استسراعك في هذا الأمر أعيب عندي

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن الحديث الذي طلبت شرحه حديث عظيم، يحمل في طياته دروسًا قيمة في التعامل مع الاختلاف بين المسلمين، وفي أدب الحوار، وفي فضل الإنفاق في سبيل الله. وسأشرحه لك جزءًا جزءًا مع بيان الدروس المستفادة منه.

---

نص الحديث:

عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسًا مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إِلَّا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأيت منك شيئًا منذ صحبت النَّبِيّ ﷺ أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر، قال عمار: يا أبا مسعود وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئًا منذ صحبتما النَّبِيّ ﷺ أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر، فقال أبو مسعود - وكان موسرا -: يا غلام، هات حلتين، فأعطى إحداهما أبا موسى، والأخرى عمارا، وقال: روحا فيه إلى الجمعة.

---

1. شرح المفردات:

● شقيق بن سلمة: هو تابعي جليل، من كبار التابعين، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
● أبو مسعود: هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه، من كبار الصحابة.
● أبو موسى: هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، الصحابي الجليل.
● عمار: هو عمار بن ياسر رضي الله عنه، من السابقين إلى الإسلام، ومن أكابر الصحابة.
● ما من أصحابك أحد إِلَّا لو شئت لقلت فيه غيرك: أي أن أبا مسعود يقول لعمار: إن جميع أصحابك (أي من هم على رأيك) ليسوا بمعصومين من النقد، ولو أردت لانتقدتهم، لكني أخصك بالذكر دونهم.
● استسراعك في هذا الأمر: أي تسرعك في الخروج إلى القتال أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير تروٍ.
● إبطائكما في هذا الأمر: أي تبطؤكما وتأخركما في الخروج للقتال أو في الأمر بالمعروف.
● موسرا: أي غنياً ذا مال.
● حلتين: الحلة هي الثوب الفاخر أو اللباس الجميل، والحلتان ثوبان كاملان (إزار ورداء).
● روحا فيه إلى الجمعة: أي اذهبا بهذين الثوبين وبيعاهما، وتصدقا بثمنهما، أو استعملا ثمنهما في الخير.

---

2. شرح الحديث:

يجلس شقيق بن سلمة مع ثلاثة من كبار الصحابة وهم: أبو مسعود الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين. وكان بينهم حوار حول مسألة من مسائل الخلاف في ذلك الوقت، وهي مسألة الخروج للقتال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث كان عمار رضي الله عنه يرى الاستعجال في ذلك، بينما كان أبو مسعود وأبو موسى يريان التريث والأخذ بالاحتياط.
فانتقد أبو مسعود عمارًا بتسرعه، وقال له: إنه لم ير منه منذ صحبة النبي صلى الله عليه وسلم عيبًا أعظم من هذا التسرع. فرد عليه عمار منتقدًا إياه هو وأبا موسى بالتأخر والتباطؤ، وقال: إنه لم ير منهما منذ صحبة النبي صلى الله عليه وسلم عيبًا أعظم من هذا التباطؤ.
وهنا تظهر حكمة أبي مسعود رضي الله عنه، حيث لم يزداد الجدال، بل حول الخلاف إلى عمل صالح، فدعا غلامه وأمره بإحضار حلتين (ثوبين فاخرين) وأعطى واحدة لأبي موسى والأخرى لعمار، وأمرهما أن يذهبا ويبيعاهما ويتصدقا بثمنهما أو يستعملاها في الخير.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● أدب الحوار والاختلاف: الحديث يظهر أدب الصحابة رضي الله عنهم في الحوار، حيث عبر كل منهم عن رأيه بأدب دون تجريح أو سب، بل كان النقد موجهاً للرأي وليس للشخص.
● تحويل الخلاف إلى عمل صالح: instead of الاستمرار في الجدال، حول أبو مسعود الموقف إلى عمل خيري، مما يطفئ نار الخلاف ويجمع القلوب.
● الإنفاق في سبيل الله: أبو مسعود كان غنياً فأنفق من ماله لإصلاح ذات البين، وهذا من أعظم القربات.
● التسامح والعفو: لم يحمل أبو مسعود في قلبه ضغينة لعمار، بل تصرف بحكمة وسماحة.
● احترام الصحابة لبعضهم: على الرغم من الخلاف، بقي الاحترام المتبادل بينهم، فهم إخوة في الله.
● تفضيل الإصلاح على الجدال: الإصلاح بين الناس أفضل من الاستمرار في الجدال الذي قد يزيد الفرقة.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح.
- الموقف حدث في زمن الفتنة، حيث اختلف الصحابة في بعض الأمور، ولكنهم حافظوا على أدب الخلاف.
- قول أبي مسعود "روحا فيه إلى الجمعة" يحتمل أن يعني: اذهبا وتبَرَّكا بهذا الثوب في يوم الجمعة، أو أن يبيعاه ويتصدقا بثمنه يوم الجمعة لفضله.
- هذا الموقف يعلمنا كيف نتعامل مع الخلافات في زماننا، بأن نتحلى بالحكمة ونحول الخلاف إلى عمل إيجابي.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجمع قلوب المسلمين على الخير والهدى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.