إذا مات فلا تبكين باكية

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من الأحاديث التي تبين سعة رحمة الله تعالى وفضله، وأن باب الشهادة والثواب العظيم ليس محصوراً فيمن قُتِل في المعركة فقط.
### أولاً. تخريج الحديث
هذا الحديث رواه الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد في "مسنده"، والإمام النسائي في "سننه"، والإمام أبو داود، والإمام ابن ماجه، وغيرهم، وصححه عدد من أهل العلم.

### ثانياً. شرح المفردات
● جاء يعود: أي زاره ليطمئن على صحته.
● عبد الله بن ثابت: هو صحابي جليل، وكنيته أبو الربيع.
● غلب عليه: اشتد به المرض وغاب عن الوعي.
● فصاح به: ناداه بصوت عالٍ.
● فلم يجبه: لم يستجب له أو يرد.
● فأسترجع: قال "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وهي كلمة تُقال عند المصيبة.
● فإذا وجب: هنا كلمة "وجب" تعني مات وسقط على الأرض. وأصل الوجوب في اللغة: السقوط والحصول.
● قضيت جهازك: أي أتممت تجهيزك واستعدادك للخروج للجهاد في سبيل الله.
● أوقع أجره: أثبت أجره وثوابه.
● على قدر نيته: بحسب ما نواه في قلبه من الخير والجهاد.
● ذات الجنب: هو مرض شديد يصيب الغشاء المبطن للجنب، ويُعرف اليوم بالتهاب الغشاء البلوري أو الالتهاب الرئوي.
● المبطون: هو من يصاب بمرض في بطنه، كالإسهال الحاد أو الدوسنتاريا أو القرحة.
● تموت بجمع: أي تموت وهي حامل، أو تموت أثناء الولادة.

### ثالثاً. شرح الحديث
يحدثنا الصحابي الجليل جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليعود (يزور) الصحابي عبد الله بن ثابت الذي كان مريضاً مرضاً شديداً. فلما وصل إليه وجده قد غاب عن الوعي بسبب شدة المرض، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع لعله يفيق، فلم يجب عليه.
عندها أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت قد اقترب، فقال كلمة الاسترجاع ("إنا لله وإنا إليه راجعون") تعبيراً عن التسليم لقضاء الله، ثم خاطبه قائلاً: "غلبنا عليك يا أبا الربيع"، أي انتصر الموت علينا فغلبنا وأخذك منا.
فلما سمعت النساء ذلك، شرعن في الصياح والبكاء (وهو البكاء المصحوب بالندب والعويل)، فبدأ جابر بن عتيك (وهو من الحاضرين) ينهرهن ويسكتهن عن هذا الفعل الذي كان من عادات الجاهلية.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم منعهن وقال: "دعهن يبكين"، لكنه قيد ذلك بوقت ما قبل الموت، فقال: "فإذا وجب فلا تبكين باكية". أي إذا مات الإنسان وسقط على فراش الموت، فيجب التوقف عن البكاء بصورة الصياح والعويل المنهي عنه.
فسأل الحاضرون: "وما الوجوب؟" فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات"، فبين لهم أن الوجوب هو حصول الموت وسقوط الجسد.
ثم قالت ابنة الراحل لعبد الله بن ثابت: "والله إني لأرجو أن تكون شهيداً، فإنك كنت قد قضيت جهازك". أي كانت تتأمل له أجر الشهادة لأنه كان قد جهز نفسه للخروج للجهاد في سبيل الله، لكنه مرض ومات قبل أن يخرج.
فبشر النبي صلى الله عليه وسلم هذه النية الصادقة، فقال: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته". وهذا من أعظم مبشرات هذا الدين، أن الله تعالى يكتب للإنسان الأجر والثواب على نيته الصالحة حتى لو لم يتمكن من تنفيذ العمل، فمن نوى الخير ولم يستطع فعله بسبب عذر شرعي، كتب الله له أجر فاعله.
ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة قائلاً: "وما تعدون الشهادة؟" فأجابوا بالتعريف المشهور والمحصور في أذهانهم: "القتل في سبيل الله".
فأتى البيان النبوي ليبين سعة فضل الله تعالى، فقال: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله". أي هناك سبعة أنواع من الشهداء الذين يلحقون بشهداء المعركة في الفضل والأجر، وإن لم يقتلوا في ساحة القتال.
ثم عددهم صلى الله عليه وسلم:
1- المطعون: الذي يموت بالطاعون.
2- الغرق: الذي يموت غرقاً.
3- صاحب ذات الجنب: الذي يموت بمرض ذات الجنب (الالتهاب الرئوي الحاد).
4- المبطون: الذي يموت بمرض في بطنه.
5- الحرق: الذي يموت حرقاً.
6- الذي يموت تحت الهدم: الذي يقتله سقوط بناء أو صخرة عليه.
7- المرأة تموت بجمع: التي تموت وهي حامل أو أثناء الولادة.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- فضل عيادة المريض: فيها اتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وتأكيد على التراحم بين المسلمين.
2- التسليم لقضاء الله وقدره: يتجلى هذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنا لله وإنا إليه راجعون" عند رؤية شدة المرض.
3- النهي عن النياحة والعويل على الميت: يجوز البكاء من غير صوت عند المصيبة، لكن يحرم رفع الصوت بالندب والنواح وش