شرح مفردات الحديث:
1- قوله: «
وجهت وجهي»: أي أخلصت ديني، وعملي، وقصدي للَّه وحده، قال القرطبي : «
أي: صوَّبت وجهي، وأخلصت في عبادتي» ، وقال الرافعي : «
وجهت وجهي: أي: قصدت بعبادتي وتوحيدي، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ سورة الروم، الآية: 30 أي: قصدك، ويقال: وجهي إليه أي: قصدي إليه» .
2- قوله: «
للذي فطر السموات والأرض»: أي خلقهن، والمراد بذلك أنه خلق العالم كله ، قال الإمام ابن كثير : «
أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ» .
3- قوله: «
حنيفًا»: أصل الحنف الميل، والمراد هنا مائلًا إلى الدين الحق، وهو الإسلام، والحنيف عند العرب هو من كان على دين إبراهيم ؛، قال ابن كثير : «
حَنِيفًا: أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ» .
4- قوله: «
وما أنا من المشركين»: هذا إيضاح لمعنى الحنيف، وهذه الكلمة أي: كلمة المشرك تطلق على كل كافر من عابد وثن، وصنم، ويهودي، ونصراني، ومجوسي، ومرتد، وزنديق، وغيرهم .
5- قوله: «
إن صلاتي ونسكي»: صلاتي: أي عبادتي: الفريضة، والنافلة، ويدخل في ذلك الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، قوله: «
ونسكي»: ذبحي، وقيل مناسك الحج، ويطلق النسك على الذبح، وعلى مناسك الحج، على حسب ورود الكلام المراد، قال ابن كثير : «
أْمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ، أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لِلَّهِ، وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ سورة الكوثر، الآية: 2 أَيْ: أَخْلِصْ لَهُ صَلَاتَكَ، وَذَبِيحَتَكَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَذْبَحُونَ لَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تعالى بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَالِانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْقَصْدِ، وَالنِّيَّةِ، وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى» .
6- قوله: «
ومحياي ومماتي»: أي وما آتيه في حياتي، وأموت عليه من الإيمان، والعمل الصالح، قال الألوسي : «
مَحْيايَ وَمَماتِي: أي: ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان، والعمل الصالح، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر، والأول هو المناسب؛ لقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر، وقيل: المراد به نظراً لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكاً، وقدرة، لا شَرِيكَ لَهُ، أي: في عبادتي، أو فيها، وفي الإحياء، والإماتة» .
7- قوله: «للَّه رب العالمين»: أي أن هذه الأعمال خالصة لرب العوالم كلها، ومدبر شأنها، قال القرطبي : «والعالمين: الخلق، وأصله من العلم، وقيل: من العلامة» ، وقال السعدي : «على انفراده بالخلق، والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار» .
8- قوله: «لا شريك له»: أي في الملك، والخلق، والتصريف، والتدبير ولا معبود بحقٍّ سواه، ولا شريك له في ذلك كله، قال المناوي : «أي: لا إله منفرد إلا هو وحده، لا شريك له عقلاً ونقلاً، وأما الأول: فلأن وجود إلهين محال، كما تقرر في الأصول، وأما الثاني: فلقوله تعالى: ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ سورة الكهف، الاية: 110 ، وذلك يقتضي أن لا شريك له» .
9- قوله: «
وبذلك أمرت»: أي من خلال الوحيين
القرآن الكريم والسنة الصحيحة:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ سورة الأنعام، الآيتان: 162- 163 .
10- قوله: «
وأنا من المسلمين»: قال ابن الأثير : «
وأما قوله: «من المسلمين»، فذلك يقوله من هو بعد إبراهيم، لأن كل من دان بدين الإسلام كان من جملة المسلمين، وقد جاء في إحدى الروايات «
أول المسلمين» وفي بعضها «
من المسلمين» فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «
وأنا أول المسلمين» حكى لفظ القرآن العزيز الذي أخبر به عن إبراهيم، فقال مثل إبراهيم محافظة على لفظ القرآن، وجائز أن يكون أراد أنه صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين؛ لأنه الذي شرع الإسلام وأرسل به، وأما «
من المسلمين» فلا لبس في أنه يريد أنه واحد منهم، والمسلم: اسم فاعل من أسلم يسلم، إذا انقاد وخضع، هذا هو الأصل، ثم جعل اسمًا جامعًا لأوصاف مخصوصة اشترطها الشارع، أولها: الإتيان بالشهادتين لفظًا» ، وقال القرطبي : «
أي: مسلم من المسلمين المتمكنين في الاستسلام...وفوّضوا جميع أمورهم للرحمن» .
11- قوله: «
اللهم أنت الملك»: قال ابن منظور : «
اللهم: بِمَعْنَى: يَا أَلله، وَالْمِيمُ الْمُشَدَّدَةُ عِوَضٌ مِنْ يَا ... » ، وقال الطيبي : «
أنت الملك: لما دل عليه تعريف الخبر باللام، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، طبق قوله تعالى: ﴿ملك الناس * إله الناس﴾ سورة الناس، الآيتان: 2-3 » .
12- قوله: «
لا إله إلا أنت»: أي: لا معبود بحقٍّ غيرك ، ولا معروف بهذه المعرفة سواك ، قال الطيبي : «
إثبات للإلهية المطلقة للَّه تعالى علي سبيل الحصر، بعد إثبات الملك له» ، وقال المناوي في تعليقه على حديث من قال: «
لا إله إلا اللَّه»: من مات معتقداً لها، فهو الذي مات لا يشرك باللَّه شيئاً» .
13- قوله: «
أنت ربي وأنا عبدك»: قال ابن الأثير : «
والرب: المالك، والسيد، والصاحب، والمدبر، والخالق وغير ذلك إلا أنه لا يرد مطلقًا إلا على اللَّه عز وجل غالبًا، فأما غير اللَّه فيقال فيه: رب كذا، على أنه قد جاء في الشعر على غير اللَّه تعالى مطلقًا، والعبد: ضد الحر، وأصله الذل والخضوع، ومنه طريق مُعَبَّد أي مذلَّل» ، وقال الطيبي : «
وإنما أخر الربوبية في قوله: «أنت ربي» لتخصيص الصفة، وتقييدها بالإضافة إلى نفسه، وإخراجها عن الإطلاق» .
14- قوله: «
ظلمت نفسي»: قال ابن الأثير : «
والظلم: الجور، ومجاوزة الحد، وأخذ ما ليس لك، وأصله وضع الشيء في غير موضعه والنفس في اللغة: الروح يقال: خرجت نفسه إذا مات، وقد يطلق على الدم: سألت نفسه، وفي الحديث «ما ليس له نفس سائلة» أي: ما لا دم له، وقد يطلق على الجسد، وجاء في الشعر، ومعنى «
ظلمه نفسه»: يريد: بما ارتكبه من الذنوب والمعاصي، فإنه ظلمها، حيث قلدها الآثام، والأوزار، وأخرجها إلى أن تعاقب» .
15- قوله: «
واعترفت بذنبي»: قال ابن الأثير : «
يريد ظلمه نفسه، فإنه ذنب واحد؛ وإن كان قد ظلمها مرات كثيرة، إلا أنه يطلق على تلك المرات لفظة الظلم لجمعه إياها؛ ولأن الذنب معصية، والاعتراف به يورث الخجل، والفضيحة، لكنه لما علم أن الاعتراف بالذنب يمحوه، ويوجب العفو، والمغفرة، وأراد أن يعترف؛ وَحَّدَ الذنب؛ لئلا يكون معترفًا بذنوب كثيرة؛ فتكبر فضيحته، على أن الذنب قد يقع على القليل والكثير» .
16- قوله: «
فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»: قال ابن منظور: «
الغَفُورُ الغَفّارُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، ... وَمَعْنَاهُمَا: السَّاتِرُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، الْمُتَجَاوِزُ عَنْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِهِمْ... غَفَرَه يَغْفِرُه غَفراً: سَتَرَهُ.
وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرْتَهُ، فَقَدْ غَفَرْته؛ ... وَمِنْهُ: غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ أَي سَتَرَهَا» ، وقال ابن الأثير : «
لا يغفر الذنوب إلا أنت»: إقرارًا منه، واعترافًا أنه قد قطع أمله، ورجاءه عن كل أحد سواه، وصرف رغبته إلى من لا توجد المغفرة إلا عنده» ، وقال المناوي : «
لا رب غيرك، و(إنه): أي الشأن أنه «لا يغفر الذنوب إلا أنت» لأنك السيد المالك، إن غفرت فبفضلك، وإن عاقبت فبعدلك، وإنما كان هذا أوفق الدعاء لما فيه من الاعتراف بالظلم، وارتكاب الجرم، ثم الإلتجاء إليه تعالى مضطراً، لا يجد لذنبه غافراً غير ربه» .
17- قوله: «
واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت»:.
قال ابن منظور : «
من أَسماء اللَّه تعالى سبحانه: (الهادي) قال ابن الأَثير: هو الذي بَصَّرَ عِبادَه، وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبيَّته، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه، ودَوام وجُوده، الهُدى: ضدّ الضلال، وهو الرَّشادُ، ... الهُدَى: أَي الصِّراط الذي دَعا إِليه هو طَرِيقُ الحقّ» ، وقال القرطبي :: «
واهدني لأحسن الأخلاق» أي: لأكملها، وأفضلها، وهي: الخُلق الصحيح، والكفَّ عن القبيح، وقيل: القيام بالحقوق، والعفو عن العقوق؛ كما قال: أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو» ، وقال ابن الأثير : «
و(الأخلاق): واحدها خُلُق -بضم اللام وبسكونها- وهي السجية التي جُبِلَ الإنسان عليها من حسن وقبح، ولذلك طلب الهداية لأحسنها» .
18- قوله: «
واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت»: قال ابن فارس : الصَّادُ وَالرَّاءُ وَالْفَاءُ مُعْظَمُ بَابِهِ يَدُلُّ عَلَى رَجْعِ الشَّيْءِ، مِنْ ذَلِكَ صَرَفْتُ الْقَوْمَ صَرْفًا، وَانْصَرَفُوا، إِذَا رَجَعْتَهُمْ فَرَجَعُوا» ، وقال ابن منظور : «
صرف: الصَّرْفُ: رَدُّ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ، صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ.
وصَارَفَ نفْسَه عَنِ الشَّيْءِ: صَرَفَها عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾؛ أَي: رَجَعوا عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي استمعُوا فِيهِ، وَقِيلَ: انْصَرَفُوا عَنِ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوا، ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ سورة التوبة، الآية: 127 : أَي: أَضلَّهُم اللَّهُ مُجازاةً عَلَى فِعْلِهِمْ؛ وصَرفْتُ الرَّجُلَ عَنِّي فانْصَرَفَ... وصَرَفْتُ الصِّبْيان: قَلَبْتُهم، وصَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ الأَذى، واسْتَصْرَفْتُ اللَّهَ المَكارِهَ» ، قال العيني : «
واصرف عني سيئها: أي: قبيحها» ، وقال القاري :: «
لَا يَصْرِفُ عَنِّي: ولَا عَنْ غَيْرِي «سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ»: فَإِنَّ غَيْرَكَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى شَيْءٍ» .
19- قوله: «
لبيك»: أي استجابة لندائك، وامتثالًا لأمرك إجابة بعد إجابة، وإقامة على طاعتك إقامة بعد إقامة، قال الفيروزأبادي : «
لَبَّيْكَ، أي: أنا مُقيمٌ على طاعَتك إلْباباً بَعْدَ إلْبابٍ، وإجابَةٍ، أو مَعْناهُ: اتِّجَاهي وقَصْدِي لَكَ» ، وقال القاضي عياض : «
معناه إجابة لك... كأنه قال: إجابة لك بعد إجابة تأكيداً... ومعناه: إجابتي لك يا رب لازمة... من لب بالمكان وألب به إذا أقام، وقيل: معناه: قرباً منك، وطاعة... وقيل طاعة لك، وخضوعاً من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي: خاضع، وقيل: اتجاهي لك وقصدي» .
20- قوله: «
وسعديك»: أي ألزم طاعتك طاعة بعد طاعة حتى ألقاك، قال ابن الأثير : «
سعديك: من الألفاظ المقرونة بلبيك، ومعناها: إسعاداً بعد إسعاد، والمراد: ساعدت على طاعتك مُساعدة بعد مساعدة» ، وقال الطيبي : «
ومعنى (سعديك) ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة» .
21- قوله: «
والخير كله في يديك»: أي أن خزائنه عندك تتصرف فيها كيف تشاء، وهو بيديك: تعطيه من تشاء، وتحرمه من تشاء، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، قال القاضي عياض : «
معنى هذا الكلام: الإرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على اللَّه، والمدح له بأن تضاف محاسن الأمور إليه دون مساوئها ومذامها» .
22- قوله: «
والشر ليس إليك»: أي لا ينسب إليك الشر بأي وجه؛ فإنه لا يحصل منك إلا كل خير، وأنت خالق كل شيء، وقال ابن الأثير : «
والشر ليس إليك: معنى هذا الكلام الإرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على اللَّه تعالى، ومدحه بأن تضاف محاسن الأشياء إليه دون مساوئها، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته، وإثباته لها، فإن محاسن الأمور تضاف إلى اللَّه عز وجل عند الثناء عليه دون مساوئها» ، وقال الرافعي : «
والشر ليس إليك: قيل: لا يتقرب به إليك، وقيل: لا يصعد إليك؛ إنما يصعد الكلم الطيب، وقيل: لا يفرد بالإضافة إليك، كما لا يقال: يا خالق الحيات والحشرات» ، وقال العلامة ابن عثيمين : «
إن الشر المحض لا يكون بفعل اللَّه أبداً، الشر المحض الذي ليس فيه خير لا حالاً، ولا مآلاً، هذا لا يمكن أن يوجد في فعل اللَّه أبداً، هذا من وجه؛ لأنه حتى الشر الذي قدّره اللَّه شراً، لابد أن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شراً على قوم، وخيراً على آخرين، أرأيت لو أنزل اللَّه المطر: مطراً كثيراً، فأغرق زرع إنسان؛ لكنه نفع الأرض، وانتفعت به أمة، لكان هذا خيراً بالنسبة لمن انتفع به، شراً بالنسبة لمن تضرر به، فهو خير من وجه، وشر من وجه، ثانياً: حتى الشر الذي يقدّره اللَّه على الإنسان، هو خير في الحقيقة؛ لأنه إذا صبر، واحتسب الأجر من اللَّه نال بذلك أجراً، أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر؛ ولهذا ذُكر عن بعض العابدات أنها أصيبت في إصبعها، أو يدها، فانجرحت، فصبرت، وشكرت اللَّه على هذا، وقالت: «إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها»، ثم نقول: إن الشر حقيقة ليس في فعل اللَّه نفسه؛ بل في مفعولاته، المفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه، فهو خير؛ ولهذا قال اللَّه عز وجل:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ سورة الفلق، الآيتان: 1- 2 ، أي من شر الذي خلقه اللَّه، يدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض، وقيل له: إن من شفائه أن تكويه النار، فكويته بالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض؛ لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل اللَّه للأشياء المكروهة، والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير؛ لأنه يترتب عليه خير كثير، فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى:
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ سورة النساء، الآية: 79.... نقول:
﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ يعني من فضله، هو الذي منَّ عليك بها أولاً وآخراً
﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ أي: أنت سببها، وإلاّ فالذي قدرها هو اللَّه، لكن أنت السبب، كما في قوله تعالى:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ سورة الشورى، الآية: 30 ، وخلاصة الكلام: أن كل شيء واقع؛ فإنه بقدر اللَّه، سواء كان خيراً أم شراً، أما الخير فأمره واضح أنه من اللَّه، وأما الشر فإننا نقول: إن الشر ليس في فعل اللَّه، بل في مفعولاته، ونقول أيضاً: هذه المفعولات التي فيها الشر، قد تكون خيراً من وجه آخر، إما للشخص المصاب بها نفسه، وإما لغيره... أو نقول هو شر لك من وجه، وخير لك من وجه آخر؛ لأن هذا الشر إن أصابك لك فيه أجر كثير، وربما يكون سبباً لاستقامتك، ومعرفتك قدر نعمة اللَّه عليك، فتكون العاقبة حميدة» .
23- قوله: «
أنا بك وإليك»: أي قائم بك راجع إليك معتمد عليك في كل شيء،ـ وقال الرافعي : «
أنا بك وإليك: أي: بقدرتك حُدِثْتُ، وإليك أعود» ، وقال الطيبي : «
وأنا بك وإليك»: أي: بك وُجِدْتُ، وإليك أنتهي، أي أنت المبتدأ والمنتهى» .
24- قوله: «
تباركت وتعاليت»: قال الطيبي : «
تباركت: تعاظمت، وتمجدت، أو جئت بالبركة، وأصل الكلمة الدوام والثبات، ولا تستعمل هذه الكلمة إلا للَّه تعالى، وتعاليت: عما تتوهمه الأوهام، وتتصوره العقول» .
25- قوله: «
أستغفرك وأتوب إليك»: قال ابن الأثير : «
والاستغفار: طلب المغفرة، (والتوبة): الرجوع من الذنب والإخلاص في الترك، والندم على الفائت» ، قوله: «
تباركت» أي: استحققت الثناء عليك.
وقيل: ثبت الخير عندك.
وقال ابن الأنباري: تبارك العباد بتوحيدك، وقوله: «
وتعاليت» أي: تعاظمتَ عن متوهم الأوهام، ومتصور الأفهام» .
ما يستفاد من الحديث:
1- خص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «
صلاتي ونسكي» بين عبادتين عظيمتين، هما الصلاة التي هي عمود الإسلام، وبين النسك، وهو الذبح بإراقة الدم؛ ابتغاء مرضاة اللَّه، ويفهم من هذا أنه من أخلص للَّه في صلاته ونسكه، كان يسيرًا عليه أن يخلص في باقي عمله، وهذا إشارة إلى قوله:
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ سورة الكوثر، الآية: 2 .
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
للَّه رب العالمين» الرب: هو المربي جميع العالمين، وهم من سوى اللَّه، وتربية اللَّه لخلقه نوعان عامة، وخاصة: أ – عامة: وهي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم؛ لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
ب – الخاصة: تربية لأوليائه، وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر، وهذا هو السر في كون أدعية الأنبياء بلفظ الرب .
3- جاء في رواية صحيحة لفظ: «
وأنا أول المسلمين» ، والنبي بالفعل هو أول المسلمين، فحق له أن يقولها، أما غيره فليقل: وأنا من المسلمين، واللَّه أعلم.
4- حسن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لربه يظهر من قوله: «
ظلمت نفسي»، فقدم الاعتراف بالذنب – مع عصمته عنه – على سؤال المغفرة تأدبًا مع خالقه، وهذا كقوله عز وجل في شأن آدم وحواء:
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ سورة الأعراف، الآية: 23 .
5- تمام أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه يظهر في قوله: «
والشر ليس إليك»، فلم ينسب إلى اللَّه ما يكرهه، وإن كان هو خالق كل شيء، فالشر لا يتقرب به إلى اللَّه، ولا يصعد إليه، والشر لا يكون من اللَّه عز وجل ، وما يحصل من المرض، وغيره مما يكرهه الإنسان؛ فإن اللَّه يعطي عليه الثواب العظيم، والأجر الكبير، والشر في المقضي لا في القضاء، وهذا كقول اللَّه حكاية عن مؤمني الجن:
﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ سورة الجن، الآية: 10 .
قال الحكمي: «
وأفعال اللَّه كلها خير محض من حيث اتصافه بها وصدورها عنه وهو الحكم العدل، وما كان في نفس المقدور من شر فمن جهة إضافته إلى العبد لما يلحق به من المهالك بما كسبته يداه، جزاءً وفاقًا، كما قال اللَّه: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾سورة الشورى، الآية: 30 » .