سيكفر قوم بعد إيمانهم ولست منهم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا، مستندًا إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله بلغني أنك قلت: سيكفر قوم بعد إيمانهم، قال: «أجل، ولست منهم». فمات أبو الدرداء قبل قتل عثمان رضي الله عنه.
(أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وغيرهم، وهو حسن).

---

1. شرح المفردات:

* بلغني: وصل إليَّ خبر، سمعت.
* سيكفر: سيصيرون كفارًا بارتدادهم عن الدين.
* قوم: جماعة من الناس.
* بعد إيمانهم: بعد أن كانوا مسلمين مؤمنين.
* أجل: نعم، صحيح ما سمعت.
* ولست منهم: وأنت -يا أبا الدرداء- لست من هؤلاء القوم، أي بريء من فعلهم وآمن من الوقوع فيما وقعوا فيه.

---

2. شرح الحديث:

* السياق والمناسبة: يسأل الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم لتطمين قلبه وتثبيته، بعد أن سمع نبأً مفزعًا عن وجود من يرتد عن دينه بعد إيمانه. وهذا يدل على حرص الصحابة على دينهم وخوفهم من الفتن، وسؤالهم عما يشكل عليهم.
* معنى الجواب النبوي: أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بتصديق الخبر («أجل») confirming أن ذلك سيقع لا محالة، وهي إحدى علامات الساعة ووقوع الفتن. ثم immediately طمأنه بقوله: («ولست منهم»). هذه الجملة تحمل معنيين عظيمين:
1- طمأنة شخصية لأبي الدرداء: أنها تطمين من النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه سيموت على الإيمان ولن يرتد، مما يزيل الهاجس والخوف من قلبه.
2- بيان عدالة الصحابة وفضلهم: إن هذا الوعد النبوي لأبي الدرداء هو شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم باستقامته وثباته على الدين حتى الممات. وهو ينطبق على جميع الصحابة العدول الذين لم يشاركوا في الفتنة، بل إن ذِكر موت أبي الدرداء قبل قتل عثمان يؤكد أن الحديث يشير إلى الفتنة التي وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه وما بعده، والتي أدت إلى ارتداد بعض من دخل في الإسلام حديثًا أو من ضعف إيمانه، وليس الصحابة الكرام.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- وقوع الفتن علامة من علامات الساعة: الحديث يخبر عن فتنة عظيمة ستقع، تؤدي إلى ارتداد بعض الناس عن دينهم، وقد حصل ذلك في الفتنة الكبرى التي بدأت بقتال الخوارج ومرت بفاجعة استشهاد عثمان رضي الله عنه ثم ما تلاها من أحداث.
2- فضل الصحابة وثباتهم: الحديث دليل على فضل الصحابة رضي الله عنهم وثباتهم على الدين. فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء «ولست منهم» هو بمثابة شهادة له بعدم الارتداد، وهو ينطبق على جيل الصحابة الأبرار الذين لم يشاركوا في الفتن أو قُتِلوا قبلها، كأبي الدرداء.
3- الخوف من الفتن والحرص على السلامة: سؤال أبي الدرداء يدل على خوفه على دينه، وهذا من علامات الإيمان. فيجب على المسلم أن يخاف على نفسه من الفتن ويحذر منها، ويسأل الله الثبات.
4- التثبت وطلب العلم: لم يكتفِ أبو الدرداء بالسماعة، بل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت ويفهم السياق، وهذا أدب في طلب العلم.
5- بشارة لأهل الاستقامة: طمأنة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء بشارة لكل من استقام على دين الله وسار على منهج السلف الصالح، أن الله سيحفظه ويثبته بإذنه.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* المراد بـ "قوم" في الحديث: هم الخوارج وأشباههم ممن خرجوا على أئمة المسلمين، وكفّروا المسلمين بالمعاصي والكبائر، واستحلوا دماءهم وأموالهم. وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بأنهم «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». وكذلك بعض الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في حروب الردة.
* موقف أهل السنة والجماعة: يؤمن أهل السنة بأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم عدول، ومن ثبتت صحبته فلا يجوز الطعن في إيمانه. وما وقع بينهم من خلاف وفتن كان اجتهادًا، والمخطئ منهم معذور له أجر الاجتهاد، والمصيب له أجران. وهم أولى الناس بأن يُحمل كلامهم وأفعالهم على أحسن المحامل.
* الاستفادة المعاصرة: الحديث يحذر من الفتن التي تزلزل الإيمان، ويحث على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والابتعاد عن الفرقة والاختلاف، والتسلح بالعلم الشرعي الذي يحمي من الانحراف.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.