تفسير سورة الكهف كاملة مختصر

  1. التفسير
  2. سور أخرى
  3. السورة mp3
تفسير القرآن | surah (الكهف) - تفسير سورة الكهف - تفاسير معتمدة | رقم السورة 18 - عدد آياتها 110 - مدنية صفحتها في القرآن 293.

قراءة و تفسير سورة الكهف Al-Kahf.

bismillah & auzubillah

الكهف مكتوبة سورة الكهف mp3

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ(1)

التفسير المختصر:
الثناء بصفات الكمال والجلال، وبالنعم الظاهرة والباطنة لله وحده الذي أنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يجعل لهذا القرآن اعوجاجًا وميلًا عن الحق.
تفسير الجلالين:
 «الحمد» وهو الوصف بالجميل، ثابت «لله» تعالى وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما؟ احتمالات، أفيدها الثالث «الذي أنزل على عبده» محمد «الكتاب» القرآن «ولم يجعل له» أي فيه «عوجا» اختلافا أو تناقضا، والجملة حال من الكتاب.
تفسير السعدي:
الحمد لله هو الثناء عليه بصفاته، التي هي كلها صفات كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وأجل نعمه على الإطلاق، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله، محمد صلى الله عليه وسلم فحمد نفسه، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين، على أنه الكامل من جميع الوجوه، وهما نفي العوج عنه، وإثبات أنه قيم مستقيم، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث، وإثبات الاستقامة، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات وهي الأخبار، التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه، تزكي النفوس، وتطهرها وتنميها وتكملها، لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له.
وحقيق بكتاب موصوف.
بما ذكر، أن يحمد الله نفسه على إنزاله، وأن يتمدح إلى عباده به.

قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)

التفسير المختصر:
بل جعله مستقيمًا لا تناقض فيه ولا اختلاف؛ ليخوّف الكافرين من عذاب قوي من عند الله ينتظرهم، ويخبر المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات بما يسرّهم أن لهم ثوابًا حسنًا لا يدانيه ثواب.
تفسير الجلالين:
 «قيّما» مستقيما حال ثانية مؤكدة «لينذر» يخوف بالكتاب الكافرين «بأسا» عذابا «شديدا من لدنه» من قبل الله «ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا».
تفسير السعدي:
وقوله لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ أي: لينذر بهذا القرآن الكريم، عقابه الذي عنده، أي: قدره وقضاه، على من خالف أمره، وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، وهذا أيضا، من نعمه أن خوف عباده، وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم.
كما قال تعالى -لما ذكر في هذا القرآن وصف النار- قال: ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون فمن رحمته بعباده، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره، وبينها لهم، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها.
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا أي: وأنزل الله على عبده الكتاب، ليبشر المؤمنين به، وبرسله وكتبه، الذين كمل إيمانهم، فأوجب لهم عمل الصالحات، وهي: الأعمال الصالحة، من واجب ومستحب، التي جمعت الإخلاص والمتابعة، أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا وهو الثواب الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح، وأعظمه وأجله، الفوز برضا الله ودخول الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وفي وصفه بالحسن، دلالة على أنه لا مكدر فيه ولا منغص بوجه من الوجوه، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك لم يكن حسنه تاما.

مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3)

التفسير المختصر:
خالدين في هذا الثواب أبدًا، فلا ينقطع عنهم.
تفسير الجلالين:
 «ماكثين فيه أبدا» هو الجنة.
تفسير السعدي:
ومع ذلك فهذا الأجر الحسن مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.

وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4)

التفسير المختصر:
ويخوف اليهود والنصارى وبعض المشركين الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا.
تفسير الجلالين:
 «وينذر» من جملة الكافرين «الذين قالوا اتخذ الله ولدا».
تفسير السعدي:
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا من اليهود والنصارى، والمشركين، الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة، فإنهم لم يقولوها عن علم و[لا] يقين

مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا(5)

التفسير المختصر:
ليس لهؤلاء المفترين من علم أو دليل على ما يدعونه من نسبة الولد إلى الله، وليس لآبائهم الذين قلدوهم في ذلك علم، عظمت في القبح تلك الكلمة التي تخرج من أفواههم دون تعقل، ما يقولون إلا قولًا كذبًا، لا أساس له ولا مستند.
تفسير الجلالين:
 «ما لهم به» بهذا القول «من علم ولا لآبائهم» من قبلهم القائلين له «كبرت» عظمت «كلمة تخرج من أفواههم» كلمة تمييز مفسر للضمير المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة «إن» ما «يقولون» في ذلك «إلا» مقولا «كذبا».
تفسير السعدي:
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟" فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ولهذا قال هنا: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)

التفسير المختصر:
فلعلك -أيها الرسول- مُهْلك نفسك حزنًا وأسفًا إن لم يؤمنوا بهذا القرآن، فلا تفعل، فليس عليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ.
تفسير الجلالين:
 «فلعلك باخع» مهلك «نفسك على آثارهم» بعدهم أي بعد توليهم عنك «إن لم يؤمنوا بهذا الحديث» القرآن «أسفا» غيظا وحزنا منك لحرصك على إيمانهم، ونصبه على المفعول له.
تفسير السعدي:
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى: لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين وقال فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وهنا قال فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: إنك لا تهدي من أحببت وموسى عليه السلام يقول: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي الآية، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7)

التفسير المختصر:
إنا جعلنا ما فوق وجه الأرض من المخلوقات جمالًا لها لنختبرهم أيهم أحسن عملًا بما يرضي الله، وأيهم أسوأ عملًا، لنجزي كلًّا بما يستحقه.
تفسير الجلالين:
 «إنا جعلنا ما على الأرض» من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك «زينة لها لنبلوهم» لنختبر الناس ناظرين إلى ذلك «أيهم أحسن عملاً» فيه أي أزهد له.
تفسير السعدي:
يخبر تعالى: أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، فتنة واختبارا.
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أخلصه وأصوبه، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(8)

التفسير المختصر:
وإنا لمصيّرون ما على وجه الأرض من المخلوقات ترابًا خاليًا من النبات، وذلك بعد انقضاء حياة ما عليها من المخلوقات، فليعتبروا بذلك.
تفسير الجلالين:
 «وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا» فتاتا «جرزا» يابسا لا ينبت.
تفسير السعدي:
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطائفتين"

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9)

التفسير المختصر:
لا تظنن - أيها الرسول - أن قصة أصحاب الكهف، ولوحهم الذي كُتِبت فيه أسماؤهم من آياتنا العجيبة، بل غيرها أعجب مثل خلق السماوات والأرض.
تفسير الجلالين:
 «أم حسبت» أي ظننت «أن أصحاب الكهف» الغار في الجبل «والرقيم» اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن قصتهم «كانوا» في قصتهم «من» جملة «آياتنا عجبا» خبر كان وما قبله حال، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات أو أعجبها ليس الأمر كذلك.
تفسير السعدي:
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي.
أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد، أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان.
وأضافهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، الرقيم، أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرا طويلا.

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)

التفسير المختصر:
اذكر -أيها الرسول- حين التجأ الشبان المؤمنون فرارًا بدينهم، فقالوا في دعائهم لربهم: ربنا، أعطنا من عندك رحمة بأن تغفر ذنوبنا، وتنجينا من أعدائنا، واجعل لنا من أمرِ الهجرة عن الكفار، والإيمانِ، اهتداءً إلى طريق الحق وسدادًا.
تفسير الجلالين:
 اذكر «إذ أوى الفتية إلى الكهف» جمع فتى وهو الشاب الكامل، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار «فقالوا ربنا آتنا من لدنك» من قبلك «رحمة وهيئ» أصلح «لنا من أمرنا رشدا» هداية.
تفسير السعدي:
ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ أي: الشباب، إِلَى الْكَهْفِ يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم، فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم

فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)

التفسير المختصر:
ثم بعد سيرهم ولجوئهم إلى الكهف ضربنا على آذانهم حجابًا عن سماع الأصوات، وألقينا عليهم النوم أعوامًا كثيرة.
تفسير الجلالين:
 «فضربنا على آذانهم» أي أنمناهم «في الكهف سنين عددا» معدودة.
تفسير السعدي:
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ أي أنمناهم سِنِينَ عَدَدًا وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(12)

التفسير المختصر:
ثم بعد نومهم الطويل أيقظناهم لنعلم - علمَ ظهورٍ - أي الطائفتين المتنازعتين في أمد مكثهم في الكهف أعلم بمقدار ذلك الأمد.
تفسير الجلالين:
 «ثم بعثناهم» أيقظناهم «لنعلم» علم مشاهدة «أي الحزبين» الفريقين المختلفين في مدة لبثهم «أحصى» أفعل بمعنى أضبط «لما لبثوا» لبثهم متعلق بما بعده «أمدا» غاية.
تفسير السعدي:
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ أي: من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.

نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)

التفسير المختصر:
نحن نطلعك - أيها الرسول - على خبرهم بالصدق الذي لا مرية معه، إنهم شبان آمنوا بربهم، وعملوا بطاعته، وزدناهم هداية وتثبيتًا على الحق.
تفسير الجلالين:
 «نحن نقص» نقرأ «عليك نبأهم بالحق» بالصدق «إنهم فتية آمنوا بربِّهم وزدناهم هدى».
تفسير السعدي:
هذا شروع في تفصيل قصتهم، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة، آمَنُوا بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، كما قال تعالى: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى

وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)

التفسير المختصر:
وقوّينا قلوبهم بالإيمان والثبات عليه، والصبر على هجر الأوطان فيه، حين قاموا معلنين بين يدي الملك الكافر إيمانهم بالله وحده، فقالوا له: ربنا الذي آمنا به وعبدناه هو رب السماوات ورب الأرض، لن نعبد ما سواه من الآلهة المزعومة كذبًا، لقد قلنا - إن عبدنا غيره - قولًا جائرًا بعيدًا عن الحق.
تفسير الجلالين:
 «وربطنا على قلوبهم» قويناها على قول الحق «إذ قاموا» بين يدي ملكهم وقد أمرهم بالسجود للأصنام «فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه» أي غيره «إلها لقد قلنا إذا شططا» أي قولاً ذا شطط أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله فرضا.
تفسير السعدي:
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أي صبرناهم وثبتناهم، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره، أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات، والطمأنينة.
إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: الذي خلقنا ورزقنا، ودبرنا وربانا، هو خالق السماوات والأرض، المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة، لا تلك الأوثان والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، ولهذا قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا أي: من سائر المخلوقات لَقَدْ قُلْنَا إِذًا أي: إن دعونا معه آلهة، بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة، إلا له شَطَطًا أي: ميلا عظيما عن الحق، وطريقا بعيدة عن الصواب، فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم، وزيادة الهدى من الله لهم.

هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15)

التفسير المختصر:
ثم التفت بعضهم إلى بعض قائلين: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله معبودات يعبدونها، وهم لا يملكون على عبادتهم برهانًا واضحًا، فلا أحد أظلم ممن اختلق على الله كذبًا بنسبة الشريك إليه.
تفسير الجلالين:
 «هؤلاء» مبتدأ «قومنا» عطف بيان «اتخذوا من دونه آلهة لولا» هلا «يأتون عليهم» على عبادتهم «بسلطان بين» بحجة ظاهرة «فمن أظلم» أي لا أحد أظلم «ممن افترى على الله كذبا» بنسبة الشريك إليه تعالى قال بعض الفتية لبعض:
تفسير السعدي:
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى، والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم، من اتخاذ الآلهة من دون الله، فمقتوهم، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ أي: بحجة وبرهان، على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه، وهذا أعظم الظلم، ولهذا قال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا(16)

التفسير المختصر:
وحين تنحّيتم عن قومكم، وتركتم ما يعبدون من دون الله، فلم تعبدوا إلا الله وحده، فالجؤوا إلى الكهف فرارًا بدينكم يبسط لكم ربكم سبحانه من رحمته ما يحفظكم به من أعدائكم ويحمكم، وييسّر لكم من أمركم ما تنتفعون به مما يعوّضكم عن العيش بين ظهراني قومكم.
تفسير الجلالين:
 «وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس ما ترتفقون به من غداء وعشاء.
تفسير السعدي:
أي: قال بعضهم لبعض، إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم، فلم يبق إلا النجاء من شرهم، والتسبب بالأسباب المفضية لذلك، لأنهم لا سبيل لهم إلى قتالهم، ولا بقائهم بين أظهرهم، وهم على غير دينهم، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي: انضموا إليه واختفوا فيه يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا وفيما تقدم، أخبر أنهم دعوه بقولهم ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، ودعائه بذلك، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ما هو من رحمته بهم، ويسر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة

۞ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا(17)

التفسير المختصر:
فامتَثَلوا ما أمروا به، وألقى الله النوم عليهم، وحفظهم من عدوِّهم، وترى -أيها المشاهد لهم - الشمس إذا طلعت من مشرقها تميل عن كهفهم جهة يمين الداخل فيه، وإذا غابت عند غروبها تعدل عنه جهة شماله فلا تصيبه، فهم في ظل دائم لا يؤذيهم حر الشمس، وهم في مُتَّسَع من الكهف ينالهم من الهواء ما يحتاجون إليه، ذلك الحاصل لهم من إيوائهم إلى الكهف، وإلقاء النوم عليهم، وانحراف الشمس عنهم، واتساع مكانهم وإنجائهم من قومهم: من عجائب صنع الله الدالة على قدرته، من يوفقه الله لطريق الهداية فهو المهتدي حقًّا، ومن يخذله عنها ويضله فلن تجد له ناصرًا يوفقه للهداية، ويرشده إليها؛ لأن الهداية بيد الله، وليست بيده هو.
تفسير الجلالين:
 «وترى الشمس إذا طلعت تزّاور» بالتشديد والتخفيف تميل «عن كهفهم ذات اليمين» ناحيته «وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال» تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ألبتة «وهم في فجوة منه» متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها «ذلك» المذكور «من آيات الله» دلائل قدرته «من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا».
تفسير السعدي:
أي: حفظهم الله من الشمس فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس تميل عنه يمينا، وعند غروبها تميل عنه شمالا، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: من الكهف أي: مكان متسع، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق، خصوصا مع طول المكث، وذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم، وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في هذه الأمور، ولهذا قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي: لا سبيل إلى نيل الهداية إلا من الله، فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا أي: لا تجد من يتولاه ويدبره، على ما فيه صلاحه، ولا يرشده إلى الخير والفلاح، لأن الله قد حكم عليه بالضلال، ولا راد لحكمه.

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18)

التفسير المختصر:
وتظنّهم - أيها الناظر إليهم - مستيقظين لانفتاح أعينهم، والواقع أنهم نيام، ونقلّبهم في نومهم تارة يمينًا، وتارة شمالًا حتى لا تأكل الأرض أجسامهم، وكلبهم المرافق لهم مادّ ذراعيه بمدخل الكهف، لو اطلعت عليهم وشاهدتهم لأدبرت عنهم هاربًا خوفًا منهم، ولامتلأت نفسك رعبًا منهم.
تفسير الجلالين:
 «وتحسبهم» لو رأيتهم «أيقاظا» أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة، جمع يقظ بكسر القاف «وهم رقود» نيام جمع راقد «ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال» لئلا تأكل الأرض لحومهم «وكلبهم باسط ذراعيه» يديه «بالوصيد» بفناء الكهف وكانوا إذا انقلبوا انقلب هو مثلهم في النوم واليقظة «لو اطلعت عليهم لولَّيت منهم فرارا ولملِّئت» بالتشديد والتخفيف «منهم رعْبا» بسكون العين وضمها منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم.
تفسير السعدي:
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ أي: تحسبهم أيها الناظر إليهم [كأنهم] أيقاظ، والحال أنهم نيام، قال المفسرون: وذلك لأن أعينهم منفتحة، لئلا تفسد، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا، وهم رقود، وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم، لأن الأرض من طبيعتها، أكل الأجسام المتصلة بها، فكان من قدر الله، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض، من غير تقليب، ولكنه تعالى حكيم، أراد أن تجري سنته في الكون، ويربط الأسباب بمسبباتها.
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي: الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد، أي: الباب، أو فنائه، هذا حفظهم من الأرض.
وأما حفظهم من الآدميين، فأخبر أنه حماهم بالرعب، الذي نشره الله عليهم، فلو اطلع عليهم أحد، لامتلأ قلبه رعبا، وولى منهم فرارا، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة، وهم لم يعثر عليهم أحد، مع قربهم من المدينة جدا، والدليل على قربهم، أنهم لما استيقظوا، أرسلوا أحدهم، يشتري لهم طعاما من المدينة، وبقوا في انتظاره، فدل ذلك على شدة قربهم منها.

وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19)

التفسير المختصر:
وكما فعلنا بهم مما ذكرنا من عجائب قدرتنا أيقظناهم بعد مدة طويلة ليسأل بعضهم بعضًا عن المدة التي مكثوها نائمين، فأجاب بعضهم: مكثنا نائمين يومًا أو بعض يوم، وأجاب بعض منهم ممن لم تظهر له مدة مكثهم نائمين: ربكم أعلم بمدة مكثكم نائمين، ففوِّضوا إليه علم ذلك وانشغلوا بما يعنيكم، فأرسلوا أحدكم بنقودكم الفضية هذه إلى مدينتنا المعهودة، فلينظر أي أهلها أطيب طعامًا وأطيب مكسبًا، فليأتكم بقوت منه، ولْيتَأنّ في دخوله وخروجه ومعاملته، وليكن لَبِقًا، ولا يدع أحدًا يعلم بمكانكم؛ لما يترتب على ذلك من ضرر عظيم.
تفسير الجلالين:
 «وكذلك» كما فعلنا بهم ما ذكرنا «بعثناهم» أيقظناهم «ليتساءلوا بينهم» عن حالهم ومدة لبثهم «قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم» لأنهم دخلوا الكهف عند طلوع الشمس وبُعثوا عند غروبها فظنوا أنه غروب يوم الدخول ثم «قالوا» متوقفين في ذلك «ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بوَرقِكُمْ» بسكون الراء وكسرها بفضتكم «هذه إلى المدينة» يقال إنها المسماة الآن طرسوس بفتح الراء «فلينظر أيها أزكى طعاما» أي أيّ أطعمة المدينة أحل «فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً».
تفسير السعدي:
يقول تعالى: وكذلك بعثناهم أي: من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة من مدة لبثهم.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وهذا مبني على ظن القائل، وكأنهم وقع عندهم اشتباه.
في طول مدتهم، فلهذا قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلا، ولعل الله تعالى -بعد ذلك- أطلعهم على مدة لبثهم، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم، وأخبر أنهم تساءلوا، وتكلموا بمبلغ ما عندهم، وصار آخر أمرهم، الاشتباه، فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم، وأنه لا يفعل ذلك عبثا.
ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك، وبما ذكر فيما بعده من قوله.
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا فلولا أنه حصل العلم بحالهم، لم يكونوا دليلا على ما ذكر، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم، وجرى منهم ما أخبر الله به، أرسلوا أحدهم بورقهم، أي: بالدراهم، التي كانت معهم، ليشتري لهم طعاما يأكلونه، من المدينة التي خرجوا منها، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه، أي: أطيبه وألذه، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه، وأن يختفي في ذلك، ويخفي حال إخوانه، ولا يشعرن بهم أحدا.
وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليهم، وظهورهم عليهم، أنهم بين أمرين، إما الرجم بالحجارة، فيقتلونهم أشنع قتلة، لحنقهم عليهم وعلى دينهم، وإما أن يفتنوهم عن دينهم، ويردوهم في ملتم، وفي هذه الحال، لا يفلحون أبدا، بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم، وقد دلت هاتان الآيتان، على عدة فوائد.
منها: الحث على العلم، وعلى المباحثة فيه، لكون الله بعثهم لأجل ذلك.
ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم، أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند حده.
ومنها: صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك.
ومنها: جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين، القائلين بأن هؤلاء أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها.

إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا(20)

التفسير المختصر:
إن قومكم إن يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يرجعوكم إلى ملتهم المنحرفة التي كنتم عليها قبل أن يمنّ الله عليكم بالهداية إلى دين الحق، وإن رجعتم إليها فلن تفوزوا أبدًا، لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، بل ستخسرون فيهما الخسران العظيم بسبب ترككم دين الحق الذي هداكم الله إليه، ورجوعكم إلى تلك الملة المنحرفة.
تفسير الجلالين:
 «إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم» يقتلوكم بالرجم «أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا» أي إن عدتم في ملتهم «أبدا».
تفسير السعدي:
ومنها: الحث على التحرز، والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين.
ومنها: شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة، في دينهم وتركهم أوطانهم في الله.
ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد، الداعية لبغضه، وتركه، وأن هذه الطريقة، هي طريقة المؤمنين المتقدمين، والمتأخرين لقولهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا

وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا(21)

التفسير المختصر:
وكما فعلنا بهم الأفعال العجيبة الدالة على قدرتنا من إنامتهم سنين كثيرة، وإيقاظهم بعدها، أطلعنا عليهم أهل مدينتهم ليعلم أهل مدينتهم أن وعد الله بنصر المؤمنين وبالبعث حق، وأن القيامة آتية لا شك فيها، فلما انكشف أمر أصحاب الكهف وماتوا اختلف المُطَّلِعون عليهم: ماذا يفعلون بشأنهم؟ قال فريق منهم: ابنوا على باب كهفهم بنيانًا يحجبهم ويحميهم، ربهم أعلم بحالهم، فحالهم يقتضي أن لهم خصوصية عنده.
وقال أصحاب النفوذ ممن ليس لهم علم ولا دعوة صحيحة: لنتخذن على مكانهم هذا مسجدًا للعبادة تكريمًا لهم وتذكيرًا بمكانهم.
تفسير الجلالين:
 «وكذلك» كما بعثناهم «أعثرنا» أطلعنا «عليهم» قومهم والمؤمنين «ليعلموا» أي قومهم «أن وعد الله» بالبعث «حق» بطريق أن القادر على إنامتهم المدة الطويلة وإبقائهم على حالهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى «وأن الساعة لا ريب» لا شك «فيها إذ» معمول لأعثرنا «يتنازعون» أي المؤمنون والكفار «بينهم أمرهم» أمر الفتية في البناء حولهم «فقالوا» أي الكفار «ابنوا عليهم» أي حولهم «بنيانا» يسترهم. «ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم» أمر الفتية وهم المؤمنون «لنتخذن عليهم» حولهم «مسجدا» يصلى فيه، وفعل ذلك على باب الكهف.
تفسير السعدي:
يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.
و فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم، وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.
وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها.
وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب وما عند الله خير للأبرار

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا(22)

التفسير المختصر:
سيقول بعض الخائضين في قصتهم عن عددهم: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول بعضهم: هم خمسة سادسهم كلبهم، وكلتا الطائفتين إنما قالت ما قالته تبعًا لظنها من غير دليل، ويقول بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم، قل - أيها الرسول -: ربي أعلم بعددهم، ما يعلم عددهم إلا قليل ممن علّمهم الله عددهم، فلا تجادل في عددهم ولا في غيره من أحوالهم أهلَ الكتاب ولا غيرهم إلا جدالًا ظاهرًا لا عمق فيه، بأن تقتصر على ما نزل عليك من الوحي بشأنهم، ولا تسأل أحدًا منهم عن تفاصيل شأنهم، فإنهم لا يعلمون ذلك.
تفسير الجلالين:
 «سيقولون» أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أي يقول بعضهم هم «ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون» أي بعضهم «خمسة سادسهم كلبهم» والقولان لنصارى نجران «رجما بالغيب» أي ظنا في الغيبة عنهم وهو راجع إلى القولين معا ونصبه على المفعول له أي لظنهم ذلك «ويقولون» أي المؤمنون «سبعة وثامنهم كلبهم» الجملة من المبتدأ وخبره صفة سبعة بزيادة الواو، وقيل تأكيد أو دلالة على لصوق الصفة بالموصوف ووصف الأولين بالرجم دون الثالث دليل على أنه مرضي وصحيح «قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل» قال ابن عباس أنا من القليل وذكرهم سبعة «فلا تمار» تجادل «فيهم إلا مراءً ظاهرا» بما أنزل عليك «ولا تستفت فيهم» تطلب الفتيا «منهم» من أهل الكتاب اليهود «أحدا» وسأله أهل مكة عن خبر أهل الكهف فقال أخبركم به غدا ولم يقل إن شاء الله فنزل:
تفسير السعدي:
يخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف، اختلافا صادرا عن رجمهم بالغيب، وتقولهم بما لا يعلمون، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال:منهم: من يقول: ثلاثة، رابعهم كلبهم، ومنهم من يقول: خمسة، سادسهم كلبهم.
وهذان القولان، ذكر الله بعدهما، أن هذا رجم منهم بالغيب، فدل على بطلانهما.
ومنهم من يقول: سبعة، وثامنهم كلبهم، وهذا -والله أعلم- الصواب، لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله، فدل على صحته، وهذا من الاختلاف الذي لا فائدة تحته، ولا يحصل بمعرفة عددهم مصلحة للناس، دينية ولا دنيوية، ولهذا قال تعالى:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) وهم الذين أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم.
( فَلا تُمَارِ ) أي: تجادل وتحاج ( فيهم إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) أي: مبنيا على العلم واليقين، ويكون أيضا فيه فائدة، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها، إما أن يكون الخصم معاندا، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك، فإن في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة، تضييعا للزمان، وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ) أي: في شأن أهل الكهف ( مِنْهُمْ ) أي: من أهل الكتاب ( أَحَدًا ) وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه، أو لكونه لا يبالي بما تكلم به، وليس عنده ورع يحجزه، وإذا نهي عن استفتاء هذا الجنس، فنهيه هو عن الفتوى، من باب أولى وأحرى.
وفي الآية أيضا، دليل على أن الشخص، قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء، دون آخر.
فيستفتى فيما هو أهل له، بخلاف غيره، لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف، وما أشبهها.

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا(23)

التفسير المختصر:
ولا تقولنّ - أيها النبي - لشيء تريد فعله غدًا: إني فاعل هذا الشيء غدًا؛ لأنك لا تدري هل تفعله، أو يُحَال بينك وبينه؟ وهو توجيه لكل مسلم.
تفسير الجلالين:
 «ولا تقولن لشيء» أي لأجل شيء «إني فاعل ذلك غدا» أي قيما يستقبل من الزمان.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 23 و 24 :هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، إني فاعل ذلك من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.
وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره.

إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(24)

التفسير المختصر:
إلا أن تُعَلِّق فعله على مشيئة الله بأن تقول: سأفعله - إن شاء الله - غدًا، واذكر ربك بقولك: إن شاء الله - إن نسيت أن تقولها - وقل: أرجو أن يرشدني ربي لأقرب من هذا الأمر هداية وتوفيقًا.
تفسير الجلالين:
 «إلا يشاء الله» أي إلا ملتبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول إن شاء الله «واذكر ربك» أي مشيئته معلقا بها «إذا نسيت» ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول الحسن وغيره ما دام في المجلس «وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا» من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي «رشدا» هداية وقد فعل الله ذلك.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 23 و 24 :هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، إني فاعل ذلك من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.
وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره.

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا(25)

التفسير المختصر:
ومَكَثَ أصحاب الكهف في كهفهم ثلاث مئة وتسع سنين.
تفسير الجلالين:
 «ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة» بالتنوين «سنين» عطف بيان لثلاثمائة وهذه السنون الثلاثمائة عند أهل الكهف شمسية وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين وقد ذكرت في قوله «وازدادوا تسعا» أي تسع سنين فالثلاثمائة الشمسية: ثلاثمائة وتسع قمرية.
تفسير السعدي:
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب، في شأن أهل الكهف، لعدم علمهم بذلك، وكان الله عالم الغيب والشهادة، العالم بكل شيء، أخبره بمدة لبثهم، وأن علم ذلك عنده وحده، فإنه من غيب السماوات والأرض، وغيبها مختص به، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله، فهو الحق اليقين، الذي لا يشك فيه، وما لا يطلع رسله عليه، فإن أحدا من الخلق، لا يعلمه.

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26)

التفسير المختصر:
قل - أيها الرسول -: الله أعلم بما مكثوا في كهفهم، وقد أخبرنا بمدة مكثهم فيه، فلا قول لأحد بعد قوله سبحانه، له سبحانه وحده ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض خلقًا وعلمًا، ما أَبْصَرَه سبحانه! فهو يبصر كل شيء، وما أَسْمَعَه! فهو يسمع كل شيء، ليس لهم من دونه ولي يتولى أمرهم، ولا يشرك في حكمه أحدًا، فهو المنفرد وحده بالحكم.
تفسير الجلالين:
 «قل الله أعلموا بما لبثوا» ممن اختلفوا فيه وهو ما تقدم ذكره «له غيب السماوات والأرض» أي علمه «أبصرْ به» أي بالله هي صيغة تعجب «وأسمعْ» به كذلك بمعنى ما أبصرهُ وما أسمعهُ وهما على جهة المجاز والمراد أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء «ما لهم» لأهل السماوات والأرض «من دونه من ولي» ناصر «ولا يشرك في حكمه أحدا» لأنه غني عن الشريك.
تفسير السعدي:
وقوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات.
ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون، الولي لعباده المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ولهذا قال: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف، بلطفه وكرمه، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق.
وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، فإنه الحاكم في خلقه، قضاء وقدرا، وخلقا وتدبيرا، والحاكم فيهم، بأمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
ولما أخبر أنه تعالى، له غيب السماوات والأرض، فليس لمخلوق إليها طريق، إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده، وكان هذا القرآن، قد اشتمل على كثير من الغيوب

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا(27)

التفسير المختصر:
واقرأ - أيها الرسول - واعمل بما أوحى الله به إليك من القرآن، فلا مبدل لكلماته؛ لأنها صدق كلها وعدل كلها، ولن تجد من دونه سبحانه ملجأً تلجأ إليه، ولا معاذًا تعوذ به سواه.
تفسير الجلالين:
 واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا» ملجأ.
تفسير السعدي:
التلاوة: هي الاتباع، أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه، فإنه الكتاب الجليل، الذي لا مبدل لكلماته، أي: لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها، وبلوغها من الحسن فوق كل غاية وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا فلتمامها، استحال عليها التغيير والتبديل، فلو كانت ناقصة، لعرض لها ذلك أو شيء منه، وفي هذا تعظيم للقرآن، في ضمنه الترغيب على الإقبال عليه.
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا أي: لن تجد من دون ربك، ملجأ تلجأ إليه، ولا معاذا تعوذ به، فإذا تعين أنه وحده الملجأ في كل الأمور، تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه، في السراء والضراء، المفتقر إليه في جميع الأحوال، المسئول في جميع المطالب.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)

التفسير المختصر:
ألزم نفسك بصحبة الذين يدعون ربهم دعاء عبادة ودعاء مسألة أول النهار وآخره، مخلصين له، لا تتجاوز عيناك عنهم، تريد مجالسة أهل الغنى والشرف، ولا تطع من صَيَّرنا قلبه غافلًا عن ذكرنا بختمنا عليه، فَأَمَرك بتنحية الفقراء عن مجلسك، وقَدَّم اتباع ما تهواه نفسه على طاعة ربه، وكانت أعماله ضياعًا.
تفسير الجلالين:
 «واصبر نفسك» احبسها «مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون» بعبادتهم «وجهه» تعالى لا شيئا من أعراض الدنيا وهم الفقراء «ولا تعدُ» تنصرف «عيناك عنهم» عبر بهما عن صاحبهما «تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا» أي القرآن هو عيينة بن حصن وأصحابه «واتبعَ هواه» في الشرك «وكان أمره فرطا» إسرافا.
تفسير السعدي:
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي -أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا غفل عن الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ أي: صار تبعا لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية.
وَكَانَ أَمْرُهُ أي: مصالح دينه ودنياه فُرُطًا أي: ضائعة معطلة.
فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما، والصبر المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام.
وفي الآية، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه.

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29)

التفسير المختصر:
وقل - أيها الرسول - لهؤلاء اللاهين عن ذكر الله لغفلة قلوبهم: ما جئتكم به هو الحق، وهو من عند الله لا من عندي، ولست مجيب دعوتكم إياي أن أطرد المؤمنين، فمن شاء منكم الإيمان بهذا الحق فليؤمن به، وسيُسرّ بجزائه، ومن شاء منكم الكفر به فليكفر، وسيستاء بالعقاب الذي ينتظره، إنا أعددنا للظالمين أنفسهم باختيار الكفر نارًا عظيمة أحاط بهم سورها، فلا يستطيعون فرارًا منها، وإن يطلبوا غوثًا بماء من شدة ما يلاقون من العطش يغاثوا بماء كالزيت العَكِر شديد الحرارة، يشوي وجوههم من شدة حرّه، ساء شرابًا هذا الشراب الذي يُغَاثون به، فهو لا يغني من عطش بل يزيده، ولا يطفئ اللهب الذي يَلْفَح جلودهم، وساءت النار منزلًا ينزلونه، ومقامًا يقيمون فيه.
تفسير الجلالين:
 «وقل» له ولأصحابه هذا القرآن «الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» تهديد لهم «إنا أعتدنا للظالمين» أي الكافرين «نارا أحاط بهم سرادقها» ما أحاط بها «وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل» كعكر الزيت «يشوي الوجوه» من حره إذا قرب إليها «بئس الشراب» هو «وساءت» أي النار «مرتفقا» تمييز منقول عن الفاعل أي قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله الآتي في الجنة «وحسنت مرتفقا» وإلا فأي ارتفاق في النار.
تفسير السعدي:
أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي: قد تبين الهدى من الضلال، والرشد من الغي، وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله، فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان، كما قال تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وليس في قوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الإذن في كلا الأمرين، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين.
ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ بالكفر والفسوق والعصيان نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا أي: سورها المحيط بها، فليس لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها، تصلاهم النار الحامية.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي: يطلبوا الشراب، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ أي: كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته.
يَشْوِي الْوُجُوهَ أي: فكيف بالأمعاء والبطون، كما قال تعالى يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد بِئْسَ الشَّرَابُ الذي يراد ليطفئ العطش، ويدفع بعض العذاب، فيكون زيادة في عذابهم، وشدة عقابهم.
وَسَاءَتْ النار مُرْتَفَقًا وهذا ذم لحالة النار، أنها ساءت المحل، الذي يرتفق به، فإنها ليست فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق، الذي لا يفتر عنهم ساعة، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير، ونسيهم الرحيم في العذاب، كما نسوه.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا(30)

التفسير المختصر:
إن الذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحات قد أحسنوا عملهم فلهم ثواب عظيم، إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا، بل نوفّيهم أجورهم كاملة غير منقوصة.
تفسير الجلالين:
 «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً» الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم أي نثيبهم بما تضمنه.
تفسير السعدي:
ثم ذكر الفريق الثاني فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعمل الصالحات من الواجبات والمستحبات إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وإحسان العمل: أن يريد العبد العمل لوجه الله، متبعا في ذلك شرع الله.
فهذا العمل لا يضيعه الله، ولا شيئا منه، بل يحفظه للعاملين، ويوفيهم من الأجر، بحسب عملهم وفضله وإحسانه

أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31)

التفسير المختصر:
أولئك الموصوفون بالإيمان وفعل الأعمال الصالحات لهم جنات إقامة يقيمون فيها أبدًا، تجري من تحت منازلهم أنهار الجنة العذبة، يزيّنون فيها بأسورة من ذهب، ويلبسون ثيابًا خضرًا من رقيق الحرير وغليظه، يتكئون على الأسرة المزيّنة بالستائر الجميلة، حَسُن الثواب ثوابهم، وحَسُنت الجنة منزلًا ومقامًا يقيمون فيه.
تفسير الجلالين:
 (أولئك لهم جنات عدن) إقامة (تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور) قيل من زائدة وقيل للتبعيض، وهي جمع أسورة كأحمرة جمع سوار (من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس) ما رقَّ من الديباج (وإستبرق) ما غلظ منه وفي آية الرحمن "" بطائنها من إستبرق "" (متكئين فيها على الأرائك) جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس (نعم الثواب) الجزاء الجنة (وحسنت مرتفقا).
تفسير السعدي:
أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها، فأجنت من فيها، وكثرت أنهارها، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة، والمنازل الرفيعة، وحليتهم فيها الذهب، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس، وهو الغليظ من الديباج، والإستبرق، وهو ما رق منه.
متكئين فيها على الأرائك، وهي السرر المزينة، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك، وفي اتكائهم على الأرائك، ما يدل على كمال الراحة، وزوال النصب والتعب، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون، وتمام ذلك الخلود الدائم والإقامة الأبدية، فهذه الدار الجليلة نِعْمَ الثَّوَابُ للعاملين وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور، والفرح الدائم، واللذات المتواترة، والنعم المتوافرة، وأي مرتفق أحسن من دار، أدنى أهلها، يسير في ملكه ونعيمه وقصوره وبساتينه ألفي سنة، ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم، قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه، وزيد من المطالب، ما قصرت عنه الأماني، ومع ذلك، فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه وحسنه، فنسأل الله الكريم، أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان.
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها، على أن الحلية، عامة للذكور والإناث، كما ورد في الأحاديث الصحيحة لأنه أطلقها في قوله يُحَلَّوْنَ وكذلك الحرير ونحوه.

۞ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32)

التفسير المختصر:
واضرب - أيها الرسول - مثلًا لرجلين: كافر ومؤمن، جعلنا للكافر منهما حديقتين من أعناب، وأحطنا الحديقتين بنخل، وأنبتنا في الفارغ من مساحتهما زروعًا.
تفسير الجلالين:
 «واضرب» اجعل «لهم» للكفار مع المؤمنين «مثلاً رجلين» بدل وهو وما بعده تفسير للمثل «جعلنا لأحدهما» الكافر «جنتين» بستانين «من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا» يقتات به.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 32 و 33 :يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف.
فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب.
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل، فالعنب في وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل بها الثمار، وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا و أنها لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة.
وَكَانَ لَهُ أي: لذلك الرجل ثَمَرٌ أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33)

التفسير المختصر:
فأثمرت كل حديقة ثمارها من تمر وعنب وزرع، ولم تنقص منه شيئًا، بل أعطته وافيًا كاملًا، وأجرينا بينهما نهرًا لسقيهما بيسر.
تفسير الجلالين:
 «كلتا الجنتين» كلتا مفرد يدل على التثنية مبتدأ «آتت» خبره «أكلها» ثمرها «ولم تظلم» تنقص «منه شيئا» «وفجرنا» أي شقتنا «خلالهما نهرا» يجري بينهما.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 32 و 33 :يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف.
فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب.
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل، فالعنب في وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل بها الثمار، وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا و أنها لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة.
وَكَانَ لَهُ أي: لذلك الرجل ثَمَرٌ أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)

التفسير المختصر:
وكان لصاحب الحديقتين أموال وثمار أخرى، فقال لصاحبه المؤمن وهو يخاطبه ليؤثر فيه مُغْترًّا: أنا أكثر منك أموالًا، وأعز منك جانبًا، وأقوى عشيرة.
تفسير الجلالين:
 «وكان له» مع الجنتين «ثمر» بفتح الثاء والميم وبضمهما وبضم الأول وسكون الثاني وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب وبدنة وبدن «فقال لصاحبه» المؤمن «وهو يحاوره» يفاخره «أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا» عشيرة.
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، ف قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي: تنقطع وتضمحل هَذِهِ أَبَدًا فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي على ضرب المثل لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا(35)

التفسير المختصر:
ودخل الكافر حديقته في صحبة المؤمن ليريه إياها وهو ظالم لنفسه بالكفر وبالعُجْب، قال الكافر: ما أظنّ أن تفنى هذه الحديقة التي تشاهدها؛ لما اتخذت لها من أسباب البقاء.
تفسير الجلالين:
 «ودخل جنته» بصاحبه يطوف به فيها ويريه أثمارها ولم يقل جنتيه إرادة للروضة وقيل اكتفاء بالواحد «وهو ظالم لنفسه» بالكفر «قال ما أظن أن تبيد» تنعدم «هذه أبدا».
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، ف قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي: تنقطع وتضمحل هَذِهِ أَبَدًا فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي على ضرب المثل لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا(36)

التفسير المختصر:
وما أظن أن القيامة حادثة، إنما هي حياة مستمرة، وعلى فرض وقوعها فإذا بُعِثْت وأُرْجِعْت إلى ربي لأجدنّ بعد البعث ما أرجع إليه مما هو أفضل من حديقتي هذه، فكوني غنيًّا في الدنيا يقتضي أن أكون غنيًّا بعد البعث.
تفسير الجلالين:
 «وما أظن الساعة قائمة ولئن رُدِدت إلى ربي» في الآخرة على زعمك «لأجدن خيرا منها منقلبا» مرجعا.
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، ف قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي: تنقطع وتضمحل هَذِهِ أَبَدًا فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي على ضرب المثل لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا(37)

التفسير المختصر:
قال له صاحبه المؤمن وهو يراجعه الكلام: أكفرت بالذي خلق أباك آدم من تراب، ثم خلقك أنت من المنيّ، ثم صيّرك إنسانًا ذكرًا، وعدل أعضاءك وجعلك كاملًا، فالذي قدر على ذلك كله قادر على بعثك.
تفسير الجلالين:
 «قال له صاحبه وهو يحاوره» يجاوبه «أكفرت بالذي خلقك من تراب» لأن آدم خُلق منه «ثم نطقه» منيّ «ثم سواك» عدلك وصيرك «رجلاً».
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 37 و 38 :أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا، وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق.
ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا فأقر بربوبية لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين، ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:

لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا(38)

التفسير المختصر:
لكن أنا لا أقول بقولك هذا، وإنما أقول: هو الله سبحانه ربي المتفضل بنعمه علينا، ولا أشرك به أحدًا في العبادة.
تفسير الجلالين:
 «لكنا» أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون أو حذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها «هو» ضمير الشأن تفسره الجملة بعده والمعنى أنا أقول «الله ربي ولا أشرك بربي أحدا».
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 37 و 38 :أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا، وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق.
ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا فأقر بربوبية لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين، ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)

التفسير المختصر:
وهلَّا حين دخلت حديقتك قلت: ما شاء الله لا قوة لأحد إلا بالله، فهو الذي يفعل ما يشاء وهو القوي، فإن كنت تراني أفقر منك وأقلّ أولادًا.
تفسير الجلالين:
 (ولولا) هلا (إذ دخلت جنتك قلت) عند إعجابك بها هذا (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) وفي الحديث "" من أعطي خيرا من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه مكروها "" (إن ترن أنا) ضمير فصل بين المفعولين (أقل منك مالاً وولدا).
تفسير السعدي:
أي: قال للكافر صاحبه المؤمن: أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك، ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها المتنافسون.

فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا(40)

التفسير المختصر:
فأنا أتوقع أن يعطيني الله خيرًا من حديقتك، وأن يبعث على حديقتك عذابًا من السماء، فتصبح حديقتك أرضًا لا نبات فيها تزلق فيها الأقدام لمُلوسَتها.
تفسير الجلالين:
 «فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك» جواب الشرط «ويرسل عليها حسبانا» جمع حسبانة أي صواعق «من السماء فتصبح صعيدا زلقا» أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم.
تفسير السعدي:
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا أي: على جنتك التي طغيت بها وغرتك حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ أي: عذابا، بمطر عظيم أو غيره، فَتُصْبِحَ بسبب ذلك صَعِيدًا زَلَقًا أي: قد اقتلعت أشجارها، وتلفت ثمارها، وغرق زرعها، وزال نفعها.

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41)

التفسير المختصر:
أو يذهب ماؤها غائرًا في الأرض فلا تستطيع الوصول إليه بوسيلة، وإذا غار ماؤها فلا بقاء لها.
تفسير الجلالين:
 «أو يصبح ماؤها غورا» بمعنى غائرا عطف على يرسل دون تصبح لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق «فلن تستطيع له طلبا» حيلة تدركه بها.
تفسير السعدي:
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا الذي مادتها منه غَوْرًا أي: غائرا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا أي: غائرا لا يستطاع الوصول إليه بالمعاول ولا بغيرها، وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويبصر في أمره.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا(42)

التفسير المختصر:
وتَحَقَّق ما توقعه المؤمن، فأحاط الهلاك بثمار حديقة الكافر، فأصبح الكافر يقلب كفيه من شدة الحسرة والندم على ما بذل في عمارتها وإصلاحها من أموال، والحديقة ساقطة على دعائمها التي تُمَدَّد عليها أغصان العنب، ويقول: يا ليتني آمنت بربي وحده، ولم أشرك معه أحدًا في العبادة.
تفسير الجلالين:
 «وأحيط بثمره» بأوجه الضبط السابقة مع جنته بالهلاك فهلكت «فأصبح يقلب كفيه» ندما وتحسرا «على ما أنفق فيها» في عمارة جنته «وهي خاوية» ساقطة «على عروشها» دعائمها للكرم بأن سقطت ثم سقط الكرم «ويقول يا» للتنبيه «ليتني لم أشرك بربي أحدا».
تفسير السعدي:
فاستجاب الله دعاءه وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره، وثماره، وزرعه، فندم كل الندامة، واشتد لذلك أسفه، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم أيضا على شركه، وشره، ولهذا قال: وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا

وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا(43)

التفسير المختصر:
ولم تكن لهذا الكافر جماعة يمنعونه مما حلّ به من عقاب، وهو الذي كان يفتخر بجماعته، وما كان هو ممتنعًا من إهلاك الله لحديقته.
تفسير الجلالين:
 «ولم تكن» بالتاء والياء «له فئة» جماعة «ينصرونه من دون الله» عند هلاكها «وما كان منتصرا» عن هلاكها بنفسه.
تفسير السعدي:
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا أي: لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفس منتصرا، وكيف ينتصر، أي: يكون له أنصارا على قضاء الله وقدره الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه، لم يقدروا؟"ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه، أن صاحب هذه الجنة، التي أحيط بها، تحسنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا.
وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول.

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا(44)

التفسير المختصر:
في ذلك المقام النصرة لله وحده، هو سبحانه خيرٌ ثوابًا لأوليائه من المؤمنين، فهو يضاعف لهم الثواب، وخيرٌ عاقبةً لهم.
تفسير الجلالين:
 «هنالك» أي يوم القيامة «الولاية» بفتح الواو النصرة وبكسرها الملك «لله الحق» بالرفع صفة الولاية وبالجر صفة الجلالة «هو خير ثوابا» من ثواب غيره لو كان يثيب «وخير عقبا» بضم القاف وسكونها عاقبة للمؤمنين ونصبهما على التمييز.
تفسير السعدي:
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا أي: في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى، وآثر الحياة الدنيا، والكرامة لمن آمن، وعمل صالحا، وشكر الله، ودعا غيره لذلك، تبين وتوضح أن الولاية لله الحق، فمن كان مؤمنا به تقيا، كان له وليا، فأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه، خسر دينه ودنياه، فثوابه الدنيوي والأخروي، خير ثواب يرجى ويؤمل، ففي هذه القصة العظيمة، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلا، فإنه يحرمها طويلا، وأن العبد ينبغي له -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها، وأن يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه، لقوله: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وفيها: الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها، بما عند الله من الخير لقوله: إِنْ تَرَن أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وفيها أن المال والولد لا ينفعان، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا وفيه الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصا إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين، وفخر عليهم، وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم ف هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا أي: عاقبة ومآلا.

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا(45)

التفسير المختصر:
واضرب - أيها الرسول - للمُغْتَرِّين بالدنيا مثلًا، فمثلها في زوالها وسرعة انقضائها مثل ماء مطر أنزلناه من السماء، فنبت بهذا الماء نبات الأرض وأَيْنَع، فأصبح هذا النبات متكسرًا متفتتًا، تحمل الرياح أجزاءه إلى نواح أخرى، فتعود الأرض كما كانت، وكان الله على كلّ شيء مقتدرًا، لا يعجزه شيء، فيحيي ما شاء، ويفني ما شاء.
تفسير الجلالين:
 «واضرب» صير «لهم» لقومك «مثل الحياة الدنيا» مفعول أول «كماء» مفعول ثان «أنزلناه من السماء فاختلط به» تكاثف بسبب نزول الماء «نبات الأرض» أو امتزج الماء بالنبات فَرَوِيَ وَحَسُن «فأصبح» صار النبات «هشيما» يابسا متفرقة أجزاؤه «تذروه» تنثره وتفرقه «الرياح» فتذهب به، المعنى: شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرقته الرياح وفي قراءة الريح «وكان الله على كل شيء مقتدرا» قادرا.
تفسير السعدي:
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.
وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)

التفسير المختصر:
المال والأولاد مما يُتَزَيَّن به في الحياة الدنيا، ولا نفع للمال في الآخرة إلا إن أُنْفِق فيما يرضي الله، والأعمال والأقوال المرضية عند الله خير ثوابًا من كل ما في الدنيا من زينة، وهي خير ما يؤمله الإنسان؛ لأن زينة الدنيا فانية وثواب الأعمال والأقوال المرضية عند الله باق.
تفسير الجلالين:
 «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» يتجمل بها فيها «والباقيات الصالحات» هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر زاد بعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله «خير عند ربك ثوابا وخير أملاً» أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى.
تفسير السعدي:
أن المال والبنين، زينة الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره، الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا(47)

التفسير المختصر:
واذكر يوم نُزيل الجبال من مواطنها، وترى الأرض ظاهرة لزوال ما عليها من جبال وشجر وبناء، وجمعنا جميع المخلوقات، فلم نترك منهم أحدًا إلا بعثناه.
تفسير الجلالين:
 «و» اذكر «يوم تُسَيَّرُ الجبالُ» نذهب بها عن وجه الأرض فتصير هباء منبثا وفي قراءة بالنون وكسر الياء ونصب الجبال «وترى الأرض بارزة» ظاهرة ليس عليها شيء من جبل ولا غيره «وحشرناهم» المؤمنين والكافرين «فلم نغادر» نترك «منهم أحدا».
تفسير السعدي:
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من الأهوال المقلقة، والشدائد المزعجة فقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ أي: يزيلها عن أماكنها، يجعلها كثيبا، ثم يجعلها كالعهن المنفوش، ثم تضمحل وتتلاشى، وتكون هباء منبثا، وتبرز الأرض فتصير قاعا صفصفا، لا عوج فيه ولا أمتا، ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض، فلا يغادر منهم أحدا، بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وقعور البحار، ويجمعهم بعدما تفرقوا، ويعيدهم بعد ما تمزقوا، خلقا جديدا

وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا(48)

التفسير المختصر:
وعرض الناس على ربك صفوفًا فيحاسبهم، ويقال لهم: لقد جئتمونا فُرَادى حفاة عراة غُرْلًا كما خلقناكم أول مرة، بل زعمتم أنكم لن تبعثوا، وأنّا لن نجعل لكم زمانًا ومكانًا نجازيكم فيه على أعمالكم.
تفسير الجلالين:
 «وعرضوا على ربك صفا» حال أي مصطفين كل أمة صف ويقال لهم «لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة» أي فرادى حفاة عراة غُرْلاً ويقال لمنكري البعث «بل زعمتم أ» ن مخففة من الثقيلة أي أنه «لن نجعل لكم موعدا» للبعث.
تفسير السعدي:
فيعرضون عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم، ويحكم فيهم بحكمه العدل، الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أي: بلا مال، ولا أهل، ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال، التي عملوها، والمكاسب في الخير والشر، التي كسبوها كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ وقال هنا، مخاطبا للمنكرين للبعث، وقد شاهدوه عيانا: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا أي: أنكرتم الجزاء على الأعمال، ووعد الله ووعيده، فها قد رأيتموه وذقتموه

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)

التفسير المختصر:
وَوُضِع كتاب الأعمال، فمِنْ آخِذٍ كتابه بيمينه، ومن آخِذٍ إياه بشماله، وترى - أيها الإنسان - الكافرين خائفين مما فيه؛ لأنهم يعلمون ما قدموا فيه من الكفر والمعاصي، ويقولون: يا هلاكنا ومصيبتنا! ما لهذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا إلا حفظها وعدّها، ووجدوا ما عملوا في حياتهم الدنيا من المعاصي مكتوبًا مثبتًا، ولا يظلم ربك - أيها الرسول - أحدًا، فلا يعاقب أحدًا من غير ذنب، ولا ينقص المطيع من أجر طاعته شيئًا.
تفسير الجلالين:
 «ووضع الكتاب» كتاب كل امرئ في يمينه من المؤمنين وفي شماله من الكافرين «فترى المجرمين» الكافرين «مشفقين» خائفين «مما فيه ويقولن» عند معاينتهم ما فيه من السيئات «يا» للتنبيه «ويلتنا» هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة» من ذنوبنا «إلا أحصاها» عدها وأثبتها تعجبوا منه في ذلك «ووجدوا ما عملوا حاضرا» مثبتا في كتابهم «ولا يظلم ربك أحدا» لا يعاقبه بغير جرم ولا ينقص من ثواب مؤمن.
تفسير السعدي:
فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الكرام فتطير لها القلوب، وتعظم من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم، قالوا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا أي: لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة، إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية، ولا ليل ولا نهار، وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا لا يقدرون على إنكاره وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا فحينئذ يجازون بها، ويقررون بها، ويخزون، ويحق عليهم العذاب، ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد، بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا(50)

التفسير المختصر:
واذكر - أيها الرسول - إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تحية، فسجدوا كلهم له امتثالًا لأمر ربهم إلا إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة، فأبى واستكبر عن السجود، فخرج عن طاعة ربه، أفتتخذونه - أيها الناس - هو وأولاده أولياء توالونهم من دوني وهم أعداء لكم، فكيف تتخذون أعداءكم أولياء لكم؟! بئس وقبح صنيع الظالمين الذين جعلوا الشيطان وليًّا لهم بدلًا من موالاة الله تعالى.
تفسير الجلالين:
 «وإذ» منصوب باذكر «قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» سجود انحناء لا وضع جبهة تحية له «فسجدوا إلا إبليس كان من الجن» قيل هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل وقيل هو منقطع وإبليس هو أبو الجن فله ذرية ذكرت معه بعد والملائكة لا ذرية لهم «ففسق عن أمر ربه» أي خرج عن طاعته بترك السجود «أفتتخذونه وذريته» الخطاب لآدم وذريته والهاء في الموضعين لإبليس «أولياء من دوني» تطيعونهم «وهم لكم عدو» أي أعداء حال «بئس للظالمين بدلاً» إبليس وذريته في إطاعتهم بدل إطاعة الله.
تفسير السعدي:
يخبر تعالى، عن عداوة إبليس لآدم وذريته، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، إكراما وتعظيما، وامتثالا لأمر الله، فامتثلوا ذلك إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وقال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فتبين بهذا عداوته لله ولأبيكم ولكم، فكيف تتخذونه وذريته أي: الشياطين أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي: بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته.
وفي هذه الآية، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا، والإغراء بذلك، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم، وأي: ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه الحقيقي وليا، وترك الولي الحميد؟".
قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وقال تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

۞ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا(51)

التفسير المختصر:
هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني هم عبيد أمثالكم، ما أشهدتهم خلق السماوات ولا خلق الأرض حين خلقتهما، بل لم يكونوا موجودين، وما أشهدت بعضهم خلق بعض، فأنا المنفرد بالخلق والتدبير، وما كنت متخذ المضلين من شياطين الإنس والجن أعوانًا، فأنا غني عن الأعوان.
تفسير الجلالين:
 «ما أشهدتهم» أي إبليس وذريته «خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم» أي لم أحضر بعضهم خلق بعض «وما كنت متخذ المضلين» الشياطين «عضدا» أعوانا في الخلق، فكيف تطيعونهم.
تفسير السعدي:
يقول تعالى: ما أشهدت الشياطين [وهؤلاء المضلين]، خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي: ما أحضرتهم ذلك، ولا شاورتهم عليه، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير، هو الله، خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين، يوالون ويطاعون، كما يطاع الله، وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟! ولهذا قال: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون، أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم، فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا(52)

التفسير المختصر:
واذكر لهم - أيها الرسول - يوم القيامة إذ يقول الله للذين أشركوا به في الدنيا: ادعوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء لي لعلهم ينصرونكم، فدعوهم فلم يستجيبوا لدعائهم ولم ينصروهم، وجعلنا بين العابدين والمعبودين مَهْلكًا يشتركون فيه، وهو نار جهنم.
تفسير الجلالين:
 «ويوم» منصوب باذكر «يقول» بالياء والنون «نادوا شركاءي» الأوثان «الذين زعمتم» ليشفعوا لكم بزعمكم «فدعوهم فلم يستجيبوا لهم» لم يجيبوهم «وجعلنا بينهم» بين الأوثان وعابديها «موبقا» واديا من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا وهو من وبق بالفتح هلك.
تفسير السعدي:
ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال، وحكم بجهل صاحبه وسفهه، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة، وأن الله يقول لهم: نَادُوا شُرَكَائِيَ بزعمكم أي: على موجب زعمكم الفاسد، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء، أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لأن الحكم والملك يومئذ لله، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ أي: بين المشركين وشركائهم مَوْبِقًا أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم، وكفرهم بهم، وتبريهم منهم، كما قال تعالى وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا(53)

التفسير المختصر:
وعاين المشركون النار، فأيقنوا تمام اليقين أنهم واقعون فيها، ولم يجدوا عنها مكانًا ينصرفون إليه.
تفسير الجلالين:
 «ورأى المجرمون النار فظنوا» أي أيقنوا «أنهم مواقعوها» أي واقعون فيها «ولم يجدوا عنها مَصرفا» معدلاً.
تفسير السعدي:
أي: لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل، وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم، وحقت كلمة العذاب على المجرمين، فرأوا جهنم قبل دخولها، فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم مواقعوها، وهذا الظن قال المفسرون: إنه بمعنى اليقين، فأيقنوا أنهم داخلوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: معدلا يعدلون إليه، ولا شافع لهم من دون إذنه، وفي هذا من التخويف والترهيب، ما ترعد له الأفئدة والقلوب.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا(54)

التفسير المختصر:
ولقد بيّنا ونوّعنا في هذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الكثير من أنواع الأمثال ليتذكروا ويتّعظوا، لكن الإنسان - وخاصة الكافر - أكثر شيء يظهر منه المجادلة بغير الحق.
تفسير الجلالين:
 «ولقد صرفنا» بينا «في هذا القرآن للناس من كل مثل» صفة لمحذوف، أي مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا «وكان الإنسان» أي الكفار «أكثر شيء جدلاً» خصومة في الباطل وهو تمييز منقول من اسم كان، المعنى: وكان جدل الإنسان أكثر شيء فيه.
تفسير السعدي:
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صرف فيه من كل مثل، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينة، ونورا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ولهذا قال: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي: مجادلة ومنازعة فيه، مع أن ذلك، غير لائق بهم، ولا عدل منهم، والذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لقصور في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم، ولهذا قال:

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا(55)

التفسير المختصر:
وما حال بين الكفار المعاندين وبين الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، وما حال بينهم وبين طلب المغفرة من الله لذنوبهم نَقْص البيان، فقد ضُرِبت لهم الأمثلة في القرآن، وجاءتهم الحجج الواضحة، وإنما منعهم طلبهم - بتعَنُّت - إيقاع عذاب الأمم السابقة عليهم، ومعاينة العذاب الذي وعدوا به.
تفسير الجلالين:
 «وما منع الناس» أي كفار مكة «أن يؤمنوا» مفعول ثان «إذ جاءهم الهدى» القرآن «ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين» فاعل أي سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدر عليهم «أو يأتيهم العذاب قبلاً» مقابلة وعيناً، وهو القتل يوم بدر وفي قراءة بضمتين جمع قبيل أي أنواعا.
تفسير السعدي:
أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق، بين الهدى والضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان، عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا، عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم، ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(56)

التفسير المختصر:
وما نبعث من نبعث من رسلنا إلا مبشرين أهل الإيمان والطاعة، ومخوّفين أهل الكفر والعصيان، وليس لهم تسلّط على القلوب بحملها على الهداية، ويخاصم الذين كفروا بالله الرسل مع وضوح الدليل لهم؛ ليزيلوا بباطلهم الحق المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وصَيَّروا القرآن وما خُوِّفوا به أُضْحوكة وسخرية.
تفسير الجلالين:
 (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) للمؤمنين (ومنذرين) مخوفين للكافرين (ويجادل الذين كفروا بالباطل) بقولهم: "" أبعث الله بشرا رسولاً "" ونحوه (ليدحضوا به) ليبطلوا بجدالهم (الحق) القرآن (واتخذوا آياتي) أي القرآن (وما أنذروا) به من النار (هزوا) سخرية.
تفسير السعدي:
أي: لم نرسل الرسل عبثا، ولا ليتخذهم الناس أربابا، ولا ليدعوا إلى أنفسهم، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير، وينهون عن كل شر، ويبشرونهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والأجل، وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون، إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل مهما أمكنهم، وفي دحض الحق وإبطاله، واستهزءوا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ويظهر الحق على الباطل بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ومن حكمة الله ورحمته، أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق بالباطل، من أعظم الأسباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته، وتبين الباطل وفساده، فبضدها تتبين الأشياء.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57)

التفسير المختصر:
ولا أحد أشد ظلمًا ممن ذُكِّر بآيات ربه، فلم يَعْبأ بما فيها من وعيد بالعذاب، وأعرض عن الاتعاظ بها، ونسي ما قدّم في حياته الدنيا من الكفر والمعاصي ولم يتب منها، إنا جعلنا على قلوب من هذا وصفُهم أغطية تمنعها من فهم القرآن، وفي آذانهم صَمَمًا عنه، فلا يسمعونه سماع قبول، وإن تدعهم إلى الإيمان فلن يستجيبوا لما تدعوهم إليه أبدًا ما دامت على قلوبهم أغطية، وفي آذانهم صَمَم.
تفسير الجلالين:
 «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه» ما عمل من الكفر والمعاصي «إنا جعلنا على قلوبهم أكنَّة» أغطية «أن يفقهوه» أي من أن يفهموا القرآن أي فلا يفهمونه «وفي آذانهم وقرا» ثقلاً فلا يسمعونه «وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا» أي بالجعل المذكور «أبدا».
تفسير السعدي:
يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسى ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلما من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، وإن كان ظالما، فإنه أخف ظلما من هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك، ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه، حالة الشر مع علمه بها، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعتها، فليس في إمكانها الفقه الذي يصل إلى القلب، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أي: صمما يمنعهم من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة، فليس لهدايتهم سبيل، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما، وأما هؤلاء، الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه، أن يحال بينهم وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا(58)

التفسير المختصر:
ولئلا يَتَشَوَّف النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاجلة المكذبين به بالعذاب، قال الله له: وربك - أيها الرسول - الغفور لذنوب عباده التائبين، ذو الرحمة التي وسعت كل شيء، ومن رحمته أنه يمهل العصاة لعلهم يتوبون إليه، فلو أنه تعالى يعاقب هؤلاء المعرضين لعجّل لهم العذاب في الحياة الدنيا، لكنه حليم رحيم، أخّر عنهم العذاب ليتوبوا، بل لهم مكان وزمان محددان يجازون فيهما على كفرهم وإعراضهم إن لم يتوبوا، لن يجدوا من دونه ملجأً يلجؤون إليه.
تفسير الجلالين:
 «وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم» في الدنيا «بما كسبوا لعجل لهم العذاب» فيها «بل لهم موعد» وهو يوم القيامة «لن يجدوا من دونه موئلاً» ملجأ.
تفسير السعدي:
ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، فيتغمده برحمته، ويشمله بإحسانه، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب، لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها، وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: لهم موعد، يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه، ولا مندوحة لهم عنه، ولا ملجأ، ولا محيد عنه، وهذه سنته في الأولين والآخرين، أن لا يعاجلهم بالعقاب، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا، غفر لهم ورحمهم، وأزال عنهم العقاب، وإلا، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم، أنزل بهم بأسه

وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا(59)

التفسير المختصر:
وتلك القرى الكافرة القريبة منكم مثل قرى قوم هود وصالح وشعيب أهلكناهم حين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، وجعلنا لإهلاكهم وقتًا محددًا.
تفسير الجلالين:
 «وتلك القرى» أي أهلها كعاد وثمود وغيرهما «أهلكناهم لما ظلموا» كفروا «وجعلنا لمهلكهم» لإهلاكهم وفي قراءة بفتح الميم أي لهلاكهم «موعدا».
تفسير السعدي:
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أي: بظلمهم، لا بظلم منا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا أي: وقتا مقدرا، لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون.

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا(60)

التفسير المختصر:
واذكر - أيها الرسول - حين قال موسى عليه السلام لخادمه يوشع بن نون: لا أزال أسير حتى أصل ملتقى البحرين، أو أسير زمنًا طويلًا إلى أن ألقى العبد الصالح، فأتعلم منه.
تفسير الجلالين:
 «و» اذكر «إذ قال موسى» هو ابن عمران «لفتاهُ» يوشع بن نون كان يتبعه ويخدمه ويأخذ عنه العلم «لا أبرح» لا أزال أسير «حتى أبلغ مجمع البحرين» ملتقى بحر الروم وبحر فارس مما يلي المشرق أي المكان الجامع لذلك «أو أمضي حقبا» دهرا طويلاً في بلوغه إن بعد.
تفسير السعدي:
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك:- لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ْ أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه.

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا(61)

التفسير المختصر:
فسارا، فلما وصلا ملتقى البحرين نسيا سمكتهما التي اتخذاها زادًا لهما، فأحيا الله السمكة، واتخذت طريقًا في البحر مثل السِّرْداب، لا يلتئم الماء معه.
تفسير الجلالين:
 «فلما بلغا مجمع بينهما» بين البحرين «نسيا حوتهما» نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى تذكيره «فاتخذ» الحوت «سبيله في البحر» أي جعله بجعل الله «سربا» أي مثل السرب، وهو الشق الطويل لا نفاذ له، وذلك أن الله تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته منه.
تفسير السعدي:
فَلَمَّا بَلَغَا ْ أي: هو وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ْ وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات.
قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا.

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا(62)

التفسير المختصر:
فلما تعديا ذلك المكان، قال موسى عليه السلام لخادمه: آتنا طعام الغُدوة، لقد لقينا من سفرنا هذا تعبًا شديدًا.
تفسير الجلالين:
 «فلما جاوزا» ذلك المكان بالسير إلى وقت الغداء من ثاني يوم «قال» موسى «لفتاهُ آتينا غداءنا» هو ما يؤكل أول النهار «لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا» تعبا وحصوله بعد المجاوزة.
تفسير السعدي:
فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى، على وجود مطلبه، وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(63)

التفسير المختصر:
قال الغلام: أرأيت ما حصل حين التجأنا إلى الصخرة؟! فإني نسيت أن أذكر لك أمر الحوت، وما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان، فقد حَيِيَ الحوت، واتخذ له طريقًا في البحر يحمل على التعجب.
تفسير الجلالين:
 «قال أرأيت» أي تنبه «إذ أوينا إلى الصخرة» بذلك المكان «فإني نسيت الحوت وما أنسانيهُ إلا الشيطان» يبدل من الهاء «أن أذكره» بدل اشتمال أي أنساني ذكره «واتخذ» الحوت «سبيله في البحر عجبا» مفعول ثان، أي يتعجب منه موسى وفتاه لما تقدم في بيانه.
تفسير السعدي:
قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ْأي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ْ لأنه السبب في ذلك وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب.
قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر، فقال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ

قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا(64)

التفسير المختصر:
قال موسى عليه السلام لخادمه: ذلك ما كنا نريد، فهو علامة مكان العبد الصالح، فرجعا يتتبَّعان آثار أقدامهما؛ لئلا يضيعا عن الطريق حتى انتهيا إلى الصخرة، ومنها إلى مدخل الحوت.
تفسير الجلالين:
 «قال» موسى «ذلك» أي فقدنا الحوت «ما» أي الذي «كنا نبغ» نطلبه فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه «فارتدا» رجعا «على آثارهما» يقصانها «قصصا» فأتيا الصخرة.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 64 و 65 : ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ أي: نطلب فَارْتَدَّا ْ أي: رجعا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ْ أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله وَعَلَّمْنَاهُ ْ] مِنْ لَدُنَّا ْ [أي: من عندنا] عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا(65)

التفسير المختصر:
فلما وصلا مكان فَقْد الحوت وجدا عنده عبدًا من عبادنا الصالحين (وهو الخَضِر عليه السلام)، أعطيناه رحمة من عندنا، وعلّمناه من عندنا علمًا لا يطّلع عليه الناس، وهو ما تضمنته هذه القصة.
تفسير الجلالين:
 (فوجدا عبدا من عبادنا) هو الخضر (آتيناه رحمة من عندنا) نبوة في قول وولاية في آخر وعليه أكثر العلماء (وعلمناه من لدنا) من قبلنا (علما) مفعول ثان أي معلوما من المغيبات، روى البخاري حديث "" إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقد الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة ووضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر "" فاتخذ سبيله في البحر سربا "" وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغداة قال موسى لفتاه آتنا غداءنا إلى قوله واتخذ سبيله في البحر عجبا قال وكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا إلخ "".
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 64 و 65 : ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ أي: نطلب فَارْتَدَّا ْ أي: رجعا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ْ أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله وَعَلَّمْنَاهُ ْ] مِنْ لَدُنَّا ْ [أي: من عندنا] عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.

قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66)

التفسير المختصر:
قال له موسى في تواضع وتلطّف: هل أتّبعك على أن تعلّمني مما علمك الله من العلم ما هو رشاد إلى الحق؟
تفسير الجلالين:
 «قال له موسى هل أتَّبعك على أن تعلَّمن مما عُلمت رَشَداً» أي صواباً أرشد به وفي قراءة بضم الراء وسكون الشين وسأله ذلك لأن الزيارة في العلم مطلوبة.
تفسير السعدي:
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام

قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(67)

التفسير المختصر:
قال الخَضِر: إنك لن تُطِيق الصبر على ما تراه من علمي؛ لأنه لا يوافق ما لديك من علم.
تفسير الجلالين:
 «قال إنك لن تستطيع معي صبرا».
تفسير السعدي:
فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)

التفسير المختصر:
وكيف تصبر على ما ترى من الأفعال التي لا تعلم وجه الصواب فيها؛ لأنك تحكم فيها بمبلغ علمك؟!
تفسير الجلالين:
 (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) في الحديث السابق عقب هذه الآية "" يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من الله علمكه الله لا أعلمه، وقوله خبرا مصدر بمعنى لم تحط أي لم تخبر حقيقته.
تفسير السعدي:
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ أي: كيف تصبر على أمر،ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟

قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69)

التفسير المختصر:
قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرًا على ما أرى منك من أفعال، ملتزمًا بطاعتك، لا أعصي لك أمرًا أمرتني به.
تفسير الجلالين:
 «قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي» أي وغير عاص «لك أمرا» تأمرني به، وقيد بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين.
تفسير السعدي:
فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ْ وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر.

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(70)

التفسير المختصر:
قال الخَضِر لموسى: إن اتبعتني، فلا تسألني عن شيء مما تشاهدني أقوم به حتى أكون أنا البادئ بتبيين وجهه.
تفسير الجلالين:
 «قال فإن اتبعتني فلا تسألني» وفي قراءة بفتح اللام وتشديد النون «عن شيء» تنكره مني في علمك واصبر «حتى أحدث لك منه ذكرا» أي أذكره لك بعلته، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
تفسير السعدي:
فحينئذ قال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ْ أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(71)

التفسير المختصر:
فلما اتفقا على ذلك انطلقا إلى ساحل البحر حتى لقيا سفينة، فركبا فيها دون أجرةٍ تَكْرِمةً للخَضِر، فخرق الخَضِر السفينة بقَلْع لوح من ألواحها، فقال له موسى: أخرقت السفينة التي حملَنا أهلُها فيها بغير أجرة رجاء أن تُغْرِق أهلها؟! لقد أتيت أمرًا عظيمًا.
تفسير الجلالين:
 «فانطلقا» يمشيان على البحر «حتى إذا ركبا في السفينة» التي مرت بهما «خرقها» الخضر بأن اقتلع لوحا أو لوحين منها من جهة البحر بفأس لما بلغت اللجج «قال» له موسى «اخرقتها لتغرق أهلها» وفي قراءة بفتح التحتانية والراء ورفع أهلها «لقد جئت شيئا إمرا» أي عظيما منكرا روي أن الماء لم يدخلها.
تفسير السعدي:
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ْ أي: اقتلع الخضر منها لوحا، وكان له مقصود في ذلك، سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام، لأن ظاهره أنه منكر، لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها، ولهذا قال موسى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ْ أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(72)

التفسير المختصر:
قال الخَضِر لموسى: ألم أقل: إنك لن تطيق معي صبرًا على ما ترى مني؟!
تفسير الجلالين:
 «قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا».
تفسير السعدي:
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ أي: فوقع كما أخبرتك، وكان هذا من موسى نسيانا

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا(73)

التفسير المختصر:
قال موسى عليه السلام للخَضِر: لا تؤاخذني بسبب تركي لعهدك نسيانًا، ولا تضيّق عليّ وتُشَدِّد في صحبتك.
تفسير الجلالين:
 «قال لا تؤاخذني بما نسيت» أي غفلت عن التسليم لك وترك الانكار عليك «ولا ترهقني» تكلفني «من أمري عسرا» مشقة في صحبتي إياك أي عاملني فيها بالعفو واليسر.
تفسير السعدي:
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ْ أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة.
فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا(74)

التفسير المختصر:
فانطلقا بعد نزولهما من السفينة يمشيان على الساحل، فأبصرا غلامًا لم يبلغ الحلم يلعب مع غلمان، فقتله الخَضِر، فقال له موسى: أقتلت نفسًا طاهرة لم تبلغ الحلم دونما ذنب؟! لقد أتيت أمرًا مُنْكَرًا!
تفسير الجلالين:
 «فانطلقا» بعد خروجهما من السفينة يمشيان «حتى إذا لقيا غلاما» لم يبلغ الحنث يلعب مع الصبيان أحسنهم وجها «فقتله» الخضر بأن ذبحه بالسكين مضطجعا أو اقتلع رأسه بيده أو ضرب رأسه بالجدار، أقوال وأتى هنا بالفاء العاطفة لأن القتل عقب اللقاء وجواب إذا «قال» له موسى «أقتلت نفسا زاكية» أي طاهرة لم تبلغ حد التكليف وفي قراءة زكية بتشديد الياء بلا ألف «بغير نفس» أي لم تقتل نفسا «لقد جئت شيئا نكرا» بسكون الكاف وضمها أي منكرا.
تفسير السعدي:
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا ْ أي: صغيرا فَقَتَلَهُ ْ الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب.
قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحد؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر

۞ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(75)

التفسير المختصر:
قال الخَضِر لموسى عليه السلام: إني كنت قلت لك: إنك - يا موسى - لن تستطيع الصبر على ما أقوم به من أمر.
تفسير الجلالين:
 «قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» زاد لك على ما قبله لعدم العذر هنا.
تفسير السعدي:
فقال له الخضر معاتبا ومذكرا: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ

قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا(76)

التفسير المختصر:
قال موسى عليه السلام: إن سألت عن شيء بعد هذه المرة ففارقني، فقد وصلت إلى الغاية التي تُعْذَر فيها على ترك مصاحبتي؛ لكوني خالفت أمرك مرتين.
تفسير الجلالين:
 ولهذا «قال إن سألتك عن شيء بعدها» أي بعد هذه المرة «فلا تصاحبني» لا تتركني أتبعك «قد بلغت من لدني» بالتشديد والتخفيف من قبلي «عذرا» في مفارقتك لي.
تفسير السعدي:
فقال [له] موسى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ ْ بعد هذه المرة فَلَا تُصَاحِبْنِي ْ أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ْ أي: أعذرت مني، ولم تقصر.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77)

التفسير المختصر:
فسارا حتى إذا جاءا أهل قرية طلبا من أهلها طعامًا، فامتنع أهل القرية من إطعامهما، وتأدية حق الضيافة إليهما، فوجدا في القرية حائطًا مائلًا قارب أن يسقط وينهدم، فسوّاه الخَضِر حتى استقام، فقال موسى عليه السلام للخَضِر: لو شئت اتخاذ أجر على إصلاحه لاتخذته؛ لحاجتنا إليه بعد امتناعهم من ضيافتنا.
تفسير الجلالين:
 «فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية» هي أنطاكية «استطعما أهلها» طلبا منهم الطعام بضيافة «فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا» ارتفاعه مائة ذراع «يريد أن ينقضَّ» أي يقرب أن يسقط لميلانه «فأقامه» الخضر بيده «قال» له موسى «لو شئت لاتخذت» وفي قراءة لتخذت «عليه أجرا» جُعْلاً حيث لم يضيفونا مع حاجتنا إلى الطعام.
تفسير السعدي:
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ أي: قد عاب واستهدم فَأَقَامَهُ ْ الخضر أي: بناه وأعاده جديدا.
فقال له موسى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟.
فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه

قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(78)

التفسير المختصر:
قال الخَضِر لموسى: هذا الاعتراض على عدم أخذي أجرًا على إقامة الحائط هو محل الفراق بيني وبينك، سأخبرك بتفسير ما لم تستطع أن تصبر عليه مما شاهدتني قمت به.
تفسير الجلالين:
 «قال» له الخضر «هذا فراق» أي وقت فراق «بيني وبينك» فيه إضافة بين إلى غير متعدد سوغها تكريره بالعطف بالواو «سأُنبئك» قبل فراقي لك «بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا».
تفسير السعدي:
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ْ فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ أي: سأخبرك بما أنكرت عليَّ، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب، وما يئول إليه الأمر.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا(79)

التفسير المختصر:
أما السفينة التي أنكرت عليَّ خرقها؛ فكانت لضعفاء يعملون عليها في البحر لا يستطيعون الدفع عنها، فأردت أن تصير معيبة بما أحدثته فيها؛ حتى لا يستولي عليها ملك كان أمامهم يأخذ كل سفينة صالحة كرهًا من أصحابها، ويترك كل سفينة معيبة.
تفسير الجلالين:
 «أما السفينة فكانت لمساكين» عشرة «يعملون في البحر» بها مؤاجرة لها طلبا للكسب «فأردت أن أعيبها وكان وراءهم» إذا رجعوا أو أمامهم الآن «ملك» كافر «يأخذ كل سفينة» صالحة «غصبا» نصبه على المصدر المبين لنوع الأخذ.
تفسير السعدي:
أَمَّا السَّفِينَةُ ْ التي خرقتها فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم.
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ْ أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب، فتسلم من ذلك الظالم.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا(80)

التفسير المختصر:
وأما الغلام الذي أنكرت عليّ قتله فكان أبواه مؤمنَين، وكان هو في علم الله كافرًا، فخفنا إن بلغ أن يحملهما على الكفر بالله والطغيان من فرط محبتهما له، أو من فرط حاجتهما إليه.
تفسير الجلالين:
 «وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا» فإنه كما في حديث مسلم طبع كافرا ولو عاش لأرهقهما ذلك لمحبتهما له يتبعانه في ذلك.
تفسير السعدي:
وَأَمَّا الْغُلَامُ ْ الذي قتلته فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟" وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه

فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81)

التفسير المختصر:
فأردنا أن يعوّضهما الله ولدًا خيرًا منه دينًا وصلاحًا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمة بوالديه منه.
تفسير الجلالين:
 «فأردنا أن يبدِّلهما» بالتشديد والتخفيف «ربهما خيرا منه زكاة» أي صلاحا وتقى «وأقرب» منه «رحْما» بسكون الحاء وضمها رحمة وهي البرّ بوالديه فأبدلهما تعالى جارية تزوجت نبيا فولدت نبيا فهدى الله تعالى به أمة.
تفسير السعدي:
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ْ أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82)

التفسير المختصر:
وأما الحائط الذي أصلحته وأنكرت عليّ إصلاحه فكان لصغيرين في المدينة التي جئناها قد مات أبوهما، وكان تحت الحائط مال مدفون لهما، وكان أبو هذين الصغيرين صالحًا، فأراد ربك - يا موسى - أن يبلغا سن الرشد ويكبرا، ويخرجا مالهما المدفون من تحته؛ إذ لو سقط الحائط الآن لانكشف مالهما وتعرّض للضياع، وكان هذا التدبير رحمة من ربك بهما، وما فعلته من اجتهادي؛ ذلك تفسير ما لم تستطع الصبر عليه.
تفسير الجلالين:
 «وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز» مال مدفون من ذهب وفضة «لهما وكان أبوهما صالحا» فحفظا بصلاحه في أنفسهما ومالهما «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما» أي إيناس رشدهما «ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك» مفعول له عامله أراد «وما فعلته» أي ما ذكر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار «عن أمري» أي اختباري بل بأمر إلهام من الله «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، ففي هذا وما قبله جمع بين اللغتين ونوعت العبارة في: فأردت، فأردنا فأراد ربك.
تفسير السعدي:
وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ الذي أقمته فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما.
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ أي: أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره.
ذَلِكَ ْ الذي فسرته لك تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله.
فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْوكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: آتِنَا غَدَاءَنَا ْ إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفرعلى الحقيقة.
وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه آتِنَا غَدَاءَنَا ْ فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْومنها: أن العلم الذي يعلمه الله [لعباده] نوعان:علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده.
ونوع علم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه.
فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن العلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْومنها: أن العزم على فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسى قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه خير، فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها، داخل في هذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم.
فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْومنها: أن القتل قصاصا غير منكر لقوله بِغَيْرِ نَفْسٍ ْومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ كما قال إبراهيم عليه السلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ وقالت الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا(83)

التفسير المختصر:
ويسألك - أيها الرسول - المشركون واليهود مُمْتحِنين عن خبر صاحب القرنين، قل: سأتلو عليكم من خبره جزءًا تعتبرون به وتتذكرون.
تفسير الجلالين:
 «ويسألونك» أي اليهود «عن ذي القرنين» اسمه الاسكندر ولم يكن نبيا «قل سأتلو» سأقص «عليكم منه» من حاله «ذكرا» خبرا.
تفسير السعدي:
كان أهل الكتاب أو المشركون، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين، فأمره الله أن يقول: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ْ فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب.
أي: سأتلوا عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)

التفسير المختصر:
إنا مَكَّنا له في الأرض، وأعطيناه من كل شيء يتعلق به مطلوبُه طريقًا يتوصل به إلى مراده.
تفسير الجلالين:
 «إنا مكنا له في الأرض» بتسهيل السير فيها «وآتيناه من كل شيء» يحتاج إليه «سببا» طريقا يوصله إلى مراده.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 84 و 85 : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ْ أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له.
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.

فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)

التفسير المختصر:
فأخذ بما أعطيناه من الوسائل والطرق للتوصل إلى مطلوبه، فاتجه غربًا.
تفسير الجلالين:
 «فأتبع سببا» سلك طريقا نحو الغرب.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 84 و 85 : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ْ أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له.
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(86)

التفسير المختصر:
وسار في الأرض حتى إذا وصل إلى نهاية الأرض من جهة مغرب الشمس - في مرأى العين - رآها كأنها تغرب في عين حارة ذات طين أسود، ووجد عند مغرب الشمس قومًا كفارًا، قلنا له على سبيل التخيير: يا صاحب القرنين، إما أن تُعَذِّب هؤلاء بالقتل أو بغيره، وإما أن تُحْسِن إليهم.
تفسير الجلالين:
 «حتى إذا بلغ مغرب الشمس» موضع غروبها «وجدها تغرب في عين حمئة» ذات حمأة وهي الطين الأسود وغروبها في العين في رأي وإلا فهي أعظم من الدنيا «ووجد عندها» أي العين «قوما» كافرين «قلنا يا ذا القرنين» بإلهام «إما أن تُعذّب» القوم بالقتل «وإما أن تتخذ فيهم حُسنا» بالأسر.
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما.
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ بالكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.

قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(87)

التفسير المختصر:
قال صاحب القرنين: أما من أشرك بالله وأصرّ على ذلك بعد دعوتنا له إلى عبادة الله فسنعاقبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه يوم القيامة فيعذّبه عذابًا فظيعًا.
تفسير الجلالين:
 «قال أما من ظلم» بالشرك «فسوف نعذبه» نقتله «ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا» بسكون الكاف وضمها شديدا في النار.
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما.
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ بالكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.

وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88)

التفسير المختصر:
وأما من آمن منهم بالله وعمل عملًا صالحًا فله الجنة؛ جزاءً من ربه على إيمانه وعمله الصالح، وسنقول له من أمرنا ما فيه رفق ولين.
تفسير الجلالين:
 «وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى» أي الجنة والإضافة للبيان وفي قراءة بنصب جزاء وتنوينه قال الفراء: ونصبه على التفسير أي لجهة النسبة «وسنقول له من أمرنا يُسرا» أي نأمره بما سهل عليه.
تفسير السعدي:
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما.
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ بالكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89)

التفسير المختصر:
ثم اتبع طريقًا غير طريقه الأولى متجهًا إلى جهة شروق الشمس.
تفسير الجلالين:
 «ثم أتبع سببا» نحو المشرق.
تفسير السعدي:
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس ف وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ْ أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به ولهذا قال كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبَرًا ْ أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار.

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(90)

التفسير المختصر:
وسار حتى إذا وصل إلى جهة مطلع الشمس - في مرأى العين - وجد الشمس تطلع على أقوام لم نجعل لهم من دون الشمس ما يقيهم من البيوت ومن ظلال الأشجار.
تفسير الجلالين:
 «حتى إذا بلغ مطلع الشمس» موضع طلوعها «وجدها تطلع على قوم» هم الزنج «لم نجعل لهم من دونها» أي الشمس «سترا» من لباس ولا سقف، لأن أرضهم لا تحمل بناء ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس ويظهرون عند ارتفاعها.
تفسير السعدي:
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس ف وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ْ أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به ولهذا قال

كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91)

التفسير المختصر:
كذلك أمْر صاحب القرنين، وقد أحاط علمنا بتفاصيل ما لديه من القوة والسلطان.
تفسير الجلالين:
 «كذلك» أي الأمر كما قلنا «وقد أحطنا بما لديه» أي عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما «خبرا» علما.
تفسير السعدي:
( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(92)

التفسير المختصر:
ثم اتبع طريقًا غير الطريقين الأوليين معترضًا بين المشرق والمغرب.
تفسير الجلالين:
 «ثم أتبع سببا».
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 92 و 93 : ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ْ قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا(93)

التفسير المختصر:
وسار حتى وصل ثغرة بين جبلين فوجد من قِبَلِهما قومًا لا يكادون يفهمون كلام غيرهم.
تفسير الجلالين:
 «حتى إذا بلغ بين السدين» بفتح السين وضمها هنا وبعدهما جبلان بمنقطع بلاد الترك، سد الإسكندر ما بينهما كما سيأتي «وجد من دونهما» أي أمامهما «قوما لا يكادون يفقهون قولاً» أي لا يفهمونه إلا بعد بطء، وفي قراءة بضم الياء وكسر القاف.
تفسير السعدي:
تفسير الآيتين 92 و 93 : ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ْ قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)

التفسير المختصر:
قالوا: يا ذا القرنين، إن يأجوج ومأجوج (يعنون أمتين عظيمتين من بني آدم) مفسدون في الأرض بما يقومون به من القتل وغيره، فهل نجعل لك مالًا على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزًا؟
تفسير الجلالين:
 «قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج» بالهمز وتركه: هما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا «مفسدون في الأرض» بالنهب والبغي عند خروجهم إلينا «فهل نجعل لك خرجا» جعلاً من المال وفي قراءة خراجا «على أن تجعل بيننا وبينهم سداً» حاجزا فلا يصلون إلينا.
تفسير السعدي:
إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ْ أي جعلا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ْ ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)

التفسير المختصر:
قال ذو القرنين: ما رزقنيه ربي من الملك والسلطان خير لي مما تعطونني من مال، فأعينوني برجال وآلات أجعل بينكم وبينهم حاجزًا.
تفسير الجلالين:
 «قال ما مكَّني» وفي قراءة بنونين من غير إدغام «فيه رب» من المال وغيره «خير» من خرجكم الذي تجعلونه لي فلا حاجة بي إليه وأجعل لكم السد تبرعا «فأعينوني بقوة» لما أطلبه منكم «أجعل بينكم وبينهم رَدما» حاجزا حصينا.
تفسير السعدي:
فقال لهم: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ْ أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ْ أي: مانعا من عبورهم عليكم.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)

التفسير المختصر:
أحْضِروا قِطَع الحديد، فأحضروها فطفق يبني بها بين الجبلين، حتى إذا ساواهما ببنائه قال للعمال: أشعلوا النار على هذه القطع، حتى إذا احمرت قطع الحديد قال: أحضروا نحاسًا أصبّه عليه.
تفسير الجلالين:
 «آتوني زبر الحديد» قطعه على قدر الحجارة التي يبني بها فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم «حتى إذا ساوى بين الصدفين» بضم الحرفين وفتحهما وضم الأول وسكون الثاني، أي جانبي الجبلين بالبناء ووضع المنافخ والنار حول ذلك «قال انفخوا» فنفخوا «حتى إذا جعله» أي الحديد «نارا» أي كالنار «قال آتوني أفرغ عليه قِطرا» هو النحاس المذاب تنازع فيه الفعلان، وحذف من الأول لإعمال الثاني النحاس المذاب على الحديد المحمى فدخل بين زبره فصارا شيئا واحدا.
تفسير السعدي:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ْ أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك.
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ْ أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد قَالَ انْفُخُوا ْ النار أي: أوقدوها إيقادا عظيما، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ْ أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا، وامتنع من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج.

فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)

التفسير المختصر:
فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوَا عليه لارتفاعه، وما استطاعوا أن يثقبوه من أسفله لصلابته.
تفسير الجلالين:
 «فما اسطاعوا» أي يأجوج ومأجوج «أن يظهروه» يعلوا ظهره لارتفاعه وملاسته «وما استطاعوا له نقبا» لصلابته وسمكه.
تفسير السعدي:
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ْ أي: فما لهم استطاعة، ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته.

قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98)

التفسير المختصر:
قال ذو القرنين: هذا السد رحمة من ربي يحول بين يأجوج ومأجوج وبين الإفساد في الأرض، ويمنعهم منه، فإذا جاء الوقت الذي حدده الله لخروجهم قبل قيام الساعة صَيَّره مستويًا بالأرض، وكان وعد الله بتسويته بالأرض وبخروج يأجوج ومأجوج ثابتًا لا خُلْف فيه.
تفسير الجلالين:
 «قال» ذو القرنين «هذا» أي السد، أي الإقدار عليه «رحمة من ربي» نعمة لأنه مانع من خروجهم «فإذا جاء وعد ربي» بخروجهم القريب من البعث «جعله دكاء» مدكوكا مبسوطا «وكان وعد ربي» بخروجهم وغيره «حقا» كائنا قال تعالى:
تفسير السعدي:
فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ْ أي: من فضله وإحسانه عليَّ، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ْ بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرا وبطرا.
كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ْوقوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ْ أي: لخروج يأجوج ومأجوج جَعَلَهُ ْ أي: ذلك السد المحكم المتقن دَكَّاءَ ْ أي: دكه فانهدم، واستوى هو والأرض وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ْ

۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا(99)

التفسير المختصر:
وتركنا بعض الخلق آخر الزمان يضطربون ويختلطون ببعض، ونُفِخ في الصور فجمعنا الخلق كله للحساب والجزاء.
تفسير الجلالين:
 «وتركنا بعضهم يومئذ» يوم خروجهم «يموج في بعض» يختلط به لكثرتهم «ونفخ في الصور» أي القرن للبعث «فجمعناهم» أي الخلائق في مكان واحد يوم القيامة «جمعا».
تفسير السعدي:
يحتمل أن الضمير، يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس -من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها- يموج بعضهم ببعض، كما قال تعالى حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ْ ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض، من الأهوال والزلازل العظام، بدليل قوله: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ْ أي: إذا نفخ إسرافيل في الصور، أعاد الله الأرواح إلى الأجساد، ثم حشرهم وجمعهم لموقف القيامة، الأولين منهم والأخرين، والكافرين والمؤمنين، ليسألوا ويحاسبوا ويجزون بأعمالهم، فأما الكافرون -على اختلافهم- فإن جهنم جزاؤهم، خالدين فيها أبدا.

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا(100)

التفسير المختصر:
وأظهرنا جهنم للكافرين إظهارًا لا لبس معه ليشاهدوها عيانًا.
تفسير الجلالين:
 «وعرضنا» قربنا «جهنم يومئذ للكافرين عرضا».
تفسير السعدي:
كما قال تعالى: وبرزت الجحيم للغاوين ْ أي: عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم، وليتمتعوا بأغلالها وسعيرها، وحميمها، وزمهريرها، وليذوقوا من العقاب، ما تبكم له القلوب، وتصم الآذان، وهذا آثار أعمالهم، وجزاء أفعالهم، فإنهم في الدنيا .

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا(101)

التفسير المختصر:
أظهرناها للكافرين الذين كانوا في الدنيا عميًا عن ذكر الله؛ لما على أعينهم من حجاب مانع من ذلك، وكانوا لا يستطيعون سمع آيات الله سماع قبول.
تفسير الجلالين:
 «الذين كانت أعينهم» بدل من الكافرين «في غطاء عن ذكري» أي القرآن فهم عمي لا يهتدون به «وكانوا لا يستطيعون سمعا» أي لا يقدرون أن يسمعوا من النبي ما يتلو عليهم بغضا له فلا يؤمنون به.
تفسير السعدي:
أي: معرضين عن الذكر الحكيم، والقرآن الكريم، وقالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات الله النافعة، كما قال تعالى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌوَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أي: لا يقدرون على سمع آيات الله الموصلة إلى الإيمان، لبغضهم القرآن والرسول، فإن المبغض لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه، فإذا انحجبت عنهم طرق العلم والخير، فليس لهم سمع ولا بصر، ولا عقل نافع فقد كفروا بالله وجحدوا آياته، وكذبوا رسله، فاستحقوا جهنم، وساءت مصيرا.

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا(102)

التفسير المختصر:
أفظنّ الذين كفروا بالله أن يجعلوا عبادي من ملائكة ورسل وشياطين معبودين من دوني؟! إنا هيأنا جهنم للكافرين منزلًا لإقامتهم.
تفسير الجلالين:
 «أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي» أي ملائكتي وعيسى وعزيرا «من دوني أولياء» أربابا مفعول ثان ليتخذوا والمفعول الثاني لحسب محذوف المعنى أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا «إنا أعتدنا جهنم للكافرين» هؤلاء وغيرهم «نُزلاً» أي هي معدة لهم كالمنزل المعد للضيف.
تفسير السعدي:
وهذا برهان وبيان، لبطلان دعوى المشركين الكافرين، الذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء، شركاء لله يعبدونهم، ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء، ينجونهم من عذاب الله، وينيلونهم ثوابه، وهم قد كفروا بالله وبرسله.
يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار المتقرر بطلانه في العقول: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ْ أي: لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله معاديا لله أبدا، فإن الأولياء موافقون لله في محبته ورضاه، وسخطه وبغضه، فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ْفمن زعم أنه يتخذ ولي الله وليا له، وهو معاد لله، فهو كاذب، ويحتمل -وهو الظاهر- أن المعنى: أفحسب الكفار بالله، المنابذون لرسله، أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم، وينفعونهم من دون الله، ويدفعون عنهم الأذى؟ هذا حسبان باطل، وظن فاسد، فإن جميع المخلوقين، ليس بيدهم من النفع والضر، شيء، ويكون هذا، كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ْ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ْ ونحو ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها، أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه، ضال خائب الرجاء، غير نائل لبعض مقصوده.
إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ْ أي ضيافة وقرى، فبئس النزل نزلهم، وبئست جهنم، ضيافتهم.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)

التفسير المختصر:
قل - أيها الرسول -: هل نخبركم - أيها الناس - بأعظم الناس خسرانًا لعمله؟
تفسير الجلالين:
 «قل هل ننبِّئكم بالأخسرين أعمالاً» تمييز طابق المميز، وبيَّنهم بقوله:
تفسير السعدي:
أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)

التفسير المختصر:
الذين يرون يوم القيامة أن سعيهم الذي كانوا يسعونه في الدنيا قد ضاع، وهم يظنون أنهم محسنون في سعيهم، وسينتفعون بأعمالهم، والواقع خلاف ذلك.
تفسير الجلالين:
 «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا» بطل عملهم «وهم يحسبون» يظنون «أنهم يحسنون صنعا» عملاً يجازون عليه.
تفسير السعدي:
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة، وأنها محادة لله ورسله ومعاداة؟" فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم،ف فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين ْ

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)

التفسير المختصر:
أولئك هم الذين كفروا بآيات ربهم الدالة على توحيده، وكفروا بلقائه، فبطلت أعمالهم لكفرهم بها، فلا يكون لهم يوم القيامة قدر عند الله.
تفسير الجلالين:
 «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم» بدلائل توحيده من القرآن وغيره «ولقائه» أي وبالبعث والحساب والثواب والعقاب «فحبطت أعمالهم» بطلت «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» أي لا نجعل لهم قدرا.
تفسير السعدي:
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ْ أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية، الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.
فَحَبِطَتْ ْ بسبب ذلك أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ْ لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها، وهو الإيمان، كما قال تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ْ لكن تعد أعمالهم وتحصى، ويقررون بها، ويخزون بها على رءوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها

ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا(106)

التفسير المختصر:
ذلك الجزاء المُعَدّ لهم هو جهنم؛ لكفرهم بالله، واتخاذهم آياتي المنزلة ورسلي سخرية.
تفسير الجلالين:
 «ذلك» أي الأمر الذي ذكرت عن حُبوط أعمالهم وغيره مبتدأ خبره «جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا» أي مهزوءا بهما.
تفسير السعدي:
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ْ أي: حبوط أعمالهم، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة، وَزْنًا ْ لحقارتهم وخستهم، بكفرهم بآيات الله، واتخاذهم آياته ورسله، هزوا يستهزئون بها، ويسخرون منها، مع أن الواجب في آيات الله ورسله، الإيمان التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام، وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم، وتعسوا، وانتكسوا في العذاب.
ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم، بين أعمال المؤمنين ومآلهم

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا(107)

التفسير المختصر:
إن الذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحات كانت لهم أعلى الجنان منزلًا لإكرامهم.
تفسير الجلالين:
 «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم» في علم الله «جناتُ الفردوس» هو وسط الجنة وأعلاها والإضافة إليه للبيان «نُزُلاً» منزلاً.
تفسير السعدي:
أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، وشمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، وأعماله، أصوله، وفروعه الظاهرة، والباطنة، فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -لهم جنات الفردوس.
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس، أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها، جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه، ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس، ولأن الفردوس يطلق على البستان، المحتوي على الكرم، أو الأشجار الملتفة، وهذا صادق على جميع الجنة، فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وأي: ضيافة أجل وأكبر، وأعظم من هذه الضيافة، المحتوية على كل نعيم، للقلوب، والأرواح، والأبدان، وفيها ما تشتهيه الأنفس.
وتلذ الأعين، من المنازل الأنيقة، والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة،.
والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية، والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة، والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة، وأعلى ذلك وأفضله وأجله، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه، الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم، وسماع كلام الرءوف الرحيم، فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها"، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق، ولساروا إليها زرافات ووحدانا، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية، ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة، ولكن الغفلة شملت، والإيمان ضعف، والعلم قل، والإرادة نفذت فكان، ما كان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا(108)

التفسير المختصر:
ماكثين فيها أبدًا، لا يطلبون عنها تحوّلًا؛ لأنها لا يدانيها جزاء.
تفسير الجلالين:
 «خالدين فيها لا يبغون» يطلبون «عنها حولاً» تحولاً إلى غيرها.
تفسير السعدي:
خَالِدِينَ فِيهَا ْ هذا هو تمام النعيم، إن فيها النعيم الكامل، ومن تمامه أنه لا ينقطع لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ْ أي: تحولا ولا انتقالا، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)

التفسير المختصر:
قل - أيها الرسول -: إن كلمات ربي كثيرة، فلو كان البحر حِبْرًا لها تكتب به لانتهى ماء البحر قبل أن تنتهي كلماته سبحانه، ولو أتينا ببحور أخرى لنفدت أيضًا.
تفسير الجلالين:
 «قل لو كان البحر» أي ماؤه «مدادا» هو ما يكتب به «لكلمات ربي» الدالة على حكمه وعجائبه بأن تكتب به «لنفد البحر» في كتابتها «قبل أن تنفد» بالتاء والياء: تفرغ «كلمات ربي ولو جئنا بمثله» أي البحر «مَدَدا» زيادة فيه لنفد، ولم تفرغ هي، ونصبه على التمييز.
تفسير السعدي:
أي: قل لهم مخبرا عن عظمة الباري، وسعة صفاته، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ ْ أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ْ أي: وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام، لَنَفِدَ الْبَحْرُ ْ وتكسرت الأقلام قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ْ وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد.
وفي الآية الأخرى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ْ وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله تعالى، كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته، فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)

التفسير المختصر:
قل - أيها الرسول -: إنما أنا بشر مثلكم، يُوحَى إليّ أنّ معبودكم بحق معبود واحد لا شريك له، وهو الله، فمن كان يخاف لقاء ربه فليعمل عملًا موافقًا لشرعه، مخلصًا فيه لربه، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا.
تفسير الجلالين:
 «قل إنما أنا بشر» آدمي «مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد» أن المكفوفة بما باقية على مصدريتها والمعنى: يوحى إليَّ وحدانية الإله «فمن كان يرجو» يأمل «لقاء ربه» بالبعث والجزاء «فليعمل عملاً صالحا ولا يشرك بعبادة ربه» أي فيها بأن يرائي «أحدا».
تفسير السعدي:
أي: قُلْ ْ يا محمد للكفار وغيرهم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك، ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ عبد من عبيد ربي، يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه الله إلي، الذي أجله الإخبار لكم: أنما إلهكم إله واحد، أي: لا شريك له، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه، وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه.
ولهذا قال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ْ وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ْ أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب، وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.
آخر تفسير سورة الكهف، ولله الحمد.


الجلالين&الميسر تفسير ابن كثير تفسير القرطبي
التفسير المختصر تفسير الطبري تفسير السعدي
Al-Kahf إعراب الكهف تفسير الشوكاني

تفسير المزيد من سور القرآن الكريم :

تفسير البقرة آل عمران تفسير النساء
تفسير المائدة تفسير يوسف تفسير ابراهيم
تفسير الحجر تفسير الكهف تفسير مريم
تفسير الحج تفسير القصص العنكبوت
تفسير السجدة تفسير يس تفسير الدخان
تفسير الفتح تفسير الحجرات تفسير ق
تفسير النجم تفسير الرحمن تفسير الواقعة
تفسير الحشر تفسير الملك تفسير الحاقة
تفسير الانشقاق تفسير الأعلى تفسير الغاشية

تحميل سورة الكهف بصوت أشهر القراء :

سورة الكهف  بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة الكهف  بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة الكهف  بصوت سعود الشريم
سعود الشريم
سورة الكهف  بصوت عبد الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة الكهف  بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة الكهف  بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة الكهف  بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة الكهف  بصوت الحصري
الحصري
سورة الكهف  بصوت العفاسي
مشاري العفاسي
سورة الكهف  بصوت ياسر الدوسري
ياسر الدوسري


لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب