غسل رسول الله ﷺ وما أطيبك حيا وميتا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن ينفعنا بما نسمع ونقول.
هذا الحديث الذي أتيت به حديث عظيم، يروي لنا لحظة من أشد اللحظات حزنًا وأعظمها وقارًا في تاريخ الأمة، وهي لحظة غسل جسد النبي الكريم ﷺ وتجهيزه للدفن. وها أنا أشرحه لك جزءًا جزءًا معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الراوي والمصدر:
الراوي هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو من أهل بيت النبي ﷺ وأقاربه. والحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" وغيره، وهو حديث صحيح الإسناد.
شرح المفردات:
* أجمع القوم: اتفقوا وتشاوروا على أن يغسلوا النبي ﷺ.
* ليس في البيت إلا أهله: أي أن الذين حضروا للغسل كانوا من أقرباء النبي ﷺ وممن لهم خصوصية به.
* ناشدتك الله: استحلفك بالله وأطلب منك بحق الله.
* وحظنا من رسول الله ﷺ: حقنا ونصيبنا من حبه وبركته ﷺ.
* فأسنده إلى صدره: أسنَد جسد النبي ﷺ وأسند ظهره إلى صدره أثناء الغسل.
* يقلبونه: يمسكون به ويقلبونه برفق ليتمكن علي من غسل شقه الآخر.
* يصبان الماء: يسكبان الماء على جسد النبي ﷺ أثناء الغسل.
* لم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت: أي أن جسده الشريف ﷺ كان على أكمل هيئة، لم تظهر عليه أي من الآفات أو التغيرات التي تظهر عادة على جثث الموتى.
شرح الحديث:
يصف ابن عباس رضي الله عنهما المشهد المهيب لغسل النبي ﷺ. فقد اجتمع للقيام بهذه المهمة العظيمة عدد محدود جدًا من الأشخاص، وهم:
1- عمه العباس بن عبد المطلب: العم الذي كان بمثابة الأب، وهو من كبار بني هاشم.
2- علي بن أبي طالب: ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، وأقرب الناس إليه.
3- الفضل بن العباس: ابن عمه.
4- قثم بن العباس: ابن عمه.
5- أسامة بن زيد: كان النبي ﷺ يحبه حبًا شديدًا ويقول: "إنه لخليق أن يُحَب". وهو ابن زيد بن حارثة مولى النبي ﷺ الذي كان كالابن له.
6- صالح مولاه: وهو مولى النبي ﷺ وخادمه.
وبينما هم مجتمعون ومستعدون لبدء الغسل، يسمعون نداءً من خارج الباب. إنه الصحابي الأنصاري أوس بن خولي، وهو من أهل بدر، أي من السابقين الأولين والمجاهدين العظام. ينادي عليًا رضي الله عنه ويستحلفه بالله وبحق الأنصار ومحبتهم لرسول الله ﷺ أن يسمح له بالمشاركة في هذا الشرف العظيم.
فاستجاب علي رضي الله لهذا النداء المؤثر الذي نبع من محبة صادقة، وأذن له بالدخول. دخل أوس وشهد عملية الغسل، لكنه لم يباشر الغسل بنفسه (أي لم يمسك بجسد النبي أو يغسله بيده)، وإنما اكتفى بحضور هذا المشهد المهيب.
ثم يصف ابن عباس كيفية الغسل:
* كان علي رضي الله عنه هو الذي يباشر غسل الجسد الشريف.
* كان يجلس ويُسند النبي ﷺ إلى صدره، وكان النبي ﷺ لا يزال مرتدياً قميصه (وهي من الخصوصيات والكرامات له ﷺ، حيث غُسل وعليه قميصه).
* كان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدون في تقليب الجسد الطاهر برفق.
* كان أسامة وصالح يصبان الماء حيث يأمرهم علي.
* خلال كل هذا، كان جسد النبي ﷺ طيبًا، نقيًا، لم يتغير أو يظهر عليه ما يظهر على أجساد الموتى من رائحة أو لون، مما هو معجزة له ﷺ وتأكيد على طهارته المطلقة.
* وكان علي رضي الله عنه وهو يغسله يناجيه قائلاً: "بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً!"، معبرًا عن شدة حبه وشوقه ووفائه له ﷺ.
الدروس المستفادة والعبر:
1- مكانة أهل بيت النبي ﷺ: الحديث يظهر المكانة الخاصة لأهل بيت النبي ﷺ، حيث خُصوا بشرف غسله وتجهيزه، وهم أقرب الناس إليه.
2- مكانة الأنصار ومحبتهم للنبي ﷺ: مجيء أوس بن خولي واستحلافه لعلي بحق الأنصار يظهر عمق محبة الأنصار لرسول الله ﷺ وحرصهم على نيل أي بركة منه، حتى بعد وفاته.
3- أدب الصحابة وحسن تصرفهم: تصرف علي رضي الله عنه كان في غاية الأدب والحكمة، حيث استجاب لطلب الأنصاري تقديرًا لمشاعره ومحبته، مع الحفاظ على حرمة الموقف وعدم إدخال أكثر من اللازم.
4- كرامات النبي ﷺ بعد وفاته: من أعظم الكرامات أن جسده الشريف ﷺ لم يطرأ عليه ما يطرأ على سائر الموتى، تأكيدًا على قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ} [النجم: 3]， وأنه معصوم حتى في جسده الطاهر.
5- الحب والوفاء: عبارة علي رضي الله عنه "بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً" هي قمة الوفاء والحب، تبين