية فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقد تقدم مستوفى ، ويقال : فلان جريمة أهله أي : كاسبهم ، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي اكتسب الإثم .
ومنه قول الشاعر :جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبامعناه كاسب قوت ، والصليب الودك ، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م .
قال ابن فارس : يقال جرم وأجرم ، ولا جرم بمنزلة قولك : لا بد ولا محالة ; وأصلها من جرم أي اكتسب ، قال :جرمت فزارة بعدها أن يغضبواوقال آخر :يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآسويقال : جرم يجرم جرما إذا قطع ; قال الرماني علي بن عيسى : وهو الأصل ; فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه ، وقال الخليل : لا جرم أن لهم النار لقد حق أن لهم العذاب ، وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد ، أي اكتسب .
وقرأ ابن مسعود " يجرمنكم " بضم الياء ، والمعنى أيضا لا يكسبنكم ; ولا يعرف البصريون الضم ، وإنما يقولون : جرم لا غير ، والشنآن البغض ، وقرئ بفتح النون وإسكانها ; يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا وشنآنا بجزم النون ، كل ذلك إذا أبغضته ; أي : لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا ; والمراد بغضكم قوما ، فأضاف المصدر إلى المفعول .
قال ابن زيد : لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ; فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية ; أي : لا تعتدوا على هؤلاء ، ولا تصدوهم أن صدوكم أصحابهم ، بفتح الهمزة مفعول من أجله ; أي : لأن صدوكم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة " إن صدوكم " وهو اختيار أبي عبيد ، وروي عن الأعمش " إن يصدوكم " .
قال ابن عطية : فإن للجزاء ; أي : إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل ، والقراءة الأولى أمكن في المعنى ، وقال النحاس : وأما " إن صدوكم " بكسر " إن " فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست ، فالصد كان قبل الآية ; وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده ; كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك ; فهذا لا يكون إلا للمستقبل ، وإن فتحت كان للماضي ، فوجب على هذا ألا يجوز إلا أن صدوكم ، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا ; لأن قوله : لا تحلوا شعائر الله إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم ، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام ، فوجب من هذا فتح أن لأنه لما مضى .
أن تعتدوا في موضع نصب ; لأنه مفعول به ، أي : لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء .
وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد " شنآن " بإسكان النون ; لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة ; وخالفهما غيرهما وقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى قال الأخفش : هو مقطوع من أول الكلام ، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ; أي : ليعن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ; وهذا موافق لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الدال على الخير كفاعله ، وقد قيل : الدال على الشر كصانعه .
ثم قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .
قال ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز .
وقال الماوردي : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ; لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البر رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته ، وقال ابن خويز منداد في أحكامه : والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ; فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه .
ثم نهى فقال : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وهو الحكم اللاحق عن الجرائم ، وعن العدوان وهو ظلم الناس .
ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال : واتقوا الله إن الله شديد العقاب


شرح المفردات و معاني الكلمات : آمنوا , تحلوا , شعائر , الله , الشهر , الحرام , الهدي , القلائد , آمين , البيت , الحرام , يبتغون , فضلا , رضوانا , حللتم , فاصطادوا , يجرمنكم , شنآن , قوم , صدوكم , المسجد , الحرام , تعتدوا , تعاونوا , البر , والتقوى , تعاونوا , الإثم , العدوان , اتقوا , الله , شديد , العقاب ,
English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

آيات من القرآن الكريم

  1. ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله
  2. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
  3. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
  4. فمن شاء ذكره
  5. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله
  6. قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى
  7. وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين
  8. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
  9. أو مسكينا ذا متربة
  10. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا

تحميل سورة المائدة mp3 :

سورة المائدة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة المائدة

سورة المائدة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة المائدة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة المائدة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة المائدة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة المائدة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة المائدة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة المائدة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة المائدة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة المائدة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة المائدة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري


الباحث القرآني | البحث في القرآن الكريم


Tuesday, December 17, 2024

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب