شرح مفردات الحديث:
1- قوله: «
اللَّهم رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم»: أي يا خالق هذه المخلوقات العظيمة الدالة على كمال قدرتك، فأنت خلقت من عدم، وأبدعت على غير مثال سابق.
قال العيني : «
اشتمل هذا على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات، المسماة بالأوصاف الجلالية، وعلى العظمة التي تدل على القدرة العظيمة؛ إذ العاجز لا يكون عظيماً، وعلى الحلم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل بالشيء لا يتصور منه الحلم، وهما أصل الصفات الوجودية الحقيقية المسماة بالأوصاف الإكرامية، ووجه تخصيص الذكر بالحليم؛ لأن كرب المؤمن غالباً إنما هو على نوع تقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يشعر برجاء العفو المقلل للحزن.... ولا شك أن اللَّه من صفاته: الحلم، وهو صفة تليق بجلال اللَّه ﻷ، لا يشبه خلقه في شيء من ذلك، قوله: «رب السموات والأرض» خصهما بالذكر؛ لأنهما من أعظم المشاهدات، ومعنى الرب في اللغة يطلق على: المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والمتمم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على اللَّه تعالى، وإذا أطلق على غيره أضيف، فيقال: رب كذا.
قوله: «
رب العرش العظيم» ذا أيضاً يشتمل على: التوحيد، والربوبية، وعظمة العرش، وجه الأول قد ذكرناه، ووجه ذكر الثاني، أعني: لفظ الرب من بين سائر الأسماء الحسنى، هو كونه مناسباً لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية، ووجه الثالث، وهو تخصيص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى، ثم لفظ العظيم صفة للعرش بالجر عند الجمهور، ونقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم على أنه نعت للرب، ويروى ورب العرش العظيم بالواو».
2- قوله: «
رب السموات السبع ورب الأرض»: إن اللَّه رب كل شيء، ومالكه، والسموات جعلهن سبعاً، قال ابن جرير : «
إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع، والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقهما بغير شريك، ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور ، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل» ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : «
فالكفار المشركون مقرون بأن اللَّه خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكاً مساوياً له في ذاته، وصفاته، وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية، ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب، والملائكة، ولا من عبّاد الأنبياء، والصالحين، ولا من عبّاد التماثيل، والقبور، وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء، وإن كانوا كفاراً مشركين، متنوعين في الشرك، فهم يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته، وصفاته، وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شركاء، أو شفعاء - أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه، مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخالق» .
3- قوله: «
ورب العرش العظيم»: قال الإمام ابن خزيمة : «
وسمَّى اللَّه بعض خلقه عظيماً، فقال: وهو رب العرش العظيم، فاللَّه العظيم، وأوقع اسم العظيم على عرشه، والعرش مخلوق» .
4- قوله: «
ربنا ورب كل شيء»: هذا من باب ذكر العام ثم الخاص؛ لأن السموات والأرض والعرش جزء من ملك اللَّه الذي لا يعلمه إلا هو عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «
إقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده، وأنه الذي يمنع المخلوق، وينصره، فيجيره من الضرر، والأذى، فيجير على من يشاء، ولا يجير عليه أحد، فاذا أراد بأحد ضرراً، لم يمنعه مانع، وإذا رفع الضر عن أحد، لم يستطع أحد أن يضره، وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان أنه هو المدبر النافع له، فهو الذي يأتي بالمنفعة، وهو الذي يدفع المضرة» ، وقال : أيضاً: «
هُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ، لَا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ: مِنْ حَرَكَةٍ، وَسُكُونٍ، فَبِقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَخَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ، أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ، وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ» .
5- قوله: «
فالق الحب والنوى»: أي: أنت الذي تشق الحبة، وتفلق النوى، وذلك لأن النبات إما أشجار أصله النوى، أو زروع أصلها الحب، والنوى جمع نواة، وهي عظم النخل، والتخصيص هنا إما لفضلها، أو لكثرة وجودها في بلاد العرب المخاطبين بالوحي، قال اللَّه تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ .
قال العلامة السعدي : «
يخبر تعالى عن كماله، وعظمة سلطانه، وقوة اقتداره، وسعة رحمته، وعموم كرمه، وشدة عنايته بخلقه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ﴾ شامل لسائر الحبوب، التي يباشر الناس زرعها، والتي لا يباشرونها، كالحبوب التي يبثها اللَّه في البراري، والقفار، فيفلق الحبوب عن الزروع، والنوابت، على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومنافعها، ويفلق النوى عن الأشجار، من النخيل، والفواكه، وغير ذلك، فينتفع الخلق، من الآدميين، والأنعام، والدواب، ويرتعون فيما فلق اللَّه من الحب، والنوى، ويقتاتون، وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها اللَّه في ذلك، ويريهم اللَّه من بره، وإحسانه ما يبهر العقول، ويذهل الفحول، ويريهم من بدائع صنعته، وكمال حكمته، ما به يعرفونه، ويوحدونه، ويعلمون أنه هو الحق، وأن عبادة ما سواه باطلة» .
