خلق الملائكة من النور والجان من النار

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن ينفعنا بما ندرس من سنة نبيه ﷺ.
هذا حديث عظيم يذكر أصل خلق ثلاثة من المخلوقات العظيمة: الملائكة، والجان، والإنسان. وها هو شرحه على النحو التالي:
### أولاً. نص الحديث
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدمُ مما وصِفَ لكم».
(رواه مسلم في صحيحه)

### ثانياً. شرح المفردات
● خُلقت: أي جُعلت ووُجدت وبرأها الله تعالى.
● الملائكة: جمع مَلَك، وهم عالم غيبيٌّ خلقهم الله لعبادته وطاعته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
● من نور: النور هو الضياء والإشراق، وهو خلاف الظلمة. وهو مخلوق من مخلوقات الله تعالى.
● الجانُّ: هنا يقصد به إبليس أبو الجن، وقيل: الجن عامة. والجن: عالم غيبي مخلوق من النار.
● من مارج من نار: "المارج" له معنيان مشهوران:
1. لهب النار الخالص من الدخان، أي اللهب الأصفر الأحمر الذي لا دخان فيه.
2. اختلاط ألوان النار واضطرابها.
● آدم: هو أبو البشر عليه السلام.
● مما وُصِفَ لكم: أي من التراب والماء الذي ذُكر وفسر لكم في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]، وقوله: {مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7].

### ثالثاً. شرح الحديث
يبيّن لنا النبي ﷺ في هذا الحديث العظيم أصل خلق هذه المخلوقات الثلاثة، مما يؤكد على عظمة الخالق وقدرته المطلقة على خلق أصناف متعددة من مخلوقات متنوعة:
1- خُلقت الملائكة من نور: هذا بيان لأصل خلق الملائكة الكرام، فهم مخلوقون من نور، وهو مادة لطيفة نقية تناسب طبيعتهم التي هي على الطاعة المطلقة والعبادة الخالصة والنقاء من المعاصي. وهذا من الغيب الذي نؤمن به كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ.
2- وخُلق الجان من مارج من نار: والمقصود بالجان هنا إبليس لعنه الله، وهو أبو الجن، أو جنس الجن. وقد خُلق من نار خالصة مضطربة اللهب، وهذه المادة (النار) فيها دلالة على طبيعة الجن، حيث جبلوا على الخفة والاضطراب والمكر، كما أن في النار طبيعة التكبر والعلو، وهي الصفة التي كانت سبب طرد إبليس من رحمة الله عندما تكبر على أمر ربه وأبى السجود لآدم.
3- وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم: أي أن أصل خلق الإنسان (الذي يمثله أبوهم آدم عليه السلام) هو من التراب والماء، وهو ما فصّله الله تعالى في كتابه العزيز. ففي آيات كثيرة يذكر الله أنه خلق الإنسان من طين، أو من صلصال كالفخار، أو من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. وهذه المادة (التراب) فيها إشارة إلى طبيعة الإنسان، فيها التواضع (من تراب) وفيها الشهوة والضعف (من طين)، وفيها كذلك التقلب بين الخير والشر، والطاعة والمعصية.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- إثبات قدرة الله تعالى وعظمته: فالحديث يظهر عظمة الخالق وقدرته المطلقة على خلق أنواع متباينة من مخلوقات مختلفة في طبيعتها وأصل خلقها (نور، نار، تراب).
2- الإيمان بالغيب: الحديث يخبرنا عن أمور غيبية لا نعلمها إلا بوحي من الله تعالى، فتجب علينا التسليم والإيمان بها دون تشبيه أو تعطيل.
3- بيان حقيقة الخلق: معرفة أصل الخلق تذكير للإنسان بمكانته وطبيعته، فالإنسان مخلوق من تراب، وهذا يدفعه إلى التواضع وعدم التكبر على خلق الله، ويذكره بأصله وضعفه أمام خالقه.
4- الفروق بين المخلوقات: بيان الفرق الجوهري في الخلق بين الملائكة المعصومين، والجن المخلوقين من نار، والإنسان المخلوق من تراب. وكل مخلوق له طبيعة تتناسب مع المادة التي خُلق منها.
5- الرد على الماديين: الحديث حجة على من ينكر وجود عوالم أخرى غير العالم المادي المحسوس، كعالم الملائكة والجن.
6- التفكر في خلق الله: يحثنا الحديث على التأمل في مخلوقات الله وعجائب صنعه، مما يزيد الإيمان ويقويه في القلب.

---

خامساً:

معلومات إضافية
- هذا الحديث أصل في معرفة خلق الملائكة والجن، ولم يرد نص صحيح غير هذا يبين أصل خلق الملائكة.
- قوله ﷺ: "مما وصف لكم" إشارة إلى أن التفصيل موجود في القرآن، فيجب الرجوع إليه لفهم كيفية خلق آدم.
- يستفاد من الحديث أن إبليس (الجان) ليس من الملائكة، لأنه خُلق من نار وهم خُلقوا من نور، وهذا رد على من زعم أن إبليس كان من الملائكة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يفقهنا في سنّة نبيه ﷺ