444- عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ»، هذا لفظ البخاري، ومسلم(1) . 445- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: «فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا، أَحَدٌ، ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ»(2) .
شرح مفردات الحديث:
1- قوله: «فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ»، لمَّا كانتْ هذه الوساوسُ مِنْ إلقاءِ الشيطان، ولا قُوَّةَ لأحدٍ بدفعِهِ إلا بمعونةِ اللَّه تعالى، وكفايتِهِ-: أمَرَ بالالتجاءِ إليه، والتعويلِ في دفع ضرَرِهِ عليه، وذلك معنى الاستعاذةِ على ما يأتي، ثم عقَّب ذلك بالأمرِ بالانتهاءِ عن تلك الوساوسِ والخواطرِ، أي: عن الالتفاتِ إليها والإصغاءِ نحوها، بل يُعْرِضُ عنها ولا يبالي بها»(3) . 2- قوله: «ولينته» أي: عن الاسترسال مع الشيطان في هذا الباب. قال القاضي عياض: «أي: ليقطع التفكر، والنظر فيما زاد على إثبات الذات، وليقف هناك عن التخطي إلى ما بَعُد، وليعلم أن إثبات ذاته، وعلم ما يجبُ له، ويستحيل عليه منتهى العلم، وغاية مبلغ العقل»(4) . وقال الحافظ ابن حجر: «أَي: عَن الاستِرسال مَعَهُ فِي ذَلِكَ، بَل يَلجَأ إِلَى اللَّه فِي دَفعه، ويَعلَم أَنَّهُ يُرِيد إِفساد دِينه، وعَقله بِهَذِهِ الوسوسَة، فَيَنبَغِي أَن يَجتَهِد فِي دَفعها بِالاشتِغالِ بِغَيرِها»(5) . 3- قوله: «يأتي» أي: بوسوسته وتلبيسه على العبد المسلم، قال القاري رحمه الله: «أَيْ: يُوَسْوِسُ إِبْلِيسُ، أَوْ أَحَدُ أَعْوَانِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ التَّلْبِيسِ»(6) . 4- قوله تعالى: ﴿قُلْ﴾ قولاً جازمًا به، معتقدًا له، عارفًا بمعناه. 5- قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أي: قد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له ولا مثيل. 6- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أي: المقصود في جميع الحوائج، فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويرغبون إليه في مهماتهم، لأنه الكامل في أوصافه، العليم الذي قد كمل في علمه، الحليم الذي قد كمل في حلمه، الرحيم الذي كمل في رحمته، الذي وسعت رحمته كل شيء، وهكذا سائر أوصافه. 7- قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ لكمال غناه. 8- قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ لا في أسمائه، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى. 9- قوله: «الشيطان»: هو في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير(7) . قال الإمام ابن قيم الجوزية : «ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يُرى عِياناً، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يرى، وهو شيطان الجن، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شيطان الجن بالاستعاذة باللَّه منه، وجمع بين النوعين في سورة الأعراف، وسورة المؤمنين، وسورة فصلت، والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن، والعفو، والإعراض، والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطن الإنس»(8) . 10- قوله: «فليستعذ باللَّه» أي: بقوله: «أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم» صادقًا مخلصًا، قال الحافظ ابن حجر : «يَلجَأ إِلَى اللَّه فِي دَفعه، ويَعلَم أَنَّهُ يُرِيد إِفساد دِينه، وعَقله بِهَذِهِ الوسوسَة، فَيَنبَغِي أَن يَجتَهِد فِي دَفعها بِالاشتِغالِ بِغَيرِها»(9) . 11- قوله: «ثم ليتفل»: التفل: شبيه بالبزق، وهو أقل منه، أوّله البزق، ثم التفل، ثم النفث»(10) .
