ما يستفاد من الحديث:
1- إثبات أمر العين ومن ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» إلا أنها لا تعمل بذاتها بل بأمر اللَّه عز وجل وحده وقوله صلى الله عليه وسلم: «
العين تدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر» ، والمعنى أن العين تصيب الرجل فتقتله فيدفن في القبر وتصيب الجمل فيمرض فيذبحه صاحبه قبل موته فيطبخ في القدر ومن الأدلة كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «
إن العين لتولع بالرجل بإذن اللَّه حتى يصعد حالقًا فيتردى منه» والمعنى: أن الرجل يصعد مكانًا عاليًا فيسقط من أعلاه من أثر العين، وقوله صلى الله عليه وسلم: «
أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء اللَّه وقدره بالعين» .
2- قال ابن القيم : «
الْعَيْنُ: عَيْنَانِ: عَيْنٌ إِنْسِيَّةٌ، وَعَيْنٌ جِنِّيَّةٌ» ، وقال ابن الجوزي : «
الْعين: نظر باستحسان يشوبه شَيْء من الْحَسَد، وَيكون النَّاظر خَبِيث الطَّبْع، كذوات السمُوم، فيؤثر فِي المنظور إِلَيْهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ كل عاشق يُصِيب معشوقه بِالْعينِ، يُقَال: عِنت الرجل: إِذا أصبته بِعَيْنِك، فَهُوَ معِين، ومعيون، وَالْفَاعِل عائن، وَمعنى قَوْله: «الْعين حق»: أَنَّهَا تصيب بِلَا شكّ عَاجلاً، كَأَنَّهَا تسابق الْقدر، وَقد أشكل إِصَابَة الْعين على قوم، فاعترضوا على هَذَا الحَدِيث، فَقَالُوا: كَيفَ تعْمل الْعين من بعد حَتَّى تمرض؟ وَالْجَوَاب: أَن طبائع النَّاس تخْتَلف كَمَا تخْتَلف طبائع الْهَوَام» .
3- العين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر بقدر اللَّه، وقد يكون ذلك سماً يصل إلى عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، والحق أن اللَّه يخلق عند نظر العائن إليه، وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم، وهلكة، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقية، أو بالاغتسال، أو بغير ذلك .
4- قد تكون العين من الإعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل الصالح، والمحب لصاحبه، وأن بعض الناس قد يصاب بالسقم من تَوِّهِ بمجرد النظر إليه، فتحدث له من الأحوال السيئة ما لم تكن من قبل، بل ربما تقتل أحيانًا.
5- المشروع إذا رأى الإنسان شيئًا أعجبه من نفسه، أو ولده، أو ماله، أو غير ذلك أن يقول: ما شاء اللَّه، لا قوة إلا باللَّه؛ لقوله تعالى:
﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ سورة الكهف، الآية: 39 ، وأن يدع بالبركة والزيادة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «
ألا بركت؟» والبركة نماء وزيادة.
6- السنة فيمن أصابته العين أن يُطلب ممن اتُهم بذلك أن يغتسل للمصاب وعلى العائن ألا يتحرج من ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «
وإذا استغسلتم فاغسلوا» ، وذلك بغسل ما جاء في الحديث من الأعضاء، ويكون الغسل في قدح، ثم يقوم شخص بصب ذلك الماء على المعيون من خلفه على رأسه، وظهره، ثم يكفأ القدح ، وعند النسائي الصب باليمين ويكفأ الإناء من وراء ظهره على الأرض.
7- ومن السنة كذلك لمن أصيب بنظرة أو عين أو نحوه أن يسترقي للمعيون لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في وجه جارية لزوجته أم سلمة سفعة، قال: «
بها نظرة، فاسترقوا لها» ، والسفعة يعني: الصفرة، وقيل: هو تغير اللون بهزال أوغيره.
8- قال الحافظ ابن حجر : «
قال ابن القيم : هذه الكيفية – أي: في الغسل – لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها ولا من فعلها مجربًا غير معتقد، فكأن أثر تلك العين كشعلة من نار وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذًا فتطفئ تلك النار» .
9- قال ابن القيم : وهناك عشرة أسباب عظيمة إذا قام بها العبد وطبقها زال عنه شر الحاسد والعائن والساحر بإذن اللَّه وهي على النحو الآتي: السبب الأول: التعوذ باللَّه من شره والتحصن به واللجوء إليه كما قال اللَّه عز وجل:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ سورة الفلق، الآيات: 1 - 5 .
السبب الثاني: تقوى اللَّه وحفظه عند أمره ونهيه كقول اللَّه:
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ سورة آل عمران، الآية: 120 .
السبب الثالث: الصبر على عدوه وألا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا فما نصر على حاسده بمثل الصبر وكلما زاد الحاسد في بغيه زاد هو في صبره
﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ سورة فاطر، الآية: 43 .
السبب الرابع: التوكل على اللَّه لأنه من أعظم الأسباب التي ينجو بها العبد من أذى الخلق
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ سورة الطلاق، الآية: 3 ومن كان اللَّه كافيه فلا مطمع فيه لعدو.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه وهذا من أقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره؛ لأنه حاسد، والحسد كالنار فإن لم يجد ما يأكله أكل بعضه بعضًا.
السبب السادس: الإقبال على اللَّه والإخلاص له، والإنابة إليه في كل خواطر نفسه؛ لأن المخلص يأوي إلى حصن حصين قال اللَّه عز وجل إخباراً عن إبليس:
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ سورة ص، الآيتان: 82- 83 .
السبب السابع: تجريد التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، قال اللَّه عز وجل:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ سورة الشورى، الآية: 30 .
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ لأن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء.
السبب التاسع: إطفاء نار الحاسد بالإحسان إليه، وهذا كان فعله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه لما ضربوه حتى أدموه فقال: «
اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
السبب العاشر: تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم والعلم بأن كل شيء لا يضر ولا ينفع إلا بإذن اللَّه.
قال تعالى:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ سورة يونس، الآية: 107 .
10- بعض الفروق بين العين والحسد: أ – الحاسد أعم من العائن ولذلك فإذا استعاذ المسلم من شر الحاسد دخل فيه العائن لقول اللَّه عز وجل:
﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ سورة الفلق، الآية: 5 .
ب – العين سببها الإعجاب بالشيء أما الحسد فدافعه الحقد والغل وتمني زوال النعمة.
ج – الحاسد حسده قد يقع في الأمر قبل وقوعه أما العائن فلا يعين إلا ما وجد أمامه.
د – الحسد لا يقع إلا من نفس خبيثة بطبعها، أما العين فقد يقع من نفس طيبة.
هـ – الحسد والعين يشتركان فيما يترتب عليهما من وقوع الضرر ولكنهما يختلفان في السبب فالحاسد يتمنى زوال النعم والعائن غير ذلك.
11- قال ابن بطال : «
وقال بعض أهل العلم: إذا عرف أحد بالإصابة بالعين، فينبغى اجتنابه، والتحرز منه، وإذا ثبت عند الإمام، فينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، والتعرض لأذاهم، ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه مايقوم به، وكفَّ عن الناس عاديته، فضرُّه أشد من ضر آكل الثوم الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم مشاهدة صلاة الجماعة، وضرّه أشد من ضر المجذومة التي منعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطواف مع الناس» .
12- قال ابن عبد البر : «
فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ يُتَأَذَّى بِهَا، وَأَنَّ الرُّقَى تَنْفَعُ مِنْهَا إِذَا قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَالشِّفَاءُ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَسَبِيلُ الرُّقَى سبيل سَائِرُ الْعِلَاجِ، وَالطِّبِّ» .
13- قال الإمام النووي : «
أَخَذَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَأَنْكَرَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَيْسَ مُخَالِفًا في نفسه، ولايؤدي إلى قلب حقيقة، ولاإفساد دَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْعُقُولِ، إِذَا أَخْبَرَ الشرع بوقوعه وجب اعتقاده، ولايجوز تَكْذِيبُهُ، وَهَلْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ بِهَذَا، وتكذيبهم بما يخبر بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الطَّبَائِعِيِّينَ مِنَ الْمُثَبِّتِينَ لِلْعَيْنِ أَنَّ الْعَائِنَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ، تَتَّصِلُ بِالْعَيْنِ، فيهلك أو يفسد، قالوا: ولايمتنع هذا، كما لايمتنع انْبِعَاثُ قُوَّةٍ سُمِّيَّةٍ مِنَ الْأَفْعَى، وَالْعَقْرَبِ، تَتَّصِلُ بِاللَّدِيغِ، فَيَهْلَكُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ لَنَا، فَكَذَا الْعَيْنُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ العقائد أَنَّ لافاعل إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيَّنَّا فَسَادَ الْقَوْلِ بِالطَّبَائِعِ، وبينا أن المحدث لايفعل فِي غَيْرِهِ شَيْئًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، بَطَلَ مَا قَالُوهُ، ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْمُنْبَعِثُ مِنَ الْعَيْنِ، إِمَّا جَوْهَرٌ، وَإِمَّا عَرَضٌ، فَبَاطِلٌ أَنْ يكون عرضاً؛ لأنه لايقبل الِانْتِقَالَ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَجَانِسَةٌ؛ فَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِبَعْضِهَا بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ، قَالَ: وَأَقْرَبُ طَرِيقَةٍ قَالَهَا مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامُ، مِنْهُمْ أن قالوا لايبعد أَنْ تَنْبَعِثَ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مِنَ الْعَيْنِ، فَتَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ، وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَّ جِسْمِهِ، فَيَخْلُقُ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْهَلَاكَ عِنْدَهَا، كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عِنْدَ شُرْبِ السُّمِّ، عَادَةً أَجْرَاهَا اللَّهُ تعالى، وليست ضرورة، ولاطبيعة أَلْجَأَ الْعَقْلُ إِلَيْهَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ إِنَّمَا تَفْسُدُ، وَتَهْلَكُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَجْرَى اللَّهُ سبحانه وتعالى الْعَادَةَ أَنْ يَخْلُقَ الضَّرَرَ عِنْدَ مُقَابَلَةِ هَذَا الشخص لشخص آخر، وهل ثم جواهر خفية، أم لا؟ هذا من مجوزات العقول، لايقطع فِيهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِنَفْيِ الْفِعْلِ عَنْهَا، وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ قَطَعَ مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِسْلَامِ بِانْبِعَاثِ الْجَوَاهِرِ، فَقَدْ أخطأ في قطعه، وانما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول، أما مايتعلق بِعِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْوُضُوءِ لِهَذَا الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ لَمَّا أُصِيبَ بِالْعَيْنِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِنَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ» .