لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
شرح الحديث:
هذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وهو يتناول قضية عظيمة من قضايا اليوم الآخر، وهي الحوض المورود لنبينا محمد ﷺ.
أولاً: شرح المفردات:
● فرَطٌ: السابق القادم أمام القوم ليعد لهم المنزل والماء. أي: أنا سأسبقكم إلى الحوض وأكون هناك منتظراً لكم.
● الحوض: هو حوض النبي ﷺ في يوم القيامة، وهو بحيرة عظيمة من الماء، يأتي إليه أمته ليشربوا منه شربة لا يظمؤون بعدها أبداً.
● فيُذبُّ عنّي: يدفع ويطرد عني، ويمنع من الشرب من الحوض.
● كما يُذَبُّ البعيرُ الضَّالُ: كما يطرد ويدفع البعير الشارد الذي لا يعرف صاحبه، دفعاً عنيفاً.
● سُحْقًا: بمعنى البعد والطرد، أي بعداً وهلاكاً لهؤلاء المطرودين.
ثانياً: المعنى الإجمالي للحديث:
تخبرنا أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت الناس يتحدثون عن حوض النبي ﷺ، لكنها لم تسمع الحديث منه مباشرة. وفي يوم من الأيام، بينما كانت جاريتها تمشط شعرها، سمعت النبي ﷺ ينادي: "أيها الناس". فأمرت الجارية أن تبتعد عنها لكي تسمع كلام النبي ﷺ، فأخبرتها الجارية أنه نادى الرجال فقط، فردت أم سلمة بحكمة ووعي: "إني من الناس"، مؤكدة أن خطاب النبي ﷺ عام يشمل الرجال والنساء.
ثم يبين النبي ﷺ للحاضرين أنه سيكون سابقاً لهم إلى الحوض في يوم القيامة، منتظراً لهم ليرووا منه. ثم يحذرهم تحذيراً شديداً فيقول: "إياي! لا يأتين أحدكم فيذب عني..."، أي: احذروا أن تأتوا إلى الحوض فأطردكم وأمنعكم من الشرب منه، كما يطرد البعير الضال الذي لا يعرف صاحبه.
عندها يستغرب النبي ﷺ ويقول: "فيم هذا؟" أي: لماذا يطرد هؤلاء وهم من أمتي؟ فيُجاب: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، أي أنهم ارتدوا على أعقابهم وتركوا دينك، وابتدعوا في الدين ما ليس منه، أو كفروا بعد إيمانهم.
فيكون رد النبي ﷺ عليهم: "سحقاً"، أي بعداً وهلاكاً لهم.
ثالثاً: الدروس المستفادة والعبر:
1- عناية الصحابة رضي الله عنهم بسماع العلم من النبي ﷺ مباشرة: حرص أم سلمة على سماع الحديث مباشرة من النبي ﷺ وعدم الاكتفاء بما يذكره الناس يدل على حرصهم على ضبط العلم وتلقيه من مصدره.
2- شمول خطاب الإسلام للرجال والنساء: قول أم سلمة "إني من الناس" دليل واضح على أن النساء شقائق الرجال في التكليف والأحكام عموماً، وأن خطابات القرآن والسنة تتوجه إليهن إلا ما خص به الرجال.
3- إثبات حوض النبي ﷺ: الحديث دليل قاطع على ثبوت الحوض للنبي ﷺ، وهو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها كما جاءت.
4- تحذير شديد من الابتداع في الدين والارتداد عنه: السبب الرئيسي في حرمان بعض الناس من الحوض هو "ما أحدثوا بعدك"، وهذا يشمل:
- الردة عن الدين.
- البدع والمحدثات في الدين التي تخالف منهج النبي ﷺ وأصحابه.
- الكبائر والمعاصي التي قد تصل بصاحبها إلى هذا الوعيد الشديد، خاصة إذا استخف بها ولم يتب.
5- شدة حزن النبي ﷺ على حرمان بعض أمته: يظهر من استغرابه ﷺ "فيم هذا؟" مدى حبه لأمته وحرصه على هدايتهم ونجاتهم.
6- عدل الله تعالى: طرد هؤلاء ليس تعنتاً، بل لأنهم هم الذين غيروا وبدلوا وحادوا عن الطريق المستقيم بعد وفاة النبي ﷺ.
رابعاً: معلومات إضافية مفيدة:
- صفة الحوض: جاء وصفه في أحاديث أخرى بأنه عرضه وطوله سواء، كل جانب منه مسيرة شهر، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
- هذا الوعيد لا ينطبق على كل مرتكب معصية، بل على من استحلها أو استمر عليها بدون توبة، أو على من أحدث في الدين بدعاً تخرج من الملة. وأما أهل المعاصي من المسلمين الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، فإنهم تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الواردين إلى حوض نبيه ﷺ، وأن لا يطردنا عنه، وأن يثبتنا على دينه حتى نلقاه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.