وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
قوله عز وجل : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ) قرأ حمزة " لما " بكسر اللام وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما ، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم أي : أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة يعني أنهم أصحاب الشرائع ومن فتح اللام فمعناه : للذي آتيتكم بمعنى الخبر وقيل: بمعنى الجزاء أي : لئن آتيتكم ومهما آتيتكم وجواب الجزاء قوله ( لتؤمنن )قوله : ( لما آتيتكم ) قرأ نافع وأهل المدينة " آتيناكم " على التعظيم كما قال : " وآتينا داود زبورا " ( النساء - 163 ) " وآتيناه الحكم صبيا " ( سورة مريم 12 ) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ولقوله : ( وأنا معكم )واختلفوا في المعني بهذه الآية : فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده ، وأن يصدق بعضهم بعضا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه ، وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه ، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .( وقال الآخرون : بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ) فعلى هذا اختلفوا : منهم من قال : إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين ، وهذا قول مجاهد والربيع ، ألا ترى إلى قوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) وأما القراءة المعروفة ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) فأراد : أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه إن أدركوه .وقال بعضهم : أراد أخذ الله الميثاق على النبيين ، وأممهم جميعا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد على الأتباع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال علي بن أبي طالب : لم يبعث الله نبيا ، آدم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد ، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه .قوله : ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( لتؤمنن به ولتنصرنه ) يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام ، والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج ، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) أي : قبلتم على ذلكم عهدي ، والإصر : العهد الثقيل ، ( قالوا أقررنا قال ) الله تعالى : ( فاشهدوا ) أي : فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم ، ( وأنا معكم من الشاهدين ) عليكم وعليهم ، وقال ابن عباس : فاشهدوا ، أي : فاعلموا ، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور .
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين
( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) لفظه استفهام ومعناه جحد ، أي : لا يهدي الله ، وقيل معناه : كيف يهديهم الله في الآخرة إلى الجنة والثواب ( وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين )
قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
( قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله ) أي : لم تصرفون عن دين الله ، ( من آمن تبغونها ) تطلبونها ، ( عوجا ) زيغا وميلا يعني : لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجا؟ قال أبو عبيدة : العوج - بالكسر - في الدين والقول والعمل والعوج - بالفتح - في الجدار ، وكل شخص قائم ، ( وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) [ أن في التوراة مكتوبا ] نعت محمد صلى الله عليه وسلم وإن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين
"إن يمسسكم قرح"قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "قرح" بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما كالجهد والجهد، وقال الفراء القرح بالفتح: الجراحة، وبالضم:ألم الجراحة، هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى: "إن يمسسكم قرح" يوم أحد، "فقد مس القوم قرح مثله"، يوم بدر، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فيوم لهم ويوم عليهم، أديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد ألمليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أنا زهير أخبرنا أبو إسحق قال:سمعت البراء بن عازب قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير، فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم ، قال :فإنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين . فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين رجلاً، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرات،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه ، فقال كذبت والله ياعدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك مايسوءك ، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلهً لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز:أعل هبل أعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول مانقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه؟ قالوا : يا رسول الله مانقول ؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ".وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر ضي الله عنه : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار ، لقوله تعالى : "وإن جندنا لهم الغالبون" ، وكانت يوم احد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى:"وليعلم الله الذين آمنوا " يعني: إنما كانت هذه المداولة ليعلم الله (أي: ليرى الله ) الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، "ويتخذ منكم شهداء" يكرم أقواماً بالشهادة " والله لا يحب الظالمين ".
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
قوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى ) الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير ، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وابتلوا اليتامى ) اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم ، ( حتى إذا بلغوا النكاح ) أي : مبلغ الرجال والنساء ، ( فإن آنستم ) أبصرتم ، ( منهم رشدا ) فقال المفسرون يعني : عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده .والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مرارا =يغلب على القلب رشده ، دفع المال إليه .واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد ، فالبلوغ يكون بأحد ( أشياء أربعة ) ، اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء ، واثنان تختصان بالنساء :فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن ، والثاني الاحتلام ، أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، قال نافع : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة ، ومن لم يبلغها في الذرية . وهذا قول أكثر أهل العلم .وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة .وأما الاحتلام فنعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع ، أو غيرهما ، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه ، لقوله تعالى : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم دينارا " .وأما الإنبات ، وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج : فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة ، فكانوا ينظرون فمن =أنبت الشعر قتل ، ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت ممن لم ينبت .وهل يكون ذلك بلوغا في أولاد المسلمين؟ فيه قولان ، أحدهما : يكون بلوغا كما في أولاد الكفار ، والثاني : لا يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم .وأما ما يختص بالنساء : فالحيض والحبل ، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها ، وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحا في دينه وماله ، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه ، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دينه ، وإذا كان مفسدا لماله قال : لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذا قبله . والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال : ( حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة ، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .وإذا بلغ وأونس منه الرشد ، زال الحجر عنه ، ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج .وعند مالك رحمه الله تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت دفع إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ، ما لم تكبر وتجرب .فإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها ، نظر : فإن عاد مبذرا لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما : يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء .وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال ، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم ، فقال علي : لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك [ فقال الزبير : أنا شريكك في بيعتك ، فأتى علي عثمان وقال : احجر على هذا ] ، فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ، فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .قوله تعالى : ( ولا تأكلوها ) يا معشر الأولياء ( إسرافا ) بغير حق ، ( وبدارا ) أي مبادرة ( أن يكبروا ) ( أن ) في محل النصب ، يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزأه قليلا ولا كثيرا ، والعفة : الامتناع مما لا يحل ( ومن كان فقيرا ) محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل بالمعروف .أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي ، أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار ، أخبرنا أبو داؤد السجستاني ، أخبرنا حميد بن مسعدة ، أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم؟ فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " .واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقضي إذا أيسر ، وهو المراد من قوله ( فليأكل بالمعروف ) فالمعروف القرض ، أي : يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم : إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت .وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة .وقال قوم : لا قضاء عليه .ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه ، ولا يلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة .وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا؛ فإن أخذ شيئا منه رده .وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .وقال بعضهم : والمعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ، ولا قضاء عليه ، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .قوله تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) هذا أمر إرشاد ، ليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة ، ( وكفى بالله حسيبا ) محاسبا ومجازيا وشاهدا .
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
قوله عز وجل : ( واللاتي يأتين الفاحشة ) يعني : الزنا ، ( من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) يعني : من المسلمين ، وهذا خطاب للحكام ، أي : فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود ، وفيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود . ( فإن شهدوا فأمسكوهن ) فاحبسوهن ، ( في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود ، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب ، وفي حق الثيب بالجلد والرجم .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أخبرنا الشافعي رضي الله عنه أخبرنا عبد الوهاب عن يونس عن الحسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني : قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، قال الشافعي رضي الله عنه : وقد حدثني الثقة أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي ، ولا أدري أدخله عبد الوهاب بينهما فنزل عن كتابي أم لا .قال شيخنا الإمام : الحديث صحيح رواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة ، ثم نسخ الجلد في حق الثيب وبقي الرجم عند أكثر أهل العلم .وذهب طائفة إلى أنه يجمع بينهما . روي عن علي رضي الله عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ثم رجمها يوم الجمعة ، وقال : " جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .وعامة العلماء على أن الثيب لا يجلد مع الرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : التغريب أيضا منسوخ في حق البكر . وأكثر أهل العلم على أنه ثابت ، روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب .واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد؟ على قولين .
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
قوله تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية ، نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين ، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا ، فنزلت هذه الآية .وقال قتادة : قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .( ومن يطع الله ) في أداء الفرائض ، ( والرسول ) في السنن ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء ، ( والصديقين ) وهم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والصديق المبالغ في الصدق ، ( والشهداء ) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أحد ، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله ، وقال عكرمة : النبيون هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ( والصالحين ) سائر الصحابة رضي الله عنهم ، ( وحسن أولئك رفيقا ) يعني : رفقاء الجنة ، والعرب تضع الواحد موضع الجمع ، كقوله تعالى : ( ثم نخرجكم طفلا ) ( غافر - 67 ) أي : أطفالا ( ويولون الدبر ) أي : الأدبار .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أبو العباس السراج ، أنا قتيبة بن سعد ، أنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله الرجل يحب قوما ولما يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " المرء مع من أحب " .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي ، أنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله متى الساعة؟ قال : " وما أعددت لها " ؟ قال : فلم يذكر كثيرا ، إلا أنه يحب الله ورسوله قال : " فأنت مع من أحببت " .
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم لله ، ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره ، فذلك قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) منكم أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنيا وللمشهود له وإن كان فقيرا فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما ، ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل: معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .( وإن تلووا ) أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ( أو تعرضوا ) عنها فتكتموها ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا دفعته ، ومطلته ، وقيل: هذا خطاب مع الحكام في ليهم الأشداق ، يقول : وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة ( تلوا ) بضم اللام ، قيل: أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفا ، وقيل: معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءها ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) قال ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك ، ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم : إني - والله - أعلم إنكم لتعلمون أني رسول الله ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) إن جحدوك وكذبوك ( أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا )