يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) قرأ أهل المدينة والشام " يرتدد " بدالين على إظهار التضعيف " عن دينه " فيرجع إلى الكفر .قال الحسن : علم الله تبارك وتعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه .واختلفوا في أولئك القوم من هم؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزكاة ، وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكره ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل؟ " فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني [ عناقا ] كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " .قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره . قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء .قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة .وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق :منهم [ بنو مذحج ] ورئيسهم ذو الخمار عبهلة بن كعب العنسي ، ويلقب بالأسود ، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلادها ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه ، قال ابن عمر رضي الله عنه فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك " ، قيل: ومن هو؟ قال : " فيروز ، [ فاز فيروز ] فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى [ خبر ] مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه .والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، [ واسمه ثمامة بن قيس ] وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر ، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث [ بذلك ] إليه مع رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم ] " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، ثم أجاب : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين " ، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب ، بعد حرب شديد ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام .والفرقة الثالثة : بنو أسد ، ورئيسهم طليحة بن خويلد بن الوليد ، وكان طليحة آخر من ارتد ، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه ، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه .وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم [ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ] خلق كثير ، حتى كفى الله المسلمين أمرهم ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه .قالت عائشة : " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها " .وقال قوم : المراد بقوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) هم الأشعريون ، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري " وكانوا من اليمن .أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا أبو عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن [ علي الكشميهني ، حدثنا علي بن ] حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاكم أهل اليمن ، هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة ، الإيمان يمان والحكمة يمانية "وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفياء الناس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه .قوله عز وجل : ( أذلة على المؤمنين ) يعني : أرقاء رحماء ، لقوله عز وجل : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ، ولم يرد به الهوان ، بل أراد به أن جانبهم لين على المؤمنين ، وقيل: هو من الذل من قولهم " دابة ذلول " ، يعني أنهم متواضعون كما قال الله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " ، ( أعزة على الكافرين ) أي : أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم ، من قولهم : عزه أي : غلبه ، قال عطاء : أذلة على المؤمنين : كالولد لوالده والعبد لسيده ، أعزة على الكافرين : كالسبع على فريسته ، نظيره قوله تعالى : " أشداء على الكفار رحماء بينهم " . ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) يعني : لا يخافون في الله لوم الناس ، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم ، وروينا عن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " .( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) أي : محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين ، من فضل الله عليهم ، ( والله واسع عليم ) .
وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين
( وإسماعيل ) وهو ولد إبراهيم ، ( واليسع ) وهو ابن أخطوب بن العجوز ، وقرأ حمزة والكسائي " واليسع " بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي " ص " ، ( ويونس ) وهو يونس بن متى ، ( ولوطا ) وهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم ، ( وكلا فضلنا على العالمين ) أي : عالمي زمانهم .
وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون
( وقالت أولاهم ) يعني القادة ( لأخراهم ) للأتباع ، ( فما كان لكم علينا من فضل ) لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء ، ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون )
( قال ) يعني موسى ( أغير الله أبغيكم ) أي : أبغي لكم وأطلب ، ( إلها وهو فضلكم على العالمين ) أي : على عالمي زمانكم .أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي ، قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم " .
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله ) بطاعته وترك معصيته ، ( يجعل لكم فرقانا ) قال مجاهد : مخرجا في الدنيا والآخرة .وقال مقاتل بن حيان : مخرجا في الدين من الشبهات .وقال عكرمة : نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون .وقال الضحاك : بيانا . وقال ابن إسحاق : فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . ( ويكفر عنكم سيئاتكم ) يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم ، ( ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) الآية ، قال الضحاك وأبو عبيدة : نجس قذر . وقيل: خبيث . وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع ، فأما النجس : بكسر النون وسكون الجيم ، فلا يقال على الانفراد ، إنما يقال : رجس نجس ، فإذا أفرد قيل: نجس ، بفتح النون وكسر الجيم ، وأراد به : نجاسة الحكم لا نجاسة العين ، سموا نجسا على الذم . وقال قتادة : سماهم نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضئون . قوله تعالى : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " [ الإسراء - 1 ] ، وأراد به الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ .قال الشيخ الإمام الأجل : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام :أحدها : الحرم ، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ، ذميا كان أو مستأمنا ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم . وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجاز ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام ، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما " . فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه ، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته ، وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا . وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام .والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام ، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم .قوله : ( بعد عامهم هذا ) يعني : العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس ، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة ، وهو سنة تسع من الهجرة .قوله ( وإن خفتم عيلة ) وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون ، فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر ، وضيق العيش ، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ( وإن خفتم عيلة ) فقرا وفاقة . يقال : عال يعيل عيلة ، ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ) قال عكرمة : فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم . وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون . وقال الضحاك وقتادة : عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها .
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون
( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ) أي : قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله ( وقالوا حسبنا الله ) كافينا الله ، ( سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) ما نحتاج إليه ( إنا إلى الله راغبون ) في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس . وجواب " لو " محذوف أي : لكان خيرا لهم وأعود عليهم .
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير
قوله تعالى : ( يحلفون بالله ما قالوا ) قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال : " إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك " ؟ فانطلق الرجل ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ، ما قالوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم ، فقال جلاس : لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير . فسمعه عامر بن قيس ، فقال : أجل إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس ، فقال الجلاس : كذب علي يا رسول الله ، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر ، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ، ولقد كذب علي عامر ، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : آمين . فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية ، حتى بلغ : ( فإن يتوبوا يك خيرا لهم ) فقام الجلاس فقال : يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة ، صدق عامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه ، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته .قوله تعالى : ( ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) أي : أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام . وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس : لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير . وقيل: كلمة الكفر قولهم " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ، ( المنافقين - 8 ) وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين ( وهموا بما لم ينالوا ) قال مجاهد : هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم : لنحن شر من الحمير ، لكي لا يفشيه .وقيل: هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأرسل حذيفة لذلك .وقال السدي : قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا ، فلم يصلوا إليه .( وما نقموا ) وما كرهوا وما أنكروا منهم ، ( إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) وذلك أن مولى الجلاس قتل ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى . وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش ، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم .( فإن يتوبوا ) من نفاقهم وكفرهم ( يك خيرا لهم وإن يتولوا ) يعرضوا عن الإيمان ، ( يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ) بالخزي ، ( والآخرة ) أي : وفي الآخرة بالنار ، ( وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) .
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
قوله تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) الآية . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني ، حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، حدثنا محمد بن نصر ، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ، حدثنا مروان بن محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " ، ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت " ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزق ثعلبة مالا " .قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كالدود ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة ، فصار لا يشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة . فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة؟ قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة " . فأنزل الله آية الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة ، كيف يأخذان؟ وقال لهما : " مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان ، رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا : ما هذه عليك . قال : خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس فأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فقرأه ، ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي .قال فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسلمي بخير ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، فأنزل الله تعالى فيه : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) الآية ، إلى قوله : ( وبما كانوا يكذبون ) وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة ، فقال : إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته ، رجع إلى منزله . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي ، فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ، أنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها فلما ولي عثمان أتاه فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه ، وتصدقت منه ، ووصلت الرحم ، وأحسنت إلى القرابة ، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف ، خرجا على ملأ قعود وقالا والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن ، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل ( ومنهم ) يعني : المنافقين ( من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) ولنؤدين حق الله منه . ( ولنكونن من الصالحين ) نعمل بعمل أهل الصلاح فيه ؛ من صلة الرحم والنفقة في الخير .