1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ البقرة: 222] .

  
   

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
[ سورة البقرة: 222]

القول في تفسير قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء


ويسألونك عن الحيض- وهو الدم الذي يسيل من أرحام النساء جِبِلَّة في أوقات مخصوصة-، قل لهم -أيها النبي-: هو أذى مستقذر يضر من يَقْرَبُه، فاجتنبوا جماع النساء مدة الحيض حتى ينقطع الدم، فإذا انقطع الدم، واغتسلن، فجامعوهن في الموضع الذي أحلَّه الله لكم، وهو القبل لا الدبر. إن الله يحب عباده المكثرين من الاستغفار والتوبة، ويحب عباده المتطهرين الذين يبتعدون عن الفواحش والأقذار.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


ويسألك أصحابك - أيها النبي - عن الحيض (وهو دم طبيعي يخرج من رحم المرأة في أوقات مخصوصة)؟ قل مجيبًا إياهم: الحيض أذى للرجل والمرأة، فاجتنبوا جماع النساء في وقته، ولا تقربوهن بالوطء حتى ينقطع الدم عنهن، ويتطهرن منه بالغُسل، فإذا انقطع وتطهرن منه فجامعوهن على الوجه الذي أباح لكم: طاهرات في قُبُلهن، إن الله يحب المكثرين من التوبة من المعاصي، والمبالغين في الطهارة من الأخباث.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 222


«ويسألونك عن المحيض» أي الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه «قل هو أذى» قذر أو محله «فاعتزلوا النساء» اتركوا وطأهن «في المحيض» أي وقته أو مكانه «ولا تقربوهن» بالجماع «حتى يَطْهُرن» بسكون الطاء وتشديدها والهاء وفيه إدغام التاء في الأصل في الطاء أي يغتسلن بعد انقطاعه «فإذا تطهرن فأتوهن» بالجماع «من حيث أمركم الله» بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تعدوه إلى غيره «إن الله يحب» يثيب ويكرم «التوابين» من الذنوب «ويحب المتطهرين» من الأقذار.

تفسير السعدي : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء


يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.
فأخبر تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده, ولهذا قال: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ }- أي: مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في غير الوطء في الفرج جائز.
لكن قوله: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة, ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها أن تتزر, فيباشرها.
وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض { حَتَّى يَطْهُرْنَ }- أي: ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود وقت جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم, والاغتسال منه.
فلما انقطع الدم, زال الشرط الأول وبقي الثاني, فلهذا قال: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ }- أي: اغتسلن { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }- أي: في القبل لا في الدبر, لأنه محل الحرث.
وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض, وأن انقطاع الدم, شرط لصحته.
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ }- أي: من ذنوبهم على الدوام { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }- أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث.
ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف بها, ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.

تفسير البغوي : مضمون الآية 222 من سورة البقرة


قوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض ) أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلئي أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد بن سلمة أنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح " فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما .
قوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض ) أي عن الحيض وهو مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا كالسير والمسير وأصل الحيض الانفجار والسيلان وقوله ( قل هو أذى ) أي قذر والأذى كل ما يكره من كل شيء ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) أراد بالاعتزال ترك الوطء ( ولا تقربوهن ) أي لا تجامعوهن أما الملامسة والمضاجعة معها فجائزة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة أنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب وكان يأمرني أن أتزر فيباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعد بن حفص أنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم سلمة قالت : " حضت وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضي فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنفست؟ قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة " .
أخبرنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد حكيم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو أنا صدقة أنا وكيع أنا مسعر وسفيان ، عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في وأتعرق العرق فيتناوله فيضع فاه في موضع في " .
فوطء الحائض حرام ومن فعله يعصي الله عز وجل ويعزره الإمام إن علم منه ذلك واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة عليه فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه فيستغفر الله ويتوب إليه .
وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه منهم : قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل جامع امرأته وهي حائض قال : " إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار وإن كان صفرة فنصف دينار " .
ويروى هذا موقوفا عن ابن عباس ويمنع الحيض جواز الصلاة ووجوبها ويمنع جواز الصوم ولا يمنع وجوبه حتى إذا طهرت يجب عليها قضاء الصوم ولا يجب قضاء الصلاة وكذلك النفساء .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا علي بن حجر أنا علي بن مسهر عن عبيدة بن معتب الضبي عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت : " كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة " .
ولا يجوز للحائض الطواف بالبيت ولا الاعتكاف في المسجد ولا مس المصحف ولا قراءة القرآن ولا يجوز للزوج غشيانها .
أخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا القاسم بن جعفر ، أنا أبو علي اللؤلئي أنا أبو داود أنا مسدد أنا عبد الواحد بن زياد أنا أفلت بن خليفة قال : حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب .
قوله تعالى : ( حتى يطهرن ) قرأ عاصم برواية أبي بكر وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء يعني : حتى يغتسلن وقرأ الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء فخفف ومعناه حتى يطهرن من الحيض وينقطع دمهن ( فإذا تطهرن ) يعني اغتسلن ) ( فأتوهن ) أي فجامعوهن ( من حيث أمركم الله ) أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه وهو الفرج قاله مجاهد وقتادة وعكرمة وقال ابن عباس : طئوهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره أي اتقوا الأدبار وقيل ) ( من ) بمعنى ) ( في ) أي في حيث أمركم الله تعالى وهو الفرج كقوله تعالى : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " 9 - الجمعة ) أي في يوم الجمعة وقيل ) ( فأتوهن ) الوجه الذي أمركم الله أن تأتوهن وهو الطهر وقال ابن الحنفية : من قبل الحلال دون الفجور وقيل: لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات : وأتوهن وغشيانهن لكم حلال واعلم أنه لا يرتفع تحريم شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء إلا تحريم الصوم فإن الحائض إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فوقع غسلها بالنهار صح صومها والطلاق في حال الحيض يكون بدعيا وإذا طلقها بعد انقطاع الدم قبل الغسل لا يكون بدعيا وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهي عدة عشرة أيام يجوز للزوج غشيانها قبل الغسل وقال مجاهد وطاووس : إذا غسلت فرجها جاز للزوج غشيانها قبل الغسل .
وأكثر أهل العلم على التحريم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء لأن الله تعالى علق جواز وطئها بشرطين : بانقطاع الدم والغسل فقال ( حتى يطهرن ) يعني من الحيض ( فإذا تطهرن ) يعني اغتسلن ) ( فأتوهن ) ومن قرأ يطهرن بالتشديد فالمراد من ذلك الغسل كقوله تعالى " وإن كنتم جنبا فاطهروا " ( 6 - المائدة ) أي فاغتسلوا فدل على أن قبل الغسل لا يحل الوطء .
قوله تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبي : يحب التوابين من الذنوب ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات وقال مقاتل بن حيان : يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك وقال سعيد بن جبير : التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب وقال مجاهد : التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها والتواب : الذي كلما أذنب تاب نظيره قوله تعالى : " فإنه كان للأوابين غفورا " ( 25 - الإسراء ) .

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


روى الإمام مسلّم في صحيحه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت أى لا يسكنون معهن- فسأل الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله-تبارك وتعالى-: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً.
الآية فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اصنعوا كل شيء إلا النكاح.
فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظنا أن قد وجد عليهما- أى غضب- فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
والمحيض: الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا فهي حائض، وأصله السيلان.
يقال حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه.
ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص.
والأذى: الشيء الذي يتأذى منه الإنسان ويصيبه الضرر بسببه.
والسؤال كان من بعض الصحابة، لأنه لقوة إيمانهم كانوا يحبون أن يعرفوا حكم الإسلام في شئونهم الخاصة والعامة، ولأنهم وجدوا أن اليهود وغيرهم يعاملون المرأة في حال حيضها معاملة غير كريمة فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر الذي يتصل بأدق العلاقات بين الرجل والمرأة وهو حكم مباشرة النساء في حال الحيض، فأجابهم الله-تبارك وتعالى- جوابا شافيا.
والمعنى: ويسألك أصحابك يا محمد عن حكم مباشرة النساء في حال الحيض فقل لهم معلما وموجها: إن الحيض أى الدم الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسيما، فرائحته يتأذى منها من يشمها، وهو في ذاته شيء متقذر تعافه النفوس، وتنفر منه الطباع.
وقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان للحكم المتفرع على تلك الحالة التي يتأذى منها وهي حالة الحيض.
والاعتزال: التباعد، وهو هنا كناية عن ترك الجماع والمباشرة، كما أن النهى عن قربهن كناية عن النهى عن جماعهن، يقال: قرب الرجل امرأته إذا جامعها.
ويَطْهُرْنَ من الطهر- بضم الطاء- بمعنى النقاء من الوسخ والقذر-.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن، ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك، لأن غشيانهن في هذه الحالة يؤذيكم بسبب عدم نقاء المحل الذي يكون فيه الغشيان للمرأة، والمرأة أيضا تتأذى من مباشرتها في زمن الحيض لأنها لا تكون في حالة تستسيغ معها المباشرة، فجهازها التناسلى في حالة اضطراب، وهيئتها العامة في حالة تجعلها من شأنها أن تنفر من الجماع، والولد الذي يأتى عن طريق الجماع في حالة الحيض- على فرض إتيانه في هذه الحالة- كثيرا ما يأتى مشوها ضعيفا، لأن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض، أخذت البويضات في التخلق قبل وقت صلاحيتها للتخلق النافع الذي يكون وقته بعد انتهاء فترة الحيض وقد قال بذلك الأطباء الثقاة .
وعرفه العرب القدامى بالتجربة، قال أبو كبير الهذلى.
ومبرأ من كل غبّر حيضة ...
وفساد مرضعة وداء معضلوقد أجمع العلماء- كما بينا- على أن المراد بالاعتزال هو اجتناب المباشرة، إلا أنهم اختلفوا فيما يجب اعتزاله من المرأة بعد ذلك.
فبعضهم يرى اعتزال جميع بدن المرأة، وحجتهم أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء.
وبعضهم يرى اعتزال موضع الأذى- أى مكان خروج الدم- لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» .
وبعضهم يرى اعتزال ما بين السرة إلى الركبة من المرأة وله ما سوى ذلك، لقول عائشة:كانت إحدانا إذا كانت حائضة أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر ثم يباشرها.
وقوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد لحكم الاعتزال وتقرير له، وتنبيه على أن المراد به عدم جماعهن لا عدم القرب منهن أو مخالطتهن أو الأكل معهن كما كان يفعل اليهود وبعض العرب.
والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كنت أرجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض» .
وروى البخاري عن عائشة- أيضا- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن.
وروى مسلّم عنها أيضا قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيضع فاه على موضع فىّ فيشرب.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان لغاية الاعتزال.
وقرأ حمزة الكسائي حَتَّى يَطْهُرْنَ بفتح الطاء والهاء مع التشديد.
ومعناه عند جمهور الفقهاء ولا تجامعوهن حتى يغتسلن، لأن القراءتين معناهما واحد، ولأن الله-تبارك وتعالى- قد علق الإتيان على التطهر فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ والتطهر هو الاغتسال.
فالمرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد الاغتسال.
ويرى الأحناف أن معنى حَتَّى يَطْهُرْنَ أى حتى ينقطع الدم، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم فانقطاعه طهور منه، وبناء على ذلك فيجوز للرجل أن يباشر زوجته قبل أن تغتسل متى انقطع دمها لأقصى مدة الحيض، وهو عشرة أيام.
أخذا بالقراءة المشهورة يَطْهُرْنَ بالتخفيف.
أما إذا انقطع الدم قبل ذلك فلا تحل مباشرتها إلا بالتأكيد من زوال الدم بعمل من جانبها وهو الاغتسال الفعلى، لأن قراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد عندهم معناها يغتسلن.
وقال بعض الفقهاء يكفى في حلها أن تتوضأ عند انقطاع الدم.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وفي هاتين الجملتين الكريمتين فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ من سمو التعبير، وبديع الكناية ما يغرس في نفس السامع حسن الأدب، ويصون سمعه عن الألفاظ التي يجافى سماعها الأذواق السليمة، وما أحوج المسلمين إلى التأسى بهذا الأدب الذي يحفظ عليهم مروءتهم وكرامتهم.
ثم قال-تبارك وتعالى-: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أى: فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره.
والأمر في قوله-تبارك وتعالى-: فَأْتُوهُنَّ المراد به إباحة المباشرة، لأن من المقرر عند العلماء أن الأمر بعد النهى يكون للإباحة، خصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، وليس المراد به الحتم واللزوم، لأن الإتيان مبنى على الرغبة والطاقة وشبه بهذا التعبير قوله-تبارك وتعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
قال الجمل: ومن في قوله: «من حيث» فيها قولان:أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أى من الجهة التي تنتهي إلى موضع الحيض.
والثاني: أن تكون بمعنى في أى المكان الذي نهيتم عنه في الحيض.
ورجح بعضهم هذا بأنه ملائم لقوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ .
وعلى كلا القولين فالمقصود أن يأتى الرجل زوجته في المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو القبل إذ هو مكان البذر والإنسال، ولا يخرج عن ذلك إلا الذين أصيبوا بشذوذ في عقولهم، وضعف في دينهم..ثم ختم- سبحانه - الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا زل وهفا.
والمتطهر: هو الإنسان المتنزه عن الفواحش والأقذار.
أى: إن الله-تبارك وتعالى- يحب عباده الذين يكثرون الرجوع إليه إذا ما ظلموا أنفسهم بسيئة من السيئات، والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة.
قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعى لعقاب الله-تبارك وتعالى- فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتى وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة» وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر، أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار» .

ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء: تفسير ابن كثير


قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحاب النبي [ النبي ] صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " . فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة .
فقوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض } يعني [ في ] الفرج ، لقوله : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " ; ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج .
قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ، ألقى على فرجها ثوبا .
وقال أبو داود أيضا : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب : أن عمة له حدثته : أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخل فمضى إلى مسجده قال أبو داود : تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : " ادني مني " . فقلت : إني حائض . فقال : " اكشفي عن فخذيك " . فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم . وقال : أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة : أن مسروقا ركب إلى عائشة ، فقال : السلام على النبي وعلى أهله . فقالت عائشة : أبو عائشة ! مرحبا مرحبا . فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحي . فقالت : إنما أنا أمك ، وأنت ابني . فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت : له كل شيء إلا فرجها .
ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة .
وروى ابن جرير أيضا ، عن أبي كريب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مهران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار .
قلت : وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف . قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ القرآن . وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرق العرق وأنا حائض ، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يعده ، وإن أصاب يعني ثوبه شيء غسل مكانه لم يعده ، وصلى فيه .
فأما ما رواه أبو داود : حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة : أنها قالت : كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط .
وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض . وهذا لفظ البخاري . ولهما عن عائشة نحوه .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث العلاء بن الحارث ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : " ما فوق الإزار " .
ولأبي داود أيضا ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض . قال : " ما فوق الإزار ، والتعفف عن ذلك أفضل " . وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وشريح .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم . ومأخذهم أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج . ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه . وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض : " يتصدق بدينار ، أو نصف دينار " . وفي لفظ للترمذي : " إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار " . وللإمام أحمد أيضا ، عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار .
والقول الثاني : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور : أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [ قد ] روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } تفسير لقوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض } ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ، ومفهومه حله إذا انقطع ، [ وقد قال به طائفة من السلف . قال القرطبي : وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ ] .
وقوله : { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ، لقوله : { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر . وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق . وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول : إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر . والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبا فواجب ، كقوله تعالى : } فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، أو مباحا فمباح ، كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] ، { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة المتأخرين ، وهو الصحيح .
وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ، إن تعذر ذلك عليها بشرطه ، [ إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم ] . إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده : إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ، فيدخل بمجرد انقطاعه ] والله أعلم .
وقال ابن عباس : { حتى يطهرن } أي: من الدم { فإذا تطهرن } أي: بالماء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ، وغيرهم .
وقوله : { من حيث أمركم الله } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني الفرج ; قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فأتوهن من حيث أمركم الله } يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : { فأتوهن من حيث أمركم الله } أي: أن تعتزلوهن . وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبا .
وقال أبو رزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : { فأتوهن من حيث أمركم الله } يعني : طاهرات غير حيض ، ولهذا قال تعالى : { إن الله يحب التوابين } أي: من الذنب وإن تكرر غشيانه ، { ويحب المتطهرين } أي: المتنزهين عن الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى .

تفسير القرطبي : معنى الآية 222 من سورة البقرة


قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرينفيه أربع عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل : أسيد بن حضير وعباد بن بشر ، وهو قول الأكثرين .
وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره : أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ، فنزلت هذه الآية .
وقال مجاهد : كانوا يتجنبون النساء في الحيض ، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض ، فنزلت .
وفي صحيح مسلم عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
قال علماؤنا : كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض ، وكانت النصارى يجامعون الحيض ، فأمر الله بالقصد بين هذين .
الثانية : قوله تعالى : عن المحيض المحيض : الحيض وهو مصدر ، يقال : حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا ، فهي حائض ، وحائضة أيضا ، عن الفراء وأنشد :كحائضة يزنى بها غير طاهرونساء حيض وحوائض .
والحيضة : المرة الواحدة .
والحيضة ( بالكسر ) الاسم ، والجمع الحيض .
والحيضة أيضا : الخرقة التي تستثفر بها المرأة .
قالت عائشة رضي الله عنها : ليتني كنت حيضة ملقاة .
وكذلك المحيضة ، والجمع المحائض .
وقيل : المحيض عبارة عن الزمان والمكان ، وعن الحيض نفسه ، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض .
وقال الطبري : المحيض اسم للحيض ، ومثله قول رؤبة في العيش :إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشيوأصل الكلمة من السيلان والانفجار ، يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها ، ومنه الحيض أي الحوض ؛ لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو ؛ لأنهما من حيز واحد .
قال ابن عرفة : المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع ، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه ، يقال : حاضت المرأة وتحيضت ، ودرست وعركت ، وطمثت ، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة .
فإذا سال في غير أيام معلومة ، ومن غير عرق المحيض قلت : استحيضت ، فهي مستحاضة .
ابن العربي .
ولها ثمانية أسماء : الأول : حائض .
الثاني : عارك .
الثالث : فارك .
الرابع : طامس .
الخامس : دارس .
السادس : كابر .
السابع : ضاحك .
الثامن : طامث .
قال مجاهد في قوله تعالى : فضحكت يعني حاضت .
وقيل في قوله تعالى : فلما رأينه أكبرنه يعني حضن .
وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
الثالثة : أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها ، فمن ذلك الحيض المعروف ، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة ، تترك له الصلاة والصوم ، لا خلاف في ذلك .
وقد يتصل وينقطع ، فإن اتصل فالحكم ثابت له ، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما ، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم ، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي ، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها ، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء .
والحيض خلقة في النساء ، وطبع معتاد معروف منهن .
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار - فقلن وبم يا رسول الله ؟ قال - تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن - قلن : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن : بلى يا رسول الله ، قال : فذلك من نقصان دينها .
وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ، لحديث معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : أحرورية أنت ؟ قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل .
قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، خرجه مسلم .
فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل ، على ما يأتي .
الرابعة : واختلف العلماء في مقدار الحيض ، فقال فقهاء المدينة : إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما ، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون ، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة ، هذا مذهب مالك وأصحابه .
وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء ، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء .
وقال محمد بن سلمة : أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري ، وهو الصحيح في الباب ؛ لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض ، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر ، فكان كل قرء عوضا من شهر ، والشهر يجمع الطهر والحيض .
فإذا قل الحيض كثر الطهر ، وإذا كثر الحيض قل الطهر ، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر ، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة .
وقال الشافعي : أقل الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما .
وقد روي عنه مثل قول مالك : إن ذلك مردود إلى عرف النساء .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة .
قال ابن عبد البر : ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة ، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره ؛ لأنه لا يعلم مبلغ مدته .
ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات ، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين .
وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة .
وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة ، وهو قول الأوزاعي والطبري .
وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل .
قال الأوزاعي : وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب - من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر ، وفى الاستظهار ، والحجة في ذلك - في " المقتبس في شرح موطإ مالك بن أنس " فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما ، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما .
وقال مالك : لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها .
علي بن زياد عنه : تجلس قدر لداتها ، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما .
ابن حنبل : تجلس يوما وليلة ، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها .
أبو حنيفة وأبو يوسف : تدع الصلاة عشرا ، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما ، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا ، فيكون هذا حالها حتى ينقطع الدم عنها .
أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام ، عن مالك : ما لم تجاوز خمسة عشر يوما .
الشافعي : تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار .
والثاني من الدماء : دم النفاس عند الولادة ، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه ، فقيل : شهران ، وهو قول مالك .
وقيل : أربعون يوما ، وهو قول الشافعي .
وقيل غير ذلك .
وطهرها عند انقطاعه .
والغسل منه كالغسل من الجنابة .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا : وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه - وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة - والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق ، والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه ، وفي قراءة القرآن روايتان .
والثالث من الدماء : دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة ، وإنما هو عرق انقطع ، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه ، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض .
روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قالت فاطمة بنت أبي حبيش : يا رسول الله ، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي .
وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة ، وهو أصح ما روي في هذا الباب ، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة ، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة .
وفيه أن الحائض لا تصلي ، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة .
وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ، ولو لزمها غيره لأمرها به ، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة .
ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد ، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح .
ولقول من قال : تغتسل من طهر إلى طهر .
ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك .
وفيه رد لقول من قال بالاستظهار ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء ، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها .
الخامسة : قوله تعالى : قل هو أذى أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض .
والأذى كناية عن القذر على الجملة .
ويطلق على القول المكروه ، ومنه قوله تعالى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ؛ أي بما تسمعه من المكروه .
ومنه قوله تعالى : ودع أذاهم ؛ أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم ، وفي الحديث : وأميطوا عنه الأذى يعني ب " الأذى " الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد ، يحلق عنه يوم أسبوعه ، وهي العقيقة .
وفي حديث الإيمان : وأدناها إماطة الأذى عن الطريق أي تنحيته ، يعني الشوك والحجر ، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار .
وقوله تعالى : ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر وسيأتي .
السادسة : استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة ، فقالوا : كل دم فهو أذى ، يجب غسله من الثوب والبدن ، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس .
وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول ، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري .
واختلف فيه عن الحسن ، وهو قول عائشة : لا يأتيها زوجها ، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبد الرحمن ، وكان من أعلى أصحاب مالك ، وأبو مصعب ، وبه كان يفتى .
وقال جمهور العلماء : المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ ، ويأتيها زوجها .
قال مالك : أمر أهل الفقه والعلم على هذا ، وإن كان دمها كثيرا ، رواه عنه ابن وهب .
وكان أحمد يقول : أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها .
وعن ابن عباس في المستحاضة : ( لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها ) .
وقال مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك عرق وليس بالحيضة .
فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبد البر : لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء .
السابعة : قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض أي في زمن الحيض ، إن حملت المحيض على المصدر ، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم .
ومقصود هذا النهي ترك المجامعة .
وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها ، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني ( أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ) .
وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء .
وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه ، وقد وقفت علىابن عباس خالته ميمونة وقالت له : أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء : له منها ما فوق الإزار ، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقال - : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت : شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك .
وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي : يجتنب موضع الدم ، لقوله عليه السلام : اصنعوا كل شيء إلا النكاح .
وقد تقدم .
وهو قول داود ، وهو الصحيح من قول الشافعي .
وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال : سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج .
قال العلماء : مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا ، والمحرم نفسه موضع الدم ، فتتفق بذلك معاني الآثار ، ولا تضاد ، وبالله التوفيق .
الثامنة : واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : يستغفر الله ولا شيء عليه ، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد ، وبه قال داود .
وروي عن محمد بن الحسن : يتصدق بنصف دينار .
وقال أحمد : ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : يتصدق بدينار أو نصف دينار .
أخرجه أبو داود وقال : هكذا الرواية الصحيحة ، قال : دينار أو نصف دينار ، واستحبه الطبري .
فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وهو قول الشافعي ببغداد .
وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار ، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار .
وقال الأوزاعي : من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار ، والطرق لهذا كله في " سنن أبي داود والدارقطني " وغيرهما .
وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار .
قال أبو عمر : حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس ، وأن مثله لا تقوم به حجة ، وأن الذمة على البراءة ، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه ، وذلك معدوم في هذه المسألة .
التاسعة : قوله تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه : لا تلبس بالفعل ، وإن كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه يطهرن بسكون الطاء وضم الهاء .
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل " يطهرن " بتشديد الطاء والهاء وفتحهما .
وفي مصحف أبي وعبد الله " يتطهرن " .
وفي مصحف أنس بن مالك " ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن " .
ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء ، وقال : هي بمعنى يغتسلن ، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر .
قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو ، فقال قوم : هو الاغتسال بالماء .
وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة .
وقال قوم : هو غسل الفرج ، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة ، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء ، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي .
العاشرة : قوله تعالى : فإذا تطهرن يعني بالماء ، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء ، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب ، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره ، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم .
وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي : إذا طهرت الحائض وتيممت - حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل .
وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها .
ولكن بأن تتوضأ .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة .
وهذا تحكم لا وجه له ، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها : عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل ، مع موافقة أهل المدينة .
ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين : أحدهما : انقطاع الدم ، وهو قوله تعالى : حتى يطهرن .
والثاني : الاغتسال بالماء ، وهو قوله تعالى : فإذا تطهرن أي يفعلن الغسل بالماء ، وهذا مثل قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح الآية ، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين : أحدهما : بلوغ المكلف النكاح .
والثاني : إيناس الرشد ، وكذلك قوله تعالى في المطلقة : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة ، فوقف التحليل على الأمرين جميعا ، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء .
احتج أبو حنيفة فقال : إن معنى الآية ، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها ، فيكون قوله : حتى يطهرن مخففا هو بمعنى قوله : " يطهرن " مشددا بعينه ، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية ، كما قال تعالى : فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .
قال الكميت :وما كانت الأنصار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيبوأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما .
ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى ، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل ، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل ؛ لأنه لا يؤمن عوده : ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل .
قال ابن العربي : وهذا أقوى ما لهم ، فالجواب عن الأول : أن ذلك ليس من كلام الفصحاء ، ولا ألسن البلغاء ، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد ، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس ، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني : أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى ، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة ، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه ، فهي إذا حائض ، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا .
وأيضا فإن ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر ، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر ، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين ، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى ، والتحريم أولى .
والله أعلم .
الحادية عشرة : واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا ، فقال مالك في رواية ابن القاسم : نعم ، ليحل للزوج وطؤها ، قال الله تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن يقول بالماء ، ولم يخص مسلمة من غيرها .
وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض ؛ لأنها غير معتقدة لذلك ، لقوله تعالى : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو الحيض والحمل ، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات ، وقال : لا إكراه في الدين وبهذا كان يقول محمود بن عبد الحكم .
الثانية عشرة : وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة ، وليس عليها نقض شعرها في ذلك ، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله ، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين وفي رواية : أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال : ( لا ) زاد أبو داود : ( واغمزي قرونك عند كل حفنة ) .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله أي فجامعوهن .
وهو أمر إباحة ، وكنى بالإتيان عن الوطء ، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء ؛ لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل .
والله أعلم .
و من بمعنى في ، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل ، ونظيره قوله تعالى : أروني ماذا خلقوا من الأرض ؛ أي في الأرض ، : وقوله : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة .
وقيل : المعنى ، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه ، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف ، قاله الأصم .
وقال ابن عباس وأبو رزين : ( من قبل الطهر لا من قبل الحيض ) ، وقاله الضحاك .
وقال محمد ابن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين اختلف فيه ، فقيل : التوابون من الذنوب والشرك .
والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث ، قاله عطاء وغيره .
وقال مجاهد : من الذنوب ، وعنه أيضا : من إتيان النساء في أدبارهن .
ابن عطية : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون .
وقيل : المتطهرون الذين لم يذنبوا .
فإن قيل : كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب ، قيل : قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه ، كما ذكر في آية أخرى : فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾ [ البقرة: 222]

سورة : البقرة - الأية : ( 222 )  - الجزء : ( 2 )  -  الصفحة: ( 35 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنـزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
  2. تفسير: وكواعب أترابا
  3. تفسير: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما
  4. تفسير: وما أدراك ما الطارق
  5. تفسير: خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون
  6. تفسير: الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون
  7. تفسير: ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون
  8. تفسير: وبرزت الجحيم للغاوين
  9. تفسير: اقرأ باسم ربك الذي خلق
  10. تفسير: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب

تحميل سورة البقرة mp3 :

سورة البقرة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة البقرة

سورة البقرة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة البقرة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة البقرة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة البقرة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة البقرة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة البقرة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة البقرة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة البقرة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة البقرة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة البقرة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

يسألونك , أذى , اعتزلوا , النساء , المحيض , الله+يحب , التوابين , المتطهرين ,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب