أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن ينفعنا بما نسمع ونقول.
هذا الحديث الذي ذكر هو تفسيرٌ من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للآية الكريمة من سورة آل عمران: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾. وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه.

---

أولاً. شرح المفردات:

* يُرْزَقُونَ: أي يُعطَون من أنواع النعيم والرزق في الجنة.
* في جوف طير خضر: داخل طيور خضراء جميلة خلقت في الجنة.
* قناديل معلقة بالعرش: مصابيح أو سُرُج من نور مُعلَّقة بقرب عرش الرحمن، وهو أعلى المخلوقات.
* تسرح من الجنة حيث شاءت: تذهب وتتجول في أنحاء الجنة بحرية كاملة.
* اطلع إليهم ربهم اطلاعة: تجلَّى لهم ربهم سبحانه وتعالى وأقبل عليهم إقبالاً خاصاً يكشف لهم عن جلاله ويرهف شعورهم بلذة مناجاته.
* هل تشتهون شيئاً؟: أي هل تريدون شيئاً زائداً على ما أنتم فيه من النعيم؟
* أن ليس لهم حاجة: أي أنهم لا يحتاجون إلى شيءٍ آخر غير ما هم فيه.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحياة الخاصة للشهداء، وهي حياة برزخية ليست كحياة الدنيا، وليست كحياة أهل الجنة بعد البعث، بل هي حياةٌ على صورةٍ أخرى يَنعم فيها الشهيد.
فأرواح الشهداء – بحسب هذا الحديث – قد خُلقت لها طيور خضراء جميلة (واللون الأخضر من ألوان نعيم الجنة)، تسكن هذه الأرواح داخل تلك الطيور. وهذه الطيور لها أعشاش أو مصابيح (قناديل) من نور مُعلَّقة بالعرش، وهو مكان عظيم الجلالة والكرامة.
فتمتلك هذه الأرواح حرية كاملة، فتطير في أنحاء الجنة، تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتستمتع بنعيمها، ثم تعود لتستريح في تلك القناديل المعلقة بالعرش.
ثم يأتي أعظم مشهد في هذا النعيم، وهو أن الله تعالى يتجلَّى لهم ويطلع عليهم اطلاعة خاصة، فيسألهم سؤال المُنعِم المُتفضِّل: "هل تشتهون شيئاً؟" أي هل تطلبون مني مزيداً من النعيم؟ فيردُّ الشهداء وهم في ذهول من عظمة ما هم فيه: وأي شيء يمكن أن نتمناه ونحن نتنعّم في الجنة حيث نشاء؟!
يتكرر هذا المشهد العظيم ثلاث مرات، وفي كل مرة يكون جوابهم نفس الجواب. فلما رأوا أن الله لن يتركهم دون أن يطلبوا حاجة، تأتي أعظم إجابة تُظهر صدق إيمانهم وحبهم لله ورسوله، فيقولون: "يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى". فهم لا يريدون نعيماً زائداً، بل يريدون العودة إلى الدنيا ليعيدوا الكرة ويُقتلوا في سبيل الله مرة أخرى طلباً لمرضاته.
فعندما رأى الله تعالى أن هذه أمنيتهم الوحيدة، وأنهم لا يشتهون شيئاً من حطام الدنيا، تركهم في نعيمهم الذي هم فيه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- علو منزلة الشهيد عند الله تعالى: فهذه الحياة البرزخية الخاصة بهم دليل على كرامتهم ومكانتهم، فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
2- حقيقة الحياة البرزخية: ينتقل المؤمن بعد موته إلى حياة البرزخ، وهي حقيقة أثبتها القرآن والسنة، وللشهداء فيها حالة مخصوصة.
3- صدق إيمان الشهداء وحبهم لله: تتجلى قوة إيمانهم في أن أعلى أمانيهم هي العودة للدنيا للجهاد والاستشهاد من جديد، وليس طلب المال أو المتاع.
4- سعة كرم الله تعالى وعطائه: فالله سبحانه يسألهم وهو الغني عنهم، ويود أن يمنَّ عليهم بالمزيد من فضله، وهذا من كرمه تعالى وجوده.
5- الترغيب في الجهاد والشهادة في سبيل الله: يبين هذا الحديث جزءاً من الجزاء العظيم الذي ينتظر الشهيد، مما يحث المسلمين على التضحية والفداء.
6- أن نعيم الجنة يفوق الوصف والخيال: حتى الشهداء الذين ذاقوا جزءاً منه لم يجدوا ما يمكن أن يطلبوه زيادة عليه سوى العودة للجهاد.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* هذا النعيم هو للشهداء في حياتهم البرزخية، وأما بعد قيام الساعة ويدخلون الجنة، فسيكون لهم نعيم أعظم وأتم.
* ليس كل من قُتل في معركة يُعتبر شهيداً بالمعنى الكامل الذي له هذه الكرامات، بل الشهيد هو من قُتل في سبيل الله بنية صادقة وإخلاص، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الشهداء، فمن مات دون ماله أو أهله أو دمه فهو شهيد، ولكن أعلاهم منزلة من قاتل لتكون كلمة الله