ما يستفاد من الحديث:
1- بيان عداوة الشيطان للإنسان، وأنه لا يزال به حتى يكون معه في جهنم، وقد حذر اللَّه من ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(11) . 2- وجوب عدم الاسترسال مع الشيطان في وسوسته، بل يقطع عليه ذلك بالتعوذ باللَّه منه على الفور، والانتهاء عن هذه المسائل الردية، والتي لا تزيد صاحبها إلا حيرة، وتنتهي به إلى الضلال. 3- الاستعاذة باللَّه من الشيطان تحفظ المسلم من الافتتان، وينال التوفيق والحفظ من اللَّه تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ، أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى، وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ؛ وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ»(12) . 4- اللجوء إلى اللَّه، والاعتصام به أكبر عاصم للعبد من وسوسة الشيطان، قال الإمام النووي : «فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ: فَمَعْنَاهُ: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس، فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْع شَرّه عَنْهُ، وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاءـ فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إِلَى وَسْوَسَته، وَلْيُبَادِرْ إِلَى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا، وَاَللَّه أَعْلَم»(13) . 5- قال المازري رحمه الله: الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقر ولا يصاحبها شبهة فهي التي تندفع بالإعراض عنها وعلى هذا يتنزل الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال(14) . 6- «الشَّيْطَان إِنَّمَا يُوَسْوِس لِمَنْ أَيِسَ مِنْ إِغْوَائِهِ فَيُنَكِّد عَلَيْهِ بِالْوَسْوَسَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إِغْوَائِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِر فَإِنَّهُ يَأْتِيه مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يَقْتَصِر فِي حَقّه عَلَى الْوَسْوَسَة بَلْ يَتَلَاعَب بِهِ كَيْف أَرَادَ . فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيث : سَبَب الْوَسْوَسَة مَحْض الْإِيمَان ، أَوْ الْوَسْوَسَة عَلَامَة مَحْض الْإِيمَان، وَهَذَا الْقَوْل اِخْتِيَار الْقَاضِي عِيَاض»(15) . 7- لا بد من قطع الوساوس الفاسدة، فإذا قال الشيطان للإنسان موسوساً: من خلق اللَّه «فإذا وجد ذلك أحدكم، فليستعذ باللَّه، ولينته، فأمره بالاستعاذة منه؛ ليقطع عنه اللَّه الوساوس الفاسدة التي يلقيها الشيطان بغير اختياره، ويؤذيه بها، حتى قد يتمنى الموت، أو حتى يختار أن يحترق، ولا يجدها، وهي الوسوسة التي سأله عنها الصحابة فقالوا: يا رسول اللَّه، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق، حتى يصير حمة(16) ، أو يخر من السماء إلى الأرض، خيراً له من أن يتكلم به، فقال: «ذلك صريح الإيمان»(17) ، وفي رواية: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، فقال: «الحمد للَّه الذي رد كيده إلى الوسوسة»(18) ، وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة، ونفيها، هو محض الإيمان، وصريحه»(19) . 8- «فَليَستَعِذ بِاللَّهِ وليَنتَهِ» أَي: يَترُك التَّفَكُّر فِي ذَلِكَ الخاطِر، ويَستَعِيذ بِاللَّهِ، إِذا لَم يَزُل عَنهُ التَّفَكُّر، والحِكمَة فِي ذَلِكَ أَنَّ العِلم بِاستِغناءِ اللَّه تَعالَى عَن كُلّ ما يُوسوِسهُ الشَّيطان أَمر ضَرُورِيّ، لا يَحتاج لِلاحتِجاجِ والمُناظَرَة، فَإِن وقَعَ شَيء مِن ذَلِكَ، فَهُو مِن وسوسَة الشَّيطان، وهِيَ غَير مُتَناهِيَة، فَمَهما عُورِضَ بِحُجَّةِ يَجِد مَسلَكًا آخَر مِنَ المُغالَطَة، والاستِرسال، فَيُضَيِّع الوقت إِن سَلِمَ مِن فِتنَته، فَلا تَدبِير فِي دَفعه أَقوى مِنَ الإِلجاء إِلَى اللَّه تَعالَى بِالاستِعاذَةِ بِهِ، كَما قالَ تَعالَى: ﴿وإِمّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطان نَزغٌ فاستَعِذ بِاللَّهِ﴾ الآيَة(20) »(21) . 9- ومن وسوسته أيضاً أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله؛ ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: ﴿فَإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾(22) . 10- تأمل حكمة القرآن الكريم، وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان؛ الموصوف بأنه الوسواس الخناس؛ الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل من شر وسوسته؛ لتعم الاستعاذة شره جميعه؛ فإن قوله: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾(23) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها شراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً: هي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه، ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له، ويحسنها، ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل، ويخيل، ويمني، ويشهي، وينسى علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية، والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مدداً لهم وعوناً، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾(24) ، أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، كلما فتروا، أو ونوا، أزعجتهم الشياطين، وأزتهم، وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة، وأتم مكيدة»(25) .
17
مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها، برقم 132
18
أخرجه أحمد 4/ 10، برقم 2097، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم 5112، والنسائي في الكبرى، 6/171، برقم 10503، وابن حبان، 1/360، برقم 147، وصححه محققو المسند، 4/ 10، والألباني في صحيح أبي داود، برقم 5112
19
درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 15
تم تأسيس موقع سورة قرآن كبادرة متواضعة بهدف خدمة الكتاب العزيز و السنة المطهرة و الاهتمام بطلاب العلم و تيسير العلوم الشرعية على منهاج الكتاب و السنة , وإننا سعيدون بدعمكم لنا و نقدّر حرصكم على استمرارنا و نسأل الله تعالى أن يتقبل منا و يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم .