إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي أشرت إليه حديث عظيم، له دلالات مهمة، وإليك شرحه الوافي على منهج أهل السنة والجماعة:

---

نص الحديث الكامل:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا! قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
(أخرجه البخاري في صحيحه)
1- المقارنة الزمنية: يشبّه النبي صلى الله عليه وسلم مدة بقاء أمة الإسلام مقارنة بالأمم السابقة (اليهود والنصارى) بالمدة بين صلاة العصر وصلاة المغرب. وهذه المدة قصيرة جداً مقارنة إلى طول يوم العمل الكامل (من الفجر إلى المغرب). فالأمم السابقة عاشت آلاف السنين، بينما أمة الإسلام عمرها قصير نسبياً.

---

1. شرح المفردات:

● أجلكم: مدتكم وعمر أمتكم منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
● في أجل من خلا من الأمم: بالمقارنة مع مدة بقاء الأمم السابقة (كاليهود والنصارى).
● كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس: المسافة الزمنية بين وقت صلاة العصر ووقت غروب الشمس، وهي فترة قصيرة نسبياً.
● قيراط: جزء من أجزاء الأجر والثواب، وهو هنا للتمثيل وليس للتحديد.
● هل ظلمتكم من حقكم شيئاً: هل نقصتكم من الأجر المتفق عليه.
● فإنه فضلي أوتيه من أشاء: هذا زيادة ثواب وتفضّل من الله تعالى، يمنحه لمن يشاء من عباده.
● استعمل عمالاً: استأجر جماعة للعمل بأجر.
● فضلي: عطائي وزيادتي التي أمنحها من أشاء بلا حساب سابق.

---

2. شرح الحديث:

يشبّه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المبارك مدة بقاء هذه الأمة (أمة الإسلام) مقارنة بالأمم السابقة (كاليهود والنصارى)، بأنها قصيرة جداً، كقصر المدة بين صلاة العصر وصلاة المغرب.
ثم يضرب مثلاً توضيحياً لبيان عظمة أجر هذه الأمة رغم قصر مدة بقائها، فيقول:
كأن هناك صاحب عمل (وهو الله تعالى) استأجر عمالاً ليعملوا له في يوم كامل.
- فاستأجر اليهود ليعملوا من بداية النهار (الفجر) إلى منتصفه (الظهر) بأجر قيراط.
- ثم استأجر النصارى ليعملوا من منتصف النهار (الظهر) إلى وقت العصر بأجر قيراط.
- ثم استأجر المسلمين (أمة محمد) ليعملوا من العصر إلى المغرب (أي آخر النهار وأقصر فترة) بأجر قيراطين.
احتجاج الأمم السابقة: عندما ترى الأمم السابقة أن أمة الإسلام عملت أقل وقتاً وأخذت أجراً أكبر، تحتج وتغضب قائلة: "نحن أكثر عملاً وأقل عطاء!".
رد الرب تعالى: فيجيبها الرب تعالى: "هل نقصتكم من حقكم شيئاً؟" فتقول: "لا". فيقول: "فإنه فضلي أوتيه من أشاء". أي أن الأجر المتفاضل هو من فضل الله تعالى وليس ظلماً لأحد، فلم ينقصهم شيئاً من أجرهم المتفق عليه، وزاد أمة الإسلام من فضله.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- قصر مدة الدنيا وأجل الأمة: عمر الدنيا كلها قصير، وعمر هذه الأمة尤其 قصير مقارنة بالأمم السابقة، وهذا يذكرنا بالإسراع في العمل الصالح قبل فوات الأوان.
2- عظمة فضل الله على هذه الأمة: رغم قصر المدة، فإن الله قد منح هذه الأمة أجراً عظيماً على أعمالها، وهذا من فضله تعالى وكرمه.
3- العدل الإلهي المطلق: الله تعالى لا يظلم أحداً، فقد أعطى كل أمة أجرها كاملاً كما اتفق معها، والزيادة هي محض فضل منه سبحانه.
4- الحكمة من قصر أجل الأمة: من الحكم في ذلك التخفيف عن هذه الأمة وعدم إطالة مدة الابتلاء والامتحان عليها.
5- الحث على استغلال الوقت: يشير الحديث إلى أن قيمة العمل لا تُقاس بطول مدته، بل بالإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، مما يحث المسلم على اغتنام وقته القصير في الطاعة.
6- الرد على شبهة أهل الكتاب: فيه رد على من يتوهم أن لأهل الكتاب فضلاً بسبب طول مدتهم، بينما الفضل الحقيقي هو بما اختص الله به هذه الأمة.
7- قصر عمر الأمة الإسلامية: دل الحديث على أن عمر أمة الإسلام قصير نسبياً مقارنة بالأمم السابقة، وهذا يوجب على المسلم اغتنام وقته والإسراع في عمل الصالحات.
8- فضل الله تعالى على هذه الأمة: من فضل الله على هذه الأمة أن جعل أعمالها القليلة (نسبياً) ذات ثواب عظيم، فصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة فيما سواه، وشهر رمضان فيه ليلة خير من ألف شهر، وغير ذلك من مظاهر التفضيل.
9- الرد على من يعترض على قضاء الله وقدره: الحديث يعلّم المسلم الرضا بقسمة الله تعالى وحكمته، وعدم الاعتراض على فضله على الآخرين.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث من أحاديث الوعيد والترغيب، يحث على المسارعة في الخيرات.
- الحديث يوضح أحد أشراط الساعة، حيث أن قصر الأجل من علامات اقترابها.
- يستفاد منه أن العبرة بكمال العمل لا بطول مدته، فرب عمل قليل يكون أنفع من عمل كثير.
- القيراط هنا تمثيل وليس تحديداً، فالأجر الحقيقي على الله تعالى وهو أعظم من ذلك.