رأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث جزء من الحديث الطويل الذي يصف لنا رسول الله ﷺ فيه ما رآه من آيات ربه الكبرى في رحلة الإسراء والمعراج، وفيها وصفٌ لبعض الأنبياء الكرام الذين رآهم في السماوات. وهاك الشرح المفصل:
### أولاً. نص الحديث الكامل ومصدره
الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه (رقم 3437) ومسلم في صحيحه (رقم 164) عن ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ أطول. وفي الجزء الذي ذكرته:
عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: «... فَمُرِرْتُ بِمُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي... وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبِطَ الرَّأْسِ...».
### ثانيًا. شرح المفردات
* مُرِرْتُ: مررت واجتزت.
* مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ: هو النبي الكريم موسى عليه السلام، كليم الله.
* لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي: أي في ليلة الإسراء والمعراج، التي أسري فيها بالنبي ﷺ من مكة إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به إلى السماوات.
* عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ: هو النبي عيسى عليه السلام، روح الله وكلمته.
* مُرْبُوعَ الْخَلْقِ: المربوع هو المعتدل القامة، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. أي أن خلقه وسط بين الطول والقصر.
* إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ: أي أن لون بشرته يميل إلى البياض الذي يشوبه حمرة حسنة، فهي صفة اللون الجميل المعتدل.
* سَبِطَ الرَّأْسِ: السبط هو الشعر المسترسل الناعم المتدلي. أي أن شعره كان ناعماً ليس به جعودة (تثنٍ وتكسر).
### ثالثًا. شرح الحديث والمعنى الإجمالي
يخبرنا النبي ﷺ في هذا الحديث العظيم عن جزء من مشاهداته ليلة الإسراء والمعراج، حيث رأى عددًا من الأنبياء في السماوات السبع، كلٌ في منزلته التي أكرمه الله بها.
ورؤيته ﷺ لعيسى بن مريم عليه السلام كانت رؤية حقيقية في اليقظة، وليست منامًا، وهي من معجزاته ﷺ. وهذا الوصف الدقيق الذي قدمه النبي ﷺ لشكل عيسى عليه السلام هو وصفٌ لائق بمكانته كنبي كريم من أولي العزم من الرسل، يمتاز بصفات جمالية ووقار.
* "مربوع الخلق": هذه الصفة تدل على الاعتدال والتناسب في الهيئة، وهو من الكمال في الخلقة، بعيدًا عن الإفراط أو التفريط.
* "إلى الحمرة والبياض": هذا اللون هو من أحسن الألوان وأجملها عند العرب، وكان يوصف به الشاب الصحيح الصحيح الجسم، الجميل المنظر.
* "سبط الرأس": نعومة الشعر واسترساله صفة جمالية تضيف إلى هيبة الشخص وحسْن منظره.
فهذا الوصف يصور نبي الله عيسى عليه السلام في صورة الشاب الوسيم المعتدل، ذي الهيئة الحسنة والمنظر المهيب، مما يتناسب مع مكانته الرفيعة.
### رابعًا. الدروس المستفادة والعبر
1- إثبات معجزة الإسراء والمعراج: وهي من أعلام نبوة محمد ﷺ وأدلتها القاطعة، حيث رأى الآيات الكبرى واجتمع بالأنبياء.
2- تعظيم الأنبياء جميعًا: فوصف النبي ﷺ لعيسى عليه السلام بهذه الصفات الجميلة يدل على محبته وتوقيره له، ونحن نؤمن بجميع الرسل ونحبهم ولا نفرق بين أحد منهم.
3- الرد على المشوهين: هذا الوصف النبوي الصادق يرد على كل من حاول تشويه صورة الأنبياء أو رسمهم بصور غير لائقة، فهو يقدم وصفًا دقيقًا ومحترمًا لنبي الله عيسى.
4- الجمال الخلقي من نعم الله: الاعتدال في الخلق والحسن في الصورة نعمة من الله تعالى، وهي من كمال الخلقة التي ينبغي شكر الله عليها.
5- علو منزلة عيسى عليه السلام: مكانته في السماء الثانية (كما في روايات أخرى) تدل على فضله ومكانته عند الله تعالى.
### خامسًا. معلومات إضافية مفيدة
* في روايات أخرى، أن النبي ﷺ وجد عيسى عليه السلام في السماء الثانية، وهو ما يدل على منزلته العالية عند الله.
* التقى النبي ﷺ بعدة أنبياء في تلك الليلة في السماوات المختلفة، منهم آدم في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة.
* هذا الوصف يختلف عن أوصاف النبي ﷺ نفسه، فقد وُصف ﷺ بأنه أبيض مليح الوجه، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولم يكن سبط الشعر بل كان شعره يصل إلى شحمة أذنيه أو منكبيه، فيه تثنٍ قليل (كأنه حبك الطَّرْح). فكل نبي له هيئته التي أكرمه الله بها.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا محبة أنبيائه واتباع هديهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.