شرح مفردات الحديث:
1- قوله: «
اللهم صل على محمد»: اللهم: بِمَعْنَى: يَا أَلله ، وصلاة اللَّه على رسوله: هي الثناء عليه في الملأ الأعلى.
قال البخاري : «
قال أبو العالية: «صَلَاةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: «
يُصَلُّونَ: يُبَرِّكُونَ» ، فظهر أن الصلاة من اللَّه على نبيه هي الثناء عليه في الملأ الأعلى أي: عند الملائكة المقربين، وإنما جاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه العَلَم فقط؛ لأن هذا من باب الخبر، قال الطيبي : «
عظَّمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وقيل: لما أمرنا اللَّه بالصلاة عليه، لم نبلغ قدر الواجب من ذلك، فأحلنا على اللَّه تعالى، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد؛ لأنك أعلم بما يليق» ، وقال الإمام ابن القيم : «
الصلاة المأمور بها فيها [أي: آية الأحزاب] هي: الطلب من اللَّه ما أخبر به عن صلاته، وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه، وإظهارٌ لفضله، وشرفه، وإرادة تكريمه، وتقريبه، فهي تتضمّن الخبر، والطلب، وسُمِّي هذا السؤال والدعاء منا نحن: صلاةً عليه لوجهين: أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه، وفضله، والإرادة، والمحبة لذلك من اللَّه تعالى، فقد تضمَّنت الخبر، والطلب.
والوجه الثاني: أن ذلك سُمِّي منا صلاةً لسؤالنا من اللَّه أن يُصلِّيَ عليه، فصلاة اللَّه عليه ثناؤه، وإرادته لرفع ذكره، وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه: سؤالنا اللَّه تعالى أن يفعل ذلك به» .
وذكر الحافظ ابن حجر : عن جماعة أقوالاً في شرح معنى صلاة اللَّه عليه بالمغفرة، وبالرحمة، ثم قال : «
وأَولَى الأَقوال ما تَقَدَّمَ عَن أَبِي العالِيَة: أَنَّ مَعنَى صَلاة اللَّه عَلَى نَبِيّه: ثَناؤُهُ عَلَيهِ، وتَعظِيمه، وصَلاة المَلائِكَة وغَيرهم عَلَيهِ طَلَب ذَلِكَ لَهُ مِنَ الله تَعالَى، والمُراد: طَلَب الزِّيادَة، لا طَلَب أَصل الصَّلاة» ، وقال أيضاً: «
وقالَ الحَلِيمِيّ فِي الشُّعَب: مَعنَى الصَّلاة عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: تَعظِيمه، فَمَعنَى قَولنا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد: عَظِّم مُحَمَّدًا، والمُراد: تَعظِيمه فِي الدُّنيا بِإِعلاءِ ذِكره، وإِظهار دِينه، وإِبقاء شَرِيعَته، وفِي الآخِرَة بِإِجزالِ مَثُوبَته، وتَشفِيعه فِي أُمَّته، وإِبداء فَضِيلَته بِالمَقامِ المَحمُود، وعَلَى هَذا فالمُراد بِقَولِهِ تَعالَى: ﴿صَلُّوا عَلَيهِ﴾: ادعُوا رَبّكُم بِالصَّلاةِ عَلَيهِ.
انتَهَى» .
2- قوله: «
وعلى آل محمد»: الآل: تأتي للأتباع على الدين، ويدل على ذلك قول اللَّه عز وجل:
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ سورة غافر، الآية: 46 ، وإذا قُرن الآل بالأتباع كقولنا: «
آله وأتباعه، فيُراد بالآل: المؤمنون من قرابته، وكذلك إذا قرن الآل، والأصحاب، والأتباع، فالآل قرابته المؤمنون، والأصحاب: صحابته، والأتباع: أتباعه على دينه، كقولنا: «اللهمّ صلِّ على محمد، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان»، وقال القرطبي : «
اختلف في آله من هم؟ فقيل: أتباعه، وقيل: أمَّته، وقيل: آل بيته، وقيل: أتباعه من رهطه وعشيرته، وقيل: آل الرجل نفسه؛ ولهذا كان الحسن يقول: «اللهم صل على آل محمد»، واختلف النحويون: هل يضاف الآل إلى الْمُضْمَر، أم لا يضاف إلا إلى الظاهر؟ فذهب النَّحَّاس، والزبيدي، والكسائي، إلى أنه لا يقال إلا: «
اللهم صلّ على محمد وآل محمد»، ولا يقال: وآله» .
وقال الإمام ابن القيم : «
واختُلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال، فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة... والقول الثاني: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته، وأزواجه خاصة... والقول الثالث: إن آله صلى الله عليه وسلم اتباعه إلى يوم القيامة... والقول الرابع: إن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته... والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تحل لآل محمد» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «
إنما يأكل آل محمد من هذا المال» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «
اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» ، وهذا لا يجوز أن يُراد به عموم الأمة قطعاً، فأولى ما حُمل عليه الآل في الصلاة: الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك» .
وقال الحافظ بن حجر : «
واختُلِفَ فِي المُراد بِآلِ مُحَمَّد فِي هَذا الحَدِيث، فالرّاجِح أَنَّهُم مَن حُرِّمَت عَلَيهِم الصَّدَقَة ... ولِمُسلِمٍ مِن حَدِيث عَبد المُطَّلِب بن رَبِيعَة فِي أَثناء حَدِيث مَرفُوع: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَة إِنَّما هِيَ أَوساخ النّاس، وإِنَّها لا تَحِلّ لِمُحَمَّدٍ، ولا لآلِ مُحَمَّد»، وقالَ أَحمَد: المُراد بِآلِ مُحَمَّد فِي حَدِيث التَّشَهُّد أَهل بَيته، وعَلَى هَذا فَهَل يَجُوز أَن يُقال أَهل عِوض آل؟ رِوايَتانِ عِندهم.
وقِيلَ المُراد بِآلِ مُحَمَّد: أَزواجه، وذُرِّيَّته؛ لأَنَّ أَكثَر طُرُق هَذا الحَدِيث جاءَ بِلَفظِ «
وآل مُحَمَّد»، وجاءَ فِي حَدِيث أَبِي حُمَيدٍ مَوضِعه: «
وأَزواجه وذُرِّيَّته»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المُراد بِالآلِ الأَزواج والذُّرِّيَّة، وتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ الجَمع بَين الثَّلاثَة كَما فِي حَدِيث أَبِي هُرَيرَة، فَيُحمَل عَلَى أَنَّ بَعض الرُّواة حَفِظَ ما لَم يَحفَظ غَيره، فالمُراد بِالآلِ فِي التَّشَهُّد: الأَزواج، ومِن حُرِّمَت عَلَيهِم الصَّدَقَة، ويَدخُل فِيهِم الذُّرِّيَّة، فَبِذَلِكَ يُجمَع بَين الأَحادِيث» .
وقال العلامة ابن عثيمين : «
وآل محمد، قيل: إنهم أتباعه على دينه؛ لأن آل الشخص: كلُّ مَنْ ينتمي إلى الشخص، سواءٌ بنسب، أم حَميَّة، أم معاهدة، أم موالاة، أم أتباع، كما قال اللَّه تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ سورة غافر، الآية 46 ، فيكون «آله» هم أتباعُه على دينِهِ، وقيل: «
آل النبي صلى الله عليه وسلم» قرابته المؤمنون، والقائل بذلك خَصَّ القرابة المؤمنين، فخرج بذلك سائر الناس، وخَرَجَ بذلك كُلُّ مَن كان كافراً مِن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح الأول، وهو أن الآل هم الأتباع، لكن لو قُرِنَ «
الآل» بغيره، فقيل: على محمد، وآله، وأتباعه، صار المراد بالآل المؤمنين مِن قرابته» .
3- قوله: «
كما صليت على إبراهيم»: الكاف هنا للتعليل، وليس للتشبيه؛ وذلك لأن المقرر هو أن المشبه أدنى من المشبه به، ومعلوم أن محمدًا وآله أفضل من إبراهيم وآله، وعلى هذا يكون المعنى أن هذا من باب التوسل بفعل اللَّه السابق وهو الفضل على إبراهيم وآله إلى تحقيق فضل اللَّه اللاحق وهو الفضل لمحمد وآله، قال العلامة ابن عثيمين: «
وهذا هو القول الأصح الذي لا يرد عليه إشكال» .
4- قوله: «
وعلى آل إبراهيم»: قال الحافظ ابن حجر : «
هم ذُرِّيَّته مِن إِسماعِيل، وإِسحاق، كَما جَزَمَ بِهِ جَماعَة مِنَ الشُّرّاح، وإِن ثَبَتَ أَنَّ إِبراهِيم كانَ لَهُ أَولاد مِن غَير سارَة، وهاجَر، فَهُم داخِلُونَ لا مَحالَة، ثُمَّ إِنَّ المُراد: المُسلِمُونَ مِنهُم، بَل المُتَّقُونَ، فَيَدخُل فِيهِم الأَنبِياء، والصِّدِّيقُونَ، والشُّهَداء، والصّالِحُونَ، دُون مَن عَداهُم، وفِيهِ ما تَقَدَّمَ فِي آل مُحَمَّد» ، ويدخل في ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من ولد إبراهيم ؛، وقال الإمام النووي : «
وَيَدْخُلُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ، فَطَلَبَ إِلْحَاقَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ وَاحِدٌ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا خَلَائِقُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ» .
5- قوله: «
إنك حميد»: أي: كثير المحامد فهو الحامد لعباده الذين اصطفاهم لإقامة شرعه ودينه، وهو المحمود من قبل أوليائه لما يتصف به من صفات الجلال والعظمة، قال الإمام النووي : «
الحميد: الذي تحمد فعاله، وهو بمعنى المحمود، واللَّه تعالى الحميد، المحمود، المستحمد إلى عباده» ، وقال الإمام ابن القيم : «
فالحميد هو الذي له من الصفات، وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلق به حمد الحامدين» ، وقال الحافظ ابن حجر : «
أَمّا الحَمِيد: فَهُو فَعِيلَ مِنَ الحَمد بِمَعنَى مَحمُود، وأَبلَغُ مِنهُ، وهُو مَن حَصَلَ لَهُ مِن صِفات الحَمد أَكمَلُها، وقِيلَ: هُو بِمَعنَى الحامِد، أَي: يَحمَد أَفعال عِبادِهِ» .
6- قوله: «
مجيد»: أي: متعاظم الأمجاد ومن ذلك كثرة الإحسان إلى عباده بما يفيض عليهم من الخيرات، قال النووي : «
والمجيد: الماجد، وهو ذو الشرف والكرم، يقال: مجد الرجل يمجد مجداً، ومجادة، ومجد يمجد لغتان، قال الحسن والكلبي: المجيد الكريم...المجيد: الرفيع، قال أهل المعاني: المجيد: الكامل الشرف، والرفعة، والكرم، والصفات المحمودة» ، وقال الإمام ابن القيم : «
المجيد، والمُمَجَّد، والكبير، والمُكبَّر، والعظيم، والمُعظَّم، والحمد، والمجد إليهما يرجع الكمال كله؛ فإن الحمد يستلزم الثناء، والمحبة للمحمود، فمن أحببته، ولم تثن عليه، لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه، محباً له، وهذا الثناء والحب تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير؛ فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع، وأكمل، كان الحمد والحب أتم، وأعظم، واللَّه سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يُحَبَّ لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سبحانه وتعالى، وأما المجد، فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، واللَّه سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، فلا إله إلا اللَّه دال على ألوهيته، وتفرّده فيها، فألوهيته تستلزم محبته التامة، واللَّه أكبر دالّ على مجده وعظمته، وذلك يستلزم تعظيمه، وتمجيده، وتكبيره؛ ولهذا يقرن سبحانه بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، كقوله: ﴿رحمة اللَّه وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد﴾ سورة هود، الآية: 73 » ، وقال الحافظ ابن حجر : «
وأَمّا المَجِيد: فَهُو مِنَ المَجد، وهُو صِفَةُ مَن كَمُلَ فِي الشَّرَف، وهُو مُستَلزِم لِلعَظَمَةِ والجَلال، كَما أَنَّ الحَمد يَدُلّ عَلَى صِفَة الإِكرام» .
وقال الإمام ابن القيم : أيضاً: «
ولما كانت الصلاة على النبي، وهي ثناء اللَّه تعالى عليه، وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره وزيادة حبه وتقريبه، كما تقدم، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده؛ فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له، وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما أسماء الحميد والمجيد، وهذا كما تقدم أن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وتقدم أن هذا من قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ سورة الأعراف، الآية: 180 » ، قال الحافظ ابن حجر : «
ومُناسَبَة خَتمِ هَذا الدُّعاء بِهَذَينِ الاسمَينِ العَظِيمَينِ أَنَّ المَطلُوب تَكرِيم اللَّه لِنَبِيِّهِ، وثَناؤُهُ عَلَيهِ، والتَّنوِيه بِهِ، وزِيادَة تَقرِيبه، وذَلِكَ مِمّا يَستَلزِم طَلَبَ الحَمد والمَجد، فَفِي ذَلِكَ إِشارَة إِلَى أَنَّهُما كالتَّعلِيلِ لِلمَطلُوبِ، أَو هُو كالتَّذيِيلِ لَهُ، والمَعنَى: إِنَّك فاعِل ما تَستَوجِب بِهِ الحَمد مِنَ النِّعَم المُتَرادِفَة، كَرِيم بِكَثرَةِ الإِحسان إِلَى جَمِيع عِبادك» ، واقتران الحميد مع المجيد بيان أن اللَّه محمود على مجده وعظمته وكمال صفاته، فليس كل ذي شرف محمود وكذلك ليس كل محمود يكون ذا شرف .
7- قوله: «
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد»: المراد بالبركة: هي الزيادة من الخير، والكرامة، وهي شاملة للبركة في العمل والبركة في الأثر المترتب على هذا العمل، قال القاضي عياض : «
معنى البركة هنا: الزيادة من الخير والكرامة والتكثير منهما، ويكون بمعنى الثبات على ذلك من قولهم: بركت الإبل، وتكون البركة هاهنا بمعنى: التطهير والتزكية من المعايب، ... نبينا صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسه وأهل بيته؛ ليتم النعمة عليهم والبركة كما أتمها على إبراهيم وآله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته ليثابوا على ذلك، وقيل: بل ليبقى له ذلك دائمًا إلى يوم الدين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله لإبراهيم» ، وقال الإمام ابن القيم : «
والبركة: النماء، والزيادة، والتبريك: الدعاء بذلك، ويقال: باركه اللَّه، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له... فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته، وثبوته له، ومضاعفته، وزيادته، هذا حقيقة البركة» .
8- قوله: «
كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد»: قال الإمام النووي : «
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْبَرَكَة هُنَا الزِّيَادَة مِنْ الْخَيْر وَالْكَرَامَة، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّطْهِير، وَالتَّزْكِيَة، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحِكْمَة فِي قَوْله: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم» مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَفْضَل مِنْ إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : أَظْهَر الْأَقْوَال أَنَّ نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَلِأَهْلِ بَيْته؛ لِيُتِمّ النِّعْمَة عَلَيْهِمْ، كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى إِبْرَاهِيم، وَعَلَى آلِهِ، وَقِيلَ: بَلْ سَأَلَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، وَقِيلَ: بَلْ لِيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيَجْعَل لَهُ بِهِ لِسَان صِدْق فِي الْآخِرِينَ، كَإِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنْ إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: سَأَلَ صَلَاة يَتَّخِذهُ بِهَا خَلِيلًا، كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيم ... وَالْمُخْتَار فِي ذَلِكَ أَحَد ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحَدهَا: ... أَنَّ مَعْنَاهُ صَــــــلِّ عَلَى مُحَمَّد، وَتَمَّ الْكَلَام هُنَا، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، أَيْ: وَصَلِّ عَلَى آل مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم، فَالْمَسْؤُول لَهُ مِثْل إِبْرَاهِيم وَآلِهِ، هُمْ آلُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لَا نَفْسه.
الْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: اِجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاة مِنْك، كَمَا جَعَلَتْهَا لِإِبْرَاهِيم وَآلِهِ، فَالْمَسْؤُول الْمُشَارَكَة فِي أَصْل الصَّلَاة لَا قَدْرهَ.
الْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَالْمُرَاد اِجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاة، بِمِقْدَارِ الصَّلَاة الَّتِي لِإِبْرَاهِيم وَآلِهِ، وَالْمَسْؤُول مُقَابَلَة الْجُمْلَة؛ فَإِنَّ الْمُخْتَار فِي الْآلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُمْ جَمِيع الْأَتْبَاع، وَيَدْخُل فِي آلِ إِبْرَاهِيم خَلَائِق لَا يُحْصُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاء، وَلَا يَدْخُل فِي آلِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نَبِيّ، فَطَلَب إِلْحَاق هَذِهِ الْجُمْلَة الَّتِي فِيهَا نَبِيّ وَاحِد بِتِلْكَ الْجُمْلَة الَّتِي فِيهَا خَلَائِق مِنْ الْأَنْبِيَاء، وَاَللَّه أَعْلَم» .
وذكر الإمام ابن القيم الأقوال في ذلك، ثم قال: «
وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم؛ فإذا طُلِب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، حصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له بذلك من المزيَّة ما لم يحصل لغيره.
وتقرير ذلك: أن يجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله، وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على: محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم، وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم، والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم، وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كل ما تقدمه.
وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم، كما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ سورة آل عمران، الآية: 33 ، قال ابن عباس رضي الله عنه: «محمد من آل إبراهيم» ، وهذا نص؛ فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آله، فدخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولى، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم متناولاً للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم.
ثم قد أمرنا اللَّه أن نصلي عليه، وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً، وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم.
وتقرير هذا أنه يكون قد صلى عليه خصوصاً، وطلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم، وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معهم، أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعاً، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المُشبَّه به، وله أوفر نصيب منه، صار له من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المُشبَّه به من الحصة التي لم تحصل لغيره.
فظهر بهذا من فضله، وشرفه على إبراهيم، وعلى كلٍّ من آله، وفيهم النبيون، ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل، وتابعة له، وهي من موجباته، ومقتضياته، فصلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنَّا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، اللَّهمّ صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل براهيم، إنك حميد مجيد» .
وقال العلامة ابن عثيمين : «
وقوله كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، الكاف هنا للتعليل، وهذا من باب التوسل بأفعال اللَّه السابقة إلى أفعاله اللاحقة، يعني كما مننت بالصلاة على إبراهيم وآله، فامنن بالصلاة على محمد وآله صلى الله عليه وسلم، فهي من باب التعليل، وليست من باب التشبيه، وبهذا يزول الإشكال الذي أورده بعض أهل العلم رحمهم اللَّه؛ حيث قالوا: كيف تلحق الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله، مع أن محمداً أشرف من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالجواب أن الكاف هنا ليست للتشبيه، ولكنها للتعليل، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد: حميد يعني محمود، مجيد يعني ممجد، والمجد هو: العظمة، والسلطان، والعزة، والقدرة، وما إلى ذلك، «اللهمّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد»، كذلك أيضا التبريك: تقول: اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، أي أنزل فيهم البركة، والبركة هي الخير الكثير الواسع الثابت، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وسلم، وهذه هي الصفة الفضلى، وإذا اقتصرت على قولك: اللهم صل على محمد، كما فعل العلماء في جميع مؤلفاتهم، إذا ذكروا الرسول لم يقولوا هذه الصلاة المطوَّلة؛ لأن هذه هي الكاملة، وأما أدنى مجزئ فأن تقول: اللهم صل على محمد» .
9- قوله: «
حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلهُ»: مَعْنَاهُ كَرِهْنَا سُؤَاله مَخَافَة مِنْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ سُؤَاله وَشَقَّ عَلَيْهِ .