6- قوله: «
منزل التوارة»: التوارة اسم للكتاب الذي أنزله اللَّه على موسى عليه السلام، ومعناه بالعبرية: الشريعة، وهي اسم أعجمي، مشتق من وري الزند، وهو ما يظهر منه بعد إيقاده من النور، وقد كان لهم هداية ونورًا قبل التحريف، وقيل: إنها معربة عن كلمة «
طورا» العبرية، ومعناها الهدى، وهذا من العلم الذي لا ينفع، والجهل الذي لا يضر .
7- قوله: «
والإنجيل»: وهو كتاب عيسى عليه السلام، ومعناه باليونانية التعليم الجديد، وقيل معناه الأصل؛ لأنه جمعت فيه العلوم، والحكم قبل التحريف كذلك، والجمع أناجيل، وجمع توارة تُوار ، قال الزبيدي : «
الإنْجيل: اسمٌ عِبْرانيٌّ، وَقيل: سُرْيانيٌّ، وَقيل: عربيٌّ، وعَلى الأخيرِ قيل: مُشتَقٌّ من النَّجْلِ، وَهُوَ الأَصْل، أَو من نَجَلْتُ الشيءَ: أَي أَظْهَرتُه، أَو من نَجَلَه: إِذا استخرجَه» ؛ لأنه أظهر ما اندرس من الدين.
8- قوله: «
والفرقان»: اسم من أسماء
القرآن الكريم، وسمي فرقانًا؛ لأن اللَّه فرق به بين الحق والباطل، قال اللَّه تعالى:
﴿وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ وقال:
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ، وقال ابن الأثير : «
الفُرْقَان: مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ: أَيْ أَنَّهُ فَارَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، يُقَالُ: فَرَقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، أَفْرُق فَرْقاً وفُرْقَاناً» .
9- قوله: «
أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته»: المعنى: أنني أعتصم بك من الشر كله: مصادره، وفروعه؛ لأنك وحدك القادر على دفعه عني؛ لأنك آخذ بنواصي الخلق جميعًا، والناصية هي مقدم الرأس، قال ابن فارس : «
نصا: يدلُّ على تَخَيُّرٍ، وخَطَر في الشَّيء وعُلوّ، ومنه النَّصِيَّة من القَوم، ومن كلِّ شيءٍ: الخيار، ويقال: انتصَيْتُ الشَّيءَ: اخترتُه، وهذه نَصِيَّتي: خِيرَتي، ومنه النَّاصية: سمِّيت لارتفاع مَنْبتها.
والناصيةُ: قُصَاص الشَّعْر» ، وقال البيضاوي: «
أي: ما هو في ملكتك، وتحت سلطانك, وأنت متمكن من التصرف، والأخذ بالناصية كناية عن الاستيلاء، والتمكن من التصرف فيه, وإنما عدل إلى هذه العبارة ولم يقل: من شر كل شيء, إشعاراً بأنه المسبب لكل ما يضر، وينفع، والمرسل له, لا يقدر أحد على منعه, ولا شيء ينفع في دفعه, ... فلا مفر منه إلا إليه, ولا معاذ يستعاذ به سواه» .
10- قوله: «
اللَّهم أنت الأول فليس قبلك شيء»: أي: أنه عز وجل الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق ؛ لأنه الذي ليس قبله شيء، ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، قال الحافظ ابن حجر : «
وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غير اللَّه: لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما» وقوله: «
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ » أي أن اللَّه خلق الماء سابقًا، ثم خلق العرش على الماء، أما حديث: «
إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَم، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ» ، فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش .
11- قوله: «
وأنت الآخر فليس بعدك شيء»: أي: أن اللَّه تعالى هو الباقي بعد فناء الخلق، قاله الخطابي ، وقال البيهقي أي: الذي لا انتهاء لوجوده .
12- قوله: «
وأنت الظاهر فليس فوقك شيء»: أي: من الظهور، وهو العلو، ومن ذلك قوله عز وجل:
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أي: يعلو عليه .
قال الخطابي: هو الظاهر بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وبشواهد أعلامه الدالة على ثبوت ربوبيته، وصحة وحدانيته
( )وهذا زيادة على علوِّه فوق العرش
﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ استواء يليق بجلاله عز وجل.
13- قوله: «
وأنت الباطن فليس دونك شيء»: هذا كناية عن إحاطة اللَّه بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه، فالباطن قريب من معنى القريب .
قال ابن جرير : أي: أن اللَّه هو الباطن لجميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه عز وجل، كما قال اللَّه تعالى:
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ، ويدل على ذلك أيضًا أن اللَّه قال في نهاية هذه الآية :
﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، أي: لا يخفى عليه شيء .
14- قوله: «
اقض عنا الدين»: أي: أدِّ عنا جميع الحقوق، وهذا يشمل حقوق الخالق على عبده، وحقوق الخلق، قال الإمام النووي : «
اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُنَا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْعِبَادِ كُلُّهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ» .
15- قوله: «
وأغننا من الفقر»: لأن الدين والفقر من أكبر المنغِّصات التي تنغص حياة العبد، فراحة البال لا تتم إلا مع أداء الحقوق، وعدم الحاجة إلى سؤال الخلق.
وقال ابن هبيرة : «
فيه دليل على استحباب سؤال ذلك، وسؤال الغني من غير كراهية لذلك» .