اللهم بك أحاول وبك أصاول وبك أقاتل

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني، وهو حديث صهيب الرومي رضي الله عنه، يروي لنا موقفاً مؤثراً من مواقف الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى الذي كان يفعله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● يحرك شفتيه: أي كان يهمس بالدعاء ويذكر الله بصوت خافت.
● أيام حنين: أي في فترة غزوة حنين التي وقعت في شوال من السنة الثامنة للهجرة.
● لن يروم هؤلاء أحد بشيء: أي لن يطمع فيهم أحد أو يغلبهم أحد بسبب كثرتهم وقوتهم. (الروم: الطمع والطلب).
● يستبيحهم: أي يهاجمهم ويستولي على أموالهم ودمائهم.
● بك أحاول: أي بك أطلب النصر وأتوجه.
● بك أصاول: أي بك أقاتل وأصارع الأعداء.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعقاب غزوة حنين التي انتصر فيها المسلمون بعد عصيان أولي، كان يداوم بعد صلاة الفجر على تحريك شفتيه بالدعاء والذكر بخشوع وتضرع.
فلما لاحظ الصحابة هذا الحركة المستمرة، سألوه عن هذا الدعاء الخاص الذي كان يردده.
فأخبرهم صلى الله عليه وسلم قصة نبي من الأنبياء السابقين (وقد قيل هو نبي الله داود عليه السلام)، أعجبته كثرة أمته وقوتهم، فظن أن هذه الكثرة ستحميهم من أي مكروه، فقال بعبارة تفيد الاعتزاز بالقوة البشرية (أي: لن يطمع فينا أحد أو يغلبنا أحد بسبب كثرتنا).
فأوحى الله تعالى إلى ذلك النبي يعاتبه على هذا الاعتماد على غير الله، واختباره في إيمانهم وصبرهم، وعرض عليه ثلاث خيارات عقابية لامتحانهم:
1- أن يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيغزوهم ويستبيح أموالهم ودماءهم.
2- أن يسلط عليهم الجوع والقحط الشديد.
3- أن يرسل عليهم الموت بشكل مفاجئ وسريع.
فعقد النبي مجلساً مع قومه وشاورهم في هذه الخيارات الصعبة، فاختاروا أهون الشرين في نظرهم، وهو الموت السريع، مفضلين إياه على إذلال العدو أو عذاب الجوع الطويل. فاستجاب الله لهم وأرسل عليهم الموت، فمات منهم سبعون ألفاً في ليلة واحدة.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الموقف هو الذي جعله يكثر من دعاء معين، فقال: «فأنا أقول: اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل». أي أنا أتوجه بهذا الدعاء لأعبر عن اعتمادي الكلي عليك يا الله، وليس على قوتي أو عدد جيشي. فالنصر من عندك وحدك.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- خطر الاغترار بالقوة المادية: الاعجاب بالكثرة والقوة والاعتماد عليها يورث الغرور ويجلب سخط الله تعالى. قال الله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ . وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا . وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ} [النجم: 43-46]. فالأمر كله بيد الله.
2- وجوب اللجوء إلى الله تعالى في كل حال: خاصة عند النعم والانتصارات، فالشكر يكون بالاعتراف بأن النعمة من الله والاستعانة به لحفظها. وكان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتصاره في حنين.
3- التضرع والدعاء سلاح المؤمن: حرص النبي على الدعاء بعد الصلاة يدل على أهمية هذا الوقت وأهمية الإلحاح على الله.
4- مشورة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: بإخباره الصحابة بالقصة والدعاء، يعلمنا أن نعتبر بقصص السابقين ونتجنب أسباب هلاكهم.
5- معنى الدعاء الذي علمنا إياه: «اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل» هو إعلان للتوجه الخالص لله، والاعتراف بأن القوة والمنعة والعزة به وحده. فهو جوهر التوحيد في التوكل.
6- قدرة الله المطلقة: القصة تذكرنا بأن الحياة والموت بيد الله وحده، وهو الذي ينصر ويخذل، ويعطي ويمنع.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

● غزوة حنين: كانت بعد فتح مكة، وحدث فيها أول عصيان للمسلمين بسبب كثرتهم (كانوا 12 ألفاً) حيث قال بعضهم: "لن نغلب اليوم من قلة"، فحدثت الهزيمة أول الأمر ثم النصر بعد تدارك النبي للموقف بدعائه وثباته.
- هذا الدعاء «اللهم بك أحاول...» من أذكار الصباح، وكان النبي يداوم عليه خاصة في أوقات البأس والقتال.
- القصة تدل على أن الاختيار بين المصائب لا يكون بالهوى، بل بمشورة أهل العلم والرأي، مع الرجوع إلى الله بالدعاء.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يتوكلون عليه حق توكله، ولا يغترون بأنفسهم وقوتهم، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.