لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يفتح علينا أبواب فهم سنن نبيه ﷺ.
هذا الحديث الذي ذكر رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله ﷺ، وسأشرحه لك شرحاً وافياً على النحو التالي:

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● لم يكذب إبراهيم: أي لم يقع منه الكذب المعروف المحرم إلا في هذه المواضع الثلاثة.
● كذبات: جمع كذبة، وهي مخالفة القول للواقع.
● في ذات الله: أي لأجل الله تعالى وفي سبيله، وفيما يتعلق بدينه وذاته سبحانه.
● أختي: أي قال لسارة إنها أخته.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا النبي ﷺ في هذا الحديث أن نبي الله إبراهيم خليل الرحمن ﷺ، وهو من أولي العزم من الرسل، لم يصدر منه الكذب في حياته إلا في ثلاث مواقف فقط، وكانت اثنتان من هذه المواقف لأمر عظيم يتعلق بالدعوة إلى الله والذب عن دينه، والثالثة كانت لأجل الحفاظ على نفسه وزوجته من ظلم الطغاة.
تفصيل هذه المواقف الثلاثة:
1- الكذبة الأولى (في ذات الله): عندما حطم إبراهيم ﷺ أصنام قومه، فجاؤوا يسألونه: "أأنت فعلت هذا بآلهتنا؟" فقال لهم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 63]. فهذه الكلمة كانت على سبيل التهكم والاستهزاء بهم وبأصنامهم، وبيان عجزها، وهي في الحقيقة ليست كذباً محضاً، بل هي من باب المعاريض التي تجوز في مثل هذه المواقف للتقية ولإظهار الحق.
2- الكذبة الثانية (في ذات الله): عندما قال لهم: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]، وذلك عندما أراد أن يعتزلهم ويترك مشاركتهم في عيدهم وعبادتهم للأصنام، فلم يكن سقيماً في الحقيقة، ولكن قال هذه المقالة لينجو من مشاركتهم في الشرك.
3- الكذبة الثالثة (قوله لسارة: أختي): وذلك عندما كانا في أرض ملك جبار، وخاف إبراهيم على نفسه من أن يقتله الملك إذا علم أن سارة زوجته، لأنه سيطمع فيها، فقال للملك إنها أخته. وهذا من باب التقية والاضطرار للحفاظ على النفس، وقد أجاز الشرع مثل هذا عند الخوف من ظلم الطغاة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة من الحديث:

1- عصمة الأنبياء: الأنبياء معصومون من الكبائر وصغائر الخسة، وما وقع من إبراهيم ﷺ من هذه المواقف لا يعد من الكذب المحرم، بل هو من باب المعاريض والضرورات التي تجوز في بعض الأحوال.
2- جواز الكذب للتقية: يجوز الكذب للتقية عند الخوف على النفس من الظالمين، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
3- حكمة الأنبياء في الدعوة: بيان ما كان عليه الأنبياء من الحكمة والذكاء في التعامل مع أعداء الله، واستخدامهم لأسلوب المعاريض في الأقوال لتحقيق المصالح الشرعية.
4- الفرق بين الكذب والمعاريض: المعاريض (وهي الألفاظ التي تحتمل معنيين) أحياناً تكون جائزة في بعض المواقف، خاصة عند الدفاع عن الدين أو النفس.
5- براءة إبراهيم ﷺ من الكذب الحقيقي: هذه المواقف الثلاثة لا تقدح في صدق ونبوة إبراهيم ﷺ، لأنها كانت للضرورة وفي مواضع تجوز فيها المعاريض.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من الأحاديث التي اختلف فيها العلماء، فمنهم من قال إنها لم تكن كذباً حقيقياً، بل معاريض، ومنهم من قال إنها كذب لكن جازت للضرورة.
- الإمام ابن حجر العسقلاني قال في فتح الباري: "إنما سمى تلك الأقوال كذبات مجازاً، وإلا فهي معاريض".
- ينبغي للمسلم أن يتجنب الكذب، إلا في حالات الضرورة القصوى التي بينها الشرع، مثل الإصلاح بين الناس، وفي الحرب، والكذب على الزوجة لإصلاحها.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يرزقنا الصدق في الأقوال والأعمال. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.