1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ المائدة: 42] .

  
   

﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
[ سورة المائدة: 42]

القول في تفسير قوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم


هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام، فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم، أو اتركهم، فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء، وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


هؤلاء اليهود كثيرو الاستماع للكذب، كثيرو الأكل للمال الحرام كالربا، فإن تحاكموا إليك - أيها الرسول - فافصل بينهم إن شئت، أو اترك الفصل بينهم إن شئت، فأنت مُخيَّر بين الأمرين، وإن تركت الفصل بينهم فلن يستطيعوا أن يضروك بشيء، وإن فصلت بينهم فافصل بينهم بالعدل، وإن كانوا ظَلَمة وأعداء، إن الله يحب العادلين في حكمهم، ولو كان المتحاكمون أعداء للحاكم.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 42


هم «سماعون للكذب أكالون للسُّحُت» بضم الحاء وسكونها أي الحرام كالرشا «فإن جاؤك» لتحكم بينهم «فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى (وأن احكم بينهم) الآية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا وهو أصح قولي الشافعي فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب إجماعا «وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت» بينهم «فاحكم بينهم بالقسط» بالعدل «إن الله يحب المقسطين» العادلين في الحكم أي يثيبهم.

تفسير السعدي : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم


{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } والسمع هاهنا سمع استجابة،- أي: من قلة دينهم وعقلهم، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب.
{ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }- أي: المال الحرام، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات والرواتب، التي بغير الحق، فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام.
{ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فأنت مخير في ذلك.
وليست هذه منسوخة، فإنه-عند تحاكم هذا الصنف إليه- يخير بين أن يحكم بينهم، أو يعرض عن الحكم بينهم، بسبب أنه لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقا لأهوائهم، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط، ولهذا قال: { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم.
وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس، وأن الله تعالى يحبه.

تفسير البغوي : مضمون الآية 42 من سورة المائدة


قوله تعالى : ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي " للسحت " بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : ( فيسحتكم بعذاب ) ( طه ، 61 ) ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم .
قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة .
وعنه أيضا قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا .
فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، وقال ابن مسعود : من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) " سورة المائدة ، 44 " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " .
.
والسحت كل كسب لا يحل .
قوله عز وجل : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .
واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة .
وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( سورة المائدة ، 49 ) ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله نسخها قوله تعالى : فاقتلوا المشركين وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة قوله ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ، ( إن الله يحب المقسطين ) أي : العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور " .

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


ثم كشف- سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال-تبارك وتعالى-: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
والسحت: هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام.
وقد بسط الإمام القرطبي هذا المعنى فقال: والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة.
قال-تبارك وتعالى- فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ أى: - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب- ويقال للحالق: أسحت أى استأصل.
وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع.
يقال رجل مسحوت المعدة أى: أكول، فكأن بالمسترشى وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به» قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال: «الرشوة في الحكم» .
وقال بعضهم: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه.
وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها» .
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم- أيضا- أنهم كثير والسماع للكذب، وكثير والأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه.
ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا، ولا تؤمل فيه رشدا.
وقوله: سَمَّاعُونَ خبر لمبتدأ محذوف أى: هم سماعون.
وكرر تأكيدا لما قبله، وتمهيدا لما بعده وهو قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
وجاءت هاتان الصفتان- سماعون وأكالون- بصيغة المبالغة، للإيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم.
فهم يستمرئون سماع الباطل من القول، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل:إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت، وقد أرشد الله-تبارك وتعالى-نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أى: فإن جاءك هؤلاء اليهود متحاكمين إليك- يا محمد- في قضاياهم، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم، وإن تعرض عنهم، فيما احتكموا فيه إليك، قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم في قضاياهم، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به، لأن الله-تبارك وتعالى- يحب العادلين في أحكامهم.
والفاء في قوله: فَإِنْ جاؤُكَ للإفصاح أى: إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.
وجاء التعبير بإن المفيدة للشك- مع أنهم قد جاءوا إليه- للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه إلا ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه.
قال أبو السعود: وقوله: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما.
وتقديم حال الإعراض، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه، حيث كان مظنة الضرر، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضارتهم له، فأمنه الله بقوله: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً من الضر .
وكان التعبير بإن أيضا في قوله وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصا على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضى بينهم بغير ما أنزل الله، فيشيعوا ذلك بين الناس، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضى بينهم.
يقال: أقسط الحاكم في حكمه، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أى عادل ومنه قوله- تعالى - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن.
وكلتا يديه يمين.
الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» .
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتى:1- أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن أى طريق محرم سواها.
ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال.
وينفرون من الحرام، بل ومن الشبهات، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا..قال ابن جرير: شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية، فغضب مسروق غضبا شديدا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك.
سمعت ابن مسعود يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقا، أو يرفع بها ظلما، فأهدى له، فقبل، فهو سحت» .
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» .
قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الرشوة في الحكم» .
وعن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة فإنها سحت.
وكان أبوه على شرط المدينة» «2» .
قال بعض العلماء: والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمه على الراشي والمرتشي.
وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الراشي والمرتشي والذي يمشى بينهما» لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهه أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به.
وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة.
ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها، فقد روى عن الحسن أنه قال: «لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه» .
وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا: «لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وما له إذا خاف الظلم» .
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة، أعطى العباس ابن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف.
فقال صلى الله عليه وسلم «اقطعوا لسانه» .
فزادوه حتى رضى.
فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه .
2- استدل بعض العلماء بقوله-تبارك وتعالى-: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم، وأن حكم التخيير غير منسوخ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك.
ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله-تبارك وتعالى- بعد ذلك وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.
قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم.
وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية.
أما قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له.
ويرى فريق ثالث من العلماء: أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبنى قريظة، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم:وقوله-تبارك وتعالى- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ورد في أهل الذمة الذين لهم مالنا وعليهم ما علينا.
وعلى هذا فلا نسخ في الآية.
قال الآلوسى: قال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك.
محمد وزفر.
وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في كتب الفروع.
3- أخذ العلماء من هذه الآية- أيضا- أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم، فحكم فيهم بما أنزل الله، ونفذ هذا الحكم عليهم.
قال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى- عليه السلام- ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود.
أما الآن وقد أكمل الله الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأى حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم.

سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم: تفسير ابن كثير


نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله ، عز وجل { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . { ومن الذين هادوا } أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم { سماعون للكذب } أي: يستجيبون له ، منفعلون عنه { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، وينهونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي: يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا }
قيل : نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .
وأخرجاه وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما؟ " قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما . قال : { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما ، قال : { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مره فليرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه ، عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس ، فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا : يحمم ، ويجبه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ " قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .
رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : في اليهود إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قال : في اليهود { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : في الكفار كلها .
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة عن مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ " قالا : بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ، وأنجاكم من آل فرعون وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نشدت بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المكحلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فرجم ، فنزلت : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين }
ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث مجالد به نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .
ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود فشهدوا " .
فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ; لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا على كتمانه وجحده ، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، لهذا قالوا } إن } أوتيتم هذا والتحميم { فخذوه } أي: اقبلوه { وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي: من قبوله واتباعه .
قال الله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب } أي: الباطل { أكالون للسحت } أي: الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه؟ وأنى يستجيب له .
ثم قال لنبيه : { فإن جاءوك } أي: يتحاكمون إليك { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم ; لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق هواهم .
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي: بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إن الله يحب المقسطين }
ثم قال تعالى - منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين }
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { والربانيون والأحبار } أي: وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء { بما استحفظوا من كتاب الله } أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون } أي: لا تخافوا منهم وخافوني { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و { فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] { فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما ، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد : دية بعضهم نصف دية بعض . إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد : من يخبر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله ، وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى قوله : { الفاسقون } ففيهم - والله - أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل .
ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه ، بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآيات في " المائدة " ، قوله : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } إلى { المقسطين } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء - والله أعلم ؛ أي ذلك كان .
ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط }
ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك ، من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه .
وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم .
ولهذا قال بعد ذلك : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة .
وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها . رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت : قال : فقالا وفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر ! ثم تلا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }
وقال السدي : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين [ به ]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر . ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير .
ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب .
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } قال : للمسلمين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : هذا في المسلمين { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قال : هذا في اليهود { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : هذا في النصارى .
وكذا رواه هشيم والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : { ومن لم يحكم [ بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] } قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وكيع عن سفيان عن سعيد المكي عن طاوس : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

تفسير القرطبي : معنى الآية 42 من سورة المائدة


قوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطينفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : سماعون للكذب كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدمالثانية : قوله تعالى : أكالون للسحت على التكثير ، والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ; قال الله تعالى : فيسحتكم بعذاب ، وقال الفرزدق :وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفاكذا الرواية .
أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ; لأن معنى لم يدع لم يبق .
ويقال للحالق : أسحت أي استأصل ، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي : يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ; فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم ، وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .
قلت : والقول الأول أولى ; لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له .
قال ابن مسعود وغيره : السحت الرشا ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا : يا رسول الله ; وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ، وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها ، وقال ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ، ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام ، وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .
قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ; لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه .
والله أعلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : لعن الله الراشي والمرتشي ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ، وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ; إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقا قد لزمك ; فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام .
قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ; لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة .
وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع ; قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .
قلت : الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته ، وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ; قال ابن عبد البر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل ، وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم ، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام .
وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه ، والسحت والسحت لغتان قرئ بهما ; قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين ، والباقون بضم السين وحدها ، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته ; يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد .
وقال الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا .
قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم هذا تخيير من الله تعالى ; ذكره القشيري ; وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود ، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا .
فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان للشافعي ; وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم .
قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي ، واختلفوا في الذميين ; فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير ; روي ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ; فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها ، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما ; وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما ، وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان ، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا .
قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك ، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي ، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم .
فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام ، وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم ، وواجب قطع الفساد عنهم ، منهم ومن غيرهم ; لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ; ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ; ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ; لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين ، وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا ، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم ، وليس كذلك الديون والمعاملات ; لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد .
والله أعلم .
وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن على الحاكم أن يحكم بينهم ; وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم ، وروي عن عكرمة أنه قال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها آية أخرى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وقال مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان ; قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله ; وقوله : لا تحلوا شعائر الله نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله .
قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا ، وقال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له : قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ ; لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير ، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم ، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل وأن احكم بينهم بما أنزل الله .
وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي ; وهو الصحيح من قول الشافعي ; قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ; لقوله عز وجل : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
قال النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات ; لأنه إذا كان معنى قوله : وهم صاغرون أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم ; فإذا وجب هذا فالآية منسوخة ، وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد ، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .
وقال الباقون : يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء إن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس ; ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة ; لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم ، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة ، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا ، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه .
قال النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر ; منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل : وأن احكم بينهم يحتمل أمرين :أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك .
والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا ; فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : أهكذا حد الزاني عندكم فقالوا : نعم .
فدعا رجلا من علمائهم فقال : سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم فقال : لا .
الحديث ، وقد تقدم .
قال النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث .
فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ; قيل له : ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمر بن عبد البر : لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج ; لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل : إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، دليل على أنهم حكموه ، وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره .
فإن قال قائل : ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه .
قيل له : حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته .
ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ، ويقيم حدودهم عليهم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .
قوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر ; فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله ; فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط النفس بالنفس ، ونزلت:أفحكم الجاهلية يبغون

﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ [ المائدة: 42]

سورة : المائدة - الأية : ( 42 )  - الجزء : ( 6 )  -  الصفحة: ( 115 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد
  2. تفسير: اذهب إلى فرعون إنه طغى
  3. تفسير: إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين
  4. تفسير: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين
  5. تفسير: وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله
  6. تفسير: قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما
  7. تفسير: رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم
  8. تفسير: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم
  9. تفسير: ونذكرك كثيرا
  10. تفسير: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد

تحميل سورة المائدة mp3 :

سورة المائدة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة المائدة

سورة المائدة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة المائدة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة المائدة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة المائدة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة المائدة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة المائدة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة المائدة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة المائدة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة المائدة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة المائدة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب