آخر وطأة وطئها الرحمن بوج

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله تعالى أن يفتح علينا أبواب فهم سنّة نبيه ﷺ.
هذا حديثٌ شريف رواه الإمام أحمد في مسنده، وسنقوم بشرحه شرحاً وافياً على النحو التالي:
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (ح 16910)، وأبو يعلى في مسنده (ح 7296)، والطبراني في المعجم الكبير، عن الصحابي الجليل يعلى بن مرة العامري رضي الله عنه. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم 1997).
### ثانياً. شرح مفردات الحديث
● يستبقان: أي يتسارعان ويتسابقان للوصول إلى النبي ﷺ.
● ضمهما إليه: أي جمعَهما بين ذراعيه وقربهما إلى صدره الشريف تعبيراً عن الحب والحنان.
● مبخلة: من البخل، أي تمنع الإنسان من بذل المال في سبيل الله خشية الحاجة لأولاده.
● مجبنة: من الجبن، أي تمنع الإنسان من الجهاد والشجاعة في سبيل الله خوفاً على نفسه من الموت وترك الأولاد بلا عائل.
● آخر وطأة وطئها الرحمن: "الوطأة" هنا كناية عن الجماع، والمراد آخر جماع جامعه الرجل زوجته التي نتج عنها الحمل. و"الرحمن" هو الله تعالى، والكلام مضاف إلى الله تعالى على سبيل التشريف والتعظيم، أي أن هذه العلاقة الزوجية تمت بحول الله وقوته وإرادته.
● بوج: أي بولد ذكر. وقيل هي كلمة تعني الولد الذكر، وهي من مصطلحات العرب.
### ثالثاً. شرح الحديث الشريف
يصف لنا الصحابي يعلى العامري رضي الله عنه مشهداً رقيقاً من مشاهد حب النبي ﷺ لحفيديه الحسن والحسين رضي الله عنهما، حيث كانا يتسابقان للوصول إليه، فاحتضنهما النبي ﷺ وقربهما إليه.
ثم قال النبي ﷺ جملة تحمل حكمة عميقة عن طبيعة العلاقة بين الأب وأولاده: "إن الولد مبخلة مجبنة". أي أن الولد قد يكون سبباً في أن يصبح الأب بخيلاً؛ لأنه يخشى أن ينفق ماله في الخير فيفتقر ولا يستطيع توفير حاجات أولاده. وقد يكون سبباً في أن يصبح الأب جباناً؛ لأنه يخاف الموت في المعارك فيترك الجهاد، خشية أن يُقتل ويُترك أولاده بلا عائل وراعي.
ثم بيّن النبي ﷺ أن هذه المشاعر الطبيعية لا يجب أن تدفع الإنسان إلى ترك الواجبات، بل عليه أن يتوكل على الله، ويذكر أن الرزق بيد الله، والأجل بيد الله. ثم ختم ﷺ بكلمة فيها تسلية وتذكير بالله: "وإن آخر وطأة وطئها الرحمن بوج". أي أن هذا الولد الذي تخاف عليه وتشفق عليه، هو نتاج آخر جماع مع زوجتك، وهو هبة من الله تعالى ومنته ونعمته عليك. فالله هو الذي منحك هذا الولد، وهو قادر على أن يحفظه ويرزقه ويحفظك له.
### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- جواز المداعبة واللعب مع الأطفال وإظهار المحبة لهم، كما فعل النبي ﷺ مع حفيديه. وهذا من كمال خلقه ﷺ ورحمته بالصغار.
2- الاعتراف بالمشاعر الإنسانية الطبيعية كالخوف على الأولاد والحزن لفراقهم، ولكن دون أن تتحكم هذه المشاعر في قرارات الإنسان فتجعله يقصّر في واجباته تجاه ربه.
3- الحث على التوكل على الله حق التوكل، واليقين بأن الرزق والحياة والموت بيد الله وحده. فالمؤمن يجاهد وينفق ويبذل معتمداً على الله، موقناً أن الله هو الحافظ لأولاده من بعده.
4- تذكير الإنسان بنعمة الله عليه في وجود الأولاد، وأنهم هبة وعطاء منه سبحانه، مما يدفع إلى شكر الله تعالى على هذه النعمة وتربيتهم التربية الصالحة.
5- بيان عناية الإسلام بالأسرة والذرية، وحرصه على بناء مجتمع قوي، يكون الأب فيه شجاعاً كريماً لا تمنعه عواطفه الأبوية عن أداء واجباته الكبرى towards دينه وأمته.

---

خامساً:

معلومات إضافية
- هذا الحديث لا يعني ذمّ الأولاد، بل هو بيان لأثرهم الطبيعي على نفس الأب، وتحذير من أن يسيطر هذا الأثر على قراراته فيتقاعس عن الواجبات.
- جاءت نصوص أخرى تمدح الأولاد وتدعو إلى التكاثر، مثل قوله ﷺ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ». فهذا الحديث مكمل لتلك النصوص، وليس متناقضاً معها.
- يستفاد منه أيضاً تربية الأولاد على الشجاعة والكرم، حتى لا يكونوا هم أنفسهم سبباً في جبن أو بخل آبائهم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا فهم سنة نبيه ﷺ والعمل بها، وأن يجعل ذرياتنا قرة أعين لنا، ويعيننا على تربيتهم التربية الإسلامية الصالحة